للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


خاتمة كتاب أميل القرن التاسع عشر

من الدكتور وارنجتون إلى زوجته
عن لوندره في ١٥ مايو سنة -١٨٦
شهدت بالأمس أيتها الحبيبة العزيزة عيدًا أهليًّا أقامه الدكتور (أراسم) وزوجته
احتفالاً ببلوغ ولدهما الواحدة والعشرين من عمره وكان عددنا اثني عشر صديقًا.
كان العيد وليمة رجال زانتها المهابة والوقار ولم يمنع كونها كذلك من انتعاش جميع
قلوب المدعوين ابتهاجًا وسرورًا، وفي ختام المائدة ابتدأ رفع الأقداح لتعاطي الراح
على محبة (أميل) فقام (أراسم) واستأذن في أن يقرب نخب ولده، وما رأيته في
حياتي أفصح مقالاً منه حينئذ فقد أفاض في القول عن الفروض التي تجب على
الشاب في معيشته القومية وعن التربية ووجوب أن تكون عمل كل منا في جميع
حياته وعن الأزمان الحاضرة واقتضائها من المفكر الذي يستمسك بالآراء المؤسَّسة
على البحث والاختبار وأن يثبت عليها، وبالجملة فليس في وسعي أن أؤدي إليك
أثر هذا الخطاب الأبوي الذي كانت مزيته الكبرى أنه لم يكن كخطاب الخطباء.
وما فرغ منه حتى اتجهت جميع الأبصار نحو (أميل) وأنت قد استطعت منذ
عودته من إنكلترا أن تعرفي ما هو متحلٍّ به من ثبات الرأي وعلو الآداب وسعة
المعارف، فشكر لأصدقاء أبيه أن تفضلوا بإجابة الدعوة إلى هذا العيد البيتي الحقير
بعبارات تشف عن لطيف ذوقه ومزيد تواضعه، ثم ارتقى إلى الكلام عن بعض
المسائل العامة فبين الخطة التي يؤمل أن يسير عليها في الناس بألفاظ جلية مؤدية
تمام المعنى.
وقد أحس كل من سمع قوله بأن جميع ما فاه به عن فكره المستقل، ثم تعاقبت
الكؤوس وتوالت الأنخاب! ! وبينما كنا على أهبة القيام من المائدة التفت (أميل)
إلى والديه وآذنهما بأن لديه خبرًا يريد أن يُعْلمهما إياه وقد لونت جبينه حينئذ حمرة
الخجل مع أن ملامح وجهه كلها كانت تعرب عما فيه من ثبات الرجولية.
ما كان أشد دهشي ودهش الحاضرين إذ سمعناه يقول بصوت قوي على ما
فيه من الاحتشام أنه من الأمس متفق مع (دولوريس) على التزوج بها.
ثم أعقب هذا الإخبار أن انحنى أمام والديه قائلاً: هل لي أن أرجو منكما
استحسانكما لهذا الاختيار؟ !
هنالك غشيت وجنتي الفتاة السمراوين سحابة من حمرة الخجل وأغضت
عينيها فلألأت بين أهدابهما السوداء الطويلة عَبرات الفرح والهناء.
لم تجد السيدة (هيلانة) جوابًا لمسألة ابنها إلا إكبابها على عنقه تقبِّله وقد كادت
تختنق سرورًا واغتباطًا، وأما (أراسم) فإنه مع تأثره مثلها مما سمع من ولده كان
أملك منها لعواطفه. أجاب ولده بصوت ينبئ عن سكينته ووداعته فقال: إذا كنت
تحبها فهي ابنتي، ثم قبل هذه الفتاة الحسناء بصدر منشرح ونفس منبسطة.
