للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة كتاب محاورات المصلح والمقلد

بسم الله الرحمن الرحيم
] فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [[١] .
اللهم اجعلنا من عبادك الهادين المهديين، واجعلنا من الأئمة الوارثين، الذين
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصل وسلم اللهم على سيدنا
محمد وآله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الله تعالى جلَّت حكمته، وعلت كلمته، ووسعت كل شيء رحمته - قد
أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الناس وإصلاح شأنهم في معاشهم، وإعدادهم
للسعادة في معادهم، وقد مضت سُنته في البشر أن يرتقي نوعهم بالتدريج كما
يرتقي أفرادهم من طفولية إلى تمييز إلى رشد وعقل. لذلك جعل خطاب الرسل لهم
في كل طور على حسب استعدادهم فخاطبهم طورًا بما يناسب مدركات الحس
وطورًا بما يناسب وجدان النفس، وحملهم أولاً على الطاعة بالقهر والإلزام وجذبهم
إليها ثانيًا بالإقناع، وضرب الأمثال، حتى إذا ما ارتقت عقولهم بتقلب الزمان
