للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آثار علمية أدبية

(حواء الجديدة أو إيفون مونار)
ألف نقولا أفندي الحداد قصةً صوَّر فيها كيف يغوي الرجل المرأة حتى ينتهك
عِرضها ثم يتركها فتقع في الشقاء، وتضطر إلى البغاء فيحتقرها الناس من دونه
وهم ظالمون وبالغ في لوم الناس على ذلك حتى عذر الفواجر أو كاد، ووعد بكتابة
القصص في المسائل الاجتماعية , وقد كتب إليَّ كتابًا أرسله مع نسخة من القصة
قبل نشرها يقول فيه: إنه يرغب الوقوف على رأي (علمائنا) في القصة
وتأثيرها فيهم فأجبته بالكتاب الآتي:
عزيزي الفاضل..
رغبت إليَّ أن أقرأ قصتك الجديدة (حواء الجديدة) وأكتب إليك برأيي فيها
وأثرها فيَّ بعد القراءة. أراك أحسنت في التصوير والتخييل. واعتصمت بحبوة
النزاهة والأدب في التعبير. وأراني استعبرت لغير ما عبارة في القصة، أما
الموضوع الاجتماعي الذي نفخت فيها من روحه فليس طريفًا عندي قرأت وسمعت
فيه شيئاً عن الإفرنج وفكرت فيه كثيراً ولعل ما قرأته لك فيه خير من قليل ما
علمته عنهم وأبشرك بمستقبل حسن في خدمة أدب النفس والاجتماع بما توجهت إليه
من وضع مثال لهذه القصة في غايتها دون خصوص موضوعها.
كل بغي شقية في هذه الحياة قبل الحياة الآخرة ولكن يعز أن يوجد في بلادنا
بغي لها من مكارم الأخلاق وشرف النفس وجودة الذهن بعض ما رويت عن
(إيفون مونار!) ويوشك أن يوجد لها ند في بلاد الإفرنج لمكان التربية الدينية
والأدبية عندهم كما وصفت من تربيتها فأكثرهن - إن لم نقل كلهن - قوارير أقذار،
وقرارات وقاحة وصغار، لا فائدة من تصغير جرائرهن، وعطف القلوب عليهن،
إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن، أقول هذا وأنا على تعجبي من فساد
فطرة من يستطيع الدنو منهن ممن يحزن لشقائهن ويصدق أن أكثرهن مكرهات
على الفجور كارهات للبغاء لو وجدن مخرجًا منه لهرعن إليه حتى إنه سبق لي
بحث مع بعض أهل الفضل في وجوب السعي لإنشاء ملجأ يؤوي من يريد التوبة
منهن ويغنيهن عن طلب الرزق بأعراضهن ولو وُجد من يسعى الآن في مثل هذا
لكان يكون للاعتذار عنهن والاستعطاف عليهن فائدة.
لك أن تصف من شقائهن بما شئت من إسهاب؛ لتنذر المعرَّضات لمثل فعلهن
أن يتدهورن في هاويتهن، ولك أن تصف من فساد الفاسقين وتشوه من سيرتهم بما
استطعت من إطناب، لتنفر عن مثل عملهم، وتحذر الفتاة الغر من تغريرهم،
فتكون على بصيرة من عاقبة فجورهم، وما يتوسلون به من بهتانهم وزورهم،
وليس لك في رأيي أن تجعل ما تكتب منظاراً يكبر مخازي الفساق من جهة ليصغر
فضائح الفواسق من الجهة الأخرى.
إذا انتقدت عليك تصغير فاحشة المسافحات في مقابلة تكبير فاحشة المسافحين
مرة فإنني أنتقد الاحتجاج على تصغيرها بشيوع الفاحشة في ربات البيوت ذوات
البعول سبعين مرة لأن ذنب المسافحات أشد ضرراً من ذنب ذوات الأخدان بل لأن
إظهار ذلك وبيان أن الناس يتسامحون مع ذوات الأخدان وهم يعلمون بخيانتهن
لأزواجهن يضر نشره في قصص يقرأها النساء من العذارى والأيامى، إذ لا
تتصور التي تلين للفاسق أن بذل عرضها يفضي إلى أن تكون بغيًّا مسافحة وإنما
يغلب على ظنها أنها تصادف زوجًا يستر فضيحتها بغفلته، أو قلة غيرته.