في خلال هذا المنظر المؤثر طرق البريد باب الشارع طرقتين فاضطرب كل
مَن في البيت، وكان يحمل رسالةً كان يرى من غلافها أنها آتية من بلاد بعيدة،
كانت هذه الرسالة (لأميل) فاستأذن في فض ختامها؛ لأنه ما لبث أن عرف في
عنوانها خط (قوبيدون) وقرأها وكانت بالإنكليزية الركيكة -إنكليزية زنجي - فإذا
هي تتضمن تهنئةً من هذا الإفريقي البار (لأميل) بعيد ميلاده ورجاءه - كما هي
العادة - في عود كثير من أمثاله عليه بالغبطة والهناء وتشتمل فوق ذلك على خبر سار
وهو أن الزروع التي زرعت في أرض (لولا) قد نجحت بفضل حذقه وحذق
زوجته وأنها ربما كفلت لها صداقها عند الزواج.
إني على جذلي باغتباط أصدقائنا محزون لتفكري في مفارقتهم لنا؛ لأن هذه
الوليمة العيدية كانت وليمة وداعي أيضًا فهم راجعون إلى فرنسا حيث يدعوهم إليها
ما وقع فيها أخيرًا من الحوادث السياسية وحب مسقط رؤوسهم وإني مشيعهم بأحسن
آمالي لهم، لست أنسى كلمةً من كلمات (أراسم) الأخيرة التي فاه بها عند مصافحتنا
بصوت ملؤه الوقار والهيبة وهي قوله: على كل منا أن يسعى في جعل ولده رجلاً
حرًّا فإنَّا بذلك نجتثُّ جراثيم الشرور المحزنة للأمة اهـ.
فرغ من تعريب هذا الكتاب المفيد قبيل ظهر يوم الاثنين أول جُمَادى الثانية
من سنة ١٣٢٤ للهجرة النبوية الموافق للثالث والعشرين من شهر يوليه سنة ١٩٠٦
للميلاد المسيحي، وقد عزمت بحول الله على جمعه وطبعه كتابًا مستقلاًّ، أسأله
سبحانه التوفيق والهداية للرشد.
... ... ... ... ... ... المعرِّب
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز محمد
* * *
استدراك أو تصحيح
سقط من المكتوب العاشر الذي نشر في الجزء الماضي نبذة موضعها بين
السطر التاسع والعاشر من ص ٧١٦ وهذه هي بنصها:
إذ قال: لكن لن يعدم المغلوبون سلاحًا فالذي يبقى من السلاح في أيدي الأمم
المغلوبة هو الخطابة وبث الأفكار والمقاومة المعنوية، ولن تخضع الحكومة رعيتها
ما داموا لا يستكينون للخذلان، نعم إنها تستطيع في ليلة واحدة أن تسلب حقوقهم
وأموالهم وتعدم من يسخطونها منهم، وترهب أنذالهم، وتخدع جهالهم، ولكن
هيهات أن يكون هذا هو ظفرها النهائي بهم عنوة. لا تظفر بهم إلا متى أزهقت
روح الكرامة الإنسانية من نفوسهم.
الأمة الحرة - وهي أمة المستقبل - تزيد وتنمو في ظل حكومة الاستبداد،
وستنتصر إذا تقوت بما تكتبه من المعارف، وبما يوجد فيها من عواطف الإنصاف
التي تخلص إليها من البحث في حقائق الأمور، وبما تستفيده من القوى التي
يختلسها العلم من الطبيعة.
لا ريب في أنه ليس كل واحد من الناس مخلوقًا لأن يؤدي عملاً سياسيًّا فلا بد
فيه من ملكات وميل خاص، ولكن لكل إنسان بل عليه أن يرتأي لنفسه رأيًا في
مصالح عصره وبلاده، ولست ملزمًا بأن تأخذ بشيء من ماضيَّ ولا من آرائي؛
فكل جيل مستعد لأن يعمل عمله بنفسه وملزم بأن يسترشد فيه بما يستجدُّ من
حاجات أمته، وإنما عليك أن تعلم أنه لا يكفيك أن تطعن في الأوضاع القديمة لهدم
بنيانها، بل لابد أن يُثبت لك العلم كذبها أو عدمها وإذا أردت أن تظفر بخصمك.