للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدعوة إلى المدرسة الجامعة

هذا ما كتبته اللجنة التي كانت انعقدت في دار سعد باشا زغلول ونشر في
الجرائد وهو من إنشائه:
ظهر بمصر في هذه السنين الأخيرة حركة نحو التعليم تزداد كل يوم انتشارًا
في جميع طبقات الأمة، ورغم ما تبذله الحكومة من الجهد في توسيع التعليم فإنه
غير كافٍ للقيام بحاجات الأمة والزيادة المستمرة في ميزانية نظارة المعارف لا تفي
بمطالبها، ولذلك التجأت الحكومة لأن تحرك همم الأفراد وتهز من غيرتهم
لمساعدتها على نشر التعليم فنهضوا لمعاونتها وتسابقوا إلى الاكتتاب في إنشاء
المكاتب وأقبلوا على تأسيسها كل إقبال مع عدم تعودهم على القيام من أنفسهم بمثل
هذه الأعمال فإنه لا يمر يوم إلا وترى فيه إنشاء مكتب جديد في جهة من جهات
القطر، ولا يبعد أن نرى عما قليل أن هذا الغراس قد نما وأزهر فتجني أولادنا
ثماره ولكن من الأسف أن الحكومة والأفراد مع اعتنائهم كثيرًا بنشر التعليم
الابتدائي لم يتمكنوا من توجيه العناية للتعليم العالي بل أهملوه إهمالاً تامًّا، ولا نشك
في أنهم إنما اهتموا أول الأمر بما رأوا أن الحاجة شديدة إليه وأنهم لم يجدوا من
المال والزمان ما يساعدهم على الاشتغال بالتعليم العالي.
ولكن يسرنا أن نرى أن الأمة قد شعرت الآن بأن هناك نقصًا في التعليم يجب
عليها سده وتردد في خواطر كثير من أفرادها منذ عشر سنوات تقريبًا إنشاء جامعة
وأخذت هذه الفكرة مكانًا عظيمًا من اهتمامهم حتى شرعوا عدة مرات في تحقيقها
غير أنهم لم يوفَّقوا؛ لأن الفكرة لم تكن فيما يظهر ناضجة حتى تخرج من عالم
الأمل إلى عالم العمل.
في هذه السنة هبّ في الرأي العام تيار من نفسه لتحقيق هذه الأمنية؛ لأن
الأمة انتبهت بأن تفهم تمام الفهم أن طريقة التعليم فيها ناقصة ودائرته ضيقة تقف
وتنتهي بالطالب قبل بلوغ الغاية، وأن من وراء الحدود التي انحصر فيها معارف
سامية وحقائق عالية وقضايا جليلة ومشكلات غامضة تشتاق النفوس إلى حلها
واختراعات جديدة وتجارب بديعة واختبارات كثيرًا ما شغلت وتشغل عقول كبار
العلماء في أوربا ولا يصل إلينا منها إلا صداها الضعيف فمنها ما يختص بالوجود،
وما يتعلق بالهيئة الاجتماعية، وما يبحث فيه عن لغة الإنسان وعن الآداب والفلسفة
والشرائع والتربية وكل ما يهم ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله هو موضوع علوم
شتى لا يعرف واحد شيئًا منها ولا يهتم بما كمل منها ولا بما هو سائر نحو الكمال،
وأبلغ من ذلك أنه لا يوجد لدينا درس تعرف منه قيمة المؤلَّفات العربية في الآداب
والفلسفة والعلوم، ولا قيمة من اشتهروا من مؤلفيها عند الأوربيين الذين بحثوا
عنهم وعرفوهم فوفوهم حقهم من الإجلال والاحترام.
إن جميع الذين يشعرون منا بنقص تربيتهم العقلية يرون من الواجب أن
التعليم يجب أن يتقدم خطوةً في بلادنا نحو الأمام، وأن أمتنا لا يمكنها أن تُعد في
صف الأمم الراقية لمجرد أن يعرف أغلب أفرادها القراءة والكتابة، أو أن يتعلم
بعضهم شيئًا من الفنون والصناعات كالطب والهندسة والمحاماة، بل يلزم أكثر من
ذلك.
يلزم أن شبابنا الذين يجدون في أوقاتهم سعةً ومن نفوسهم استعدادًا يصعدون
بعقولهم ومداركهم إلى حيث ارتقى علماء تلك الأمم الذين ينشغلون آناء الليل
وأطراف النهار بالهدوء والسكينة؛ لاكتشاف الحقيقة ونصرتها في العالم.
هذا هو العمل الذي نريد أن نشرع فيه ونطلب المساعدة عليه من جميع سكان
القطر.
نحن نعلم أن عمل الحكومة وحده لا يفي بكل حاجاتنا وأنه مهما كان لديها من
الرغبة ومن القوة فلا تستغني عن مساعدة الأفراد لها، ولذلك نأمل أن يسمع نداءنا
كل ساكن في مصر مهما كان جنسه ودينه.
ربما اختلفت الأفهام في حقيقة المشروع الذي ندعو إليه ولذلك وجب علينا أن
نبين بالإجمال المقصود منه:
(أولاً) إن الجامعة التي نريد إنشاءها هي مدرسة علوم وآداب تفتح أبوابها
لكل طالب علم مهما كان جنسه ودينه.