قرأت ما كتبت إيفون عن خداع ذلك الشرير لها وعن اجتهادها في استرداد
شرفها بالسيرة الحسنة وعن عجزها وإعواز ما تروم فتمنيت لو تقرأ ذلك العذارى
اللواتي أصبحن عرضةً لمثل ذلك البذل لأعراضهن بإطلاق أهليهن العنان لهن مع
كثرة ما يحاول الفساق من مخادعتهن، وقرأت ما كتبت أنت من شيوع الفاحشة في
ربات البيوت وإغضاء الناس عنهن فتمنيت لو لم تطلع عليه قارئة لا سيما إذا كانت
عذراءً.
هذا ما كان من أثر القصة في نفسي استحسان لما عدا الأمرين المنتقَدين من
ناحية ما تنظر من تأثيرهما وأرجو أن تتوخى فيما ستكتب الغاية والفائدة أكثر مما
تتوخى من حسن الوضع ولطف التعبير وقوة التأثير وأجدر بمن يعرض عمله لنقد
الرجال أن يبلغ منه غاية الكمال.
***
(التعليم والإرشاد)
كتاب جديد تأليف السيد محمد بدر الدين الحلبي. القسم الأول منه في التعليم
وفيه الكلام على العلوم والمؤلفات وبيان الجيد منها من غيره وشرح أسباب انحطاط
العلوم الشرعية وذكر الطرق النافعة في التعليم.
هذا ما كتب على ظهر الكتاب ونقول: أما المؤلف فهو من أذكياء المجاورين
في الأزهر وقد اشتغل بتصحيح كثير من الكتب التي طبعت حديثاً وفيها كثير من
مصنفات المصلح العظيم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه ووارث علومه ابن
القيم وبعض كتب الأدب النفيسة فاستفاد بذلك وبالأسفار وقراءة الصحف ما امتاز به
على كثير من أقرانه وحرك همته للبحث في الكتب النافعة والتعليم.
وأما الكتاب فقد عرف من اسمه وما كتب عليه من بيان موضوعه وهو من
أهم الموضوعات لهذه الأمة التي لا ترجى لها الحياة الطيبة إلا بإصلاح التعليم
والإرشاد , وقد أهدى المؤلف كتابه إلى الجرائد والمجلات فشكرًا له على عمله
وشكرًا له على هديته , ومن الشكر أن بادرنا إلى التنويه له قبل مطالعته كله وقدمناه
على مطبوعات كثيرة أهديت إلينا من قبل.
قرأنا من الكتاب جملاً متفرقةً من فصوله فعرفنا منه وأنكرنا، عرفنا منه
مسائل كثيرة جاء بعضها مؤيدًا لما ندعو إليه منذ أنشئ المنار كبيان سوء طريقة
التعليم في مثل الأزهر وما اختير لها من الكتب وأنكرنا منه مسائل كثيرة واختلافاً
كثيرًا منه ما هو من قبيل الرأي ومنه ما هو من قبيل الحكاية والنقل , وفائدته
الإجمالية تأييد ما كتب كثيرًا لزلزال الثقة بالكتب التي تدرس في المدارس الدينية
وبمدرسيها وهذا تمهيد للإصلاح سبق إليه كثيرون من المصلحين ومقلديهم.
وحسبنا هذا التنبيه على فائدته الآن ونرجئ بيان ما أنكرنا منه وما ننتقد به
عليه إلى أن يتاح لنا مطالعته كله بالتدقيق، وعسى أن يبادر بعض من اطلع عليه
من المدققين إلى انتقاده عنايةً بهذا الموضوع ومسابقةً للأغرار الذين يحكمون
على الأشياء بادي الرأي فيظلمونها ويظلمون الناس ويغشونهم وهم لا يشعرون.