(ثانيًا) ليس لهذه الجامعة صبغة سياسية ولا علاقة لها برجال السياسة ولا
المشتغلين بها فلا يدخل في إدارتها ولا في دروسها ما يمس بها على أي وجه كان.
(ثالثًا) إن اشتمال الجامعة على درجات التعليم الثلاث وهي: العالي
والتجهيزي والابتدائي - وإن كان من أقصى الرغبات التي يلزم بذل الجهد في
تحقيقها عاجلاً أو آجلاً ومن ضمن ما ترمي إليه غايتنا - متعذر الآن؛ لأنه يكون
مشروعًا جسيمًا جدًّا، وتنفيذه برمته دفعةً واحدةً يستدعي نفقات وعمالاً ونظامات لا
يتيسر الحصول عليها الآن، فلا بد من التدرج في تنفيذه والبدء فيه بما يمكن عمله
وتقديم ما الحاجة إليه أشد من غيره.
نرى أن التعليم الابتدائي والثانوي والفني موجود الآن في هذه البلاد بمقدار ما
يفي بحاجاتها على حسب الإمكان، ويظهر أنه يمكننا بدون أن نخشى ضررًا أن
نؤجل الاشتغال بهذه الأنواع الثلاثة من التعليم، وأن نوجه جميع مساعينا الآن إلى
تأسيس دروس عالية مما لا وجود له عندنا ولا يمكننا الاستغناء عنه.
دروس علمية وأدبية وفلسفية تنور عقول طلابها، وتربي ملكاتهم، وتهذب
عواطفهم، وتبلغ بهم مراتب الكمال في أنواع ما يتلقون منها.
دروس تؤخذ عن أساتذة يُنتخبون من رجال العلم هنا وفي أوربا تحت إدارة
لجنة علمية يرأسها رجل من أهل الفن ذو خبرة تامة بالتعليم، ولا حاجة للقول بأن
عدد هذه الدروس وموضوعاتها وأهميتها يتعلق بما يكون للجامعة من الإيراد.
(رابعًا) يلزم أن يكون للجامعة تلامذة خصوصيون وهم الذين يقيدون
أسماءهم في دفاترها ويلازمون تلقي الدروس فيها المدة التي تقرر لها، ويمتحنون
فيها ويحصلون على شهادتها، وتكون لهذه الشهادات قيمة أدبية مع الأمل أن
الحكومة تمنحها المزايا التي تراها جديرةً بها في المستقبل، ومع ذلك فإنه يباح لكل
راغب في التعليم من غير هؤلاء التلامذة أن يحضر دروسًا لها؛ ليفقه في العلم
وليقتبس منها ما يتمم به كماله العلمي.
(خامسًا) أن جمعية المكتتبين تنتخب لجنتين: إحداهما فنية لوضع نظام
الجامعة وما يتعلق بلوازم التعليم فيها، والأخرى لجمع الاكتتابات من المتبرعين،
هذا هو مشروع أول من اكتتبوا لتأسيس الجامعة المصرية التي اعتادت أن تقوم في
وجه كل مشروع فنقف به دون الغاية فنقول لهؤلاء: إننا سنسعى جهدنا لتحقيقه،
وإذا سعى كلٌّّّ سعينا فلا شك في نجاحه؛ لأنه لا معنى للنجاح في مثل هذه
المشروعات إلا أن يتحد الكل، ويعمل الكل، فكل يائس يدعو إلى الخيبة، وكل
آمل يدعو إلى النجاح على أننا إذا لم نتمكن من الوصول إلى تمام المطلوب فإننا
نرجو الله أن يوفق لإتمامه غيرنا ممن وهب لهم همةً أعلى وفكرًا أسمى وحزمًا
أقوى وأملاً أوسع.
وبعضهم - وهم الأكثر - يرون مشروعنا جزئيًّا ليس له من الأهمية ما كانوا
يرغبون فنقول لهؤلاء: إن نجاح كل عمل يتوقف على معرفة العامل مقدار قوته،
وإن التدرج في الأمور أقرب إلى النجاح فيها من الطفرة، والتأني في السير أضمن
للوصول إلى الغاية، ونجاحنا في هذا المشروع الجزئي يشجعنا على الاستزادة فيه
وتوسيع حالته، فإذا جاء اليوم الذي نشعر فيه بأن في قوتنا أن نوسع دائرة التعليم
وننفذ كل مشروعنا وضعنا أيدينا وسرنا جميعًا متكاتفين إلى تلك الغاية السامية ,
والله ولي التوفيق اهـ.
(المنار)
إن اللجنة التي اجتمعت لأول مرة في دار سعد باشا زغلول ونشرت هذه
الدعوة قد انتخبت أعضاء الدعوة، وجعلت سعدًا وكيل الرئيس الذي أرجئ انتخابه
ثم إن سعدًا عُين ناظرًا للمعارف العمومية فاضطر إلى الاستقالة من الوكالة؛ لأن ما
حدث له من الشغل الكثير يمنعه من القيام بكل ما تقتضيه، ولكنه لا يزال يساند
اللجنة وقد اختير قاسم بك أمين وكيلاً للجنة بعده وهو قريعه في الهمة والنشاط
ويرجى أن يكون الرئيس من الأمراء , وعلى الله المتكل في نجاح العمل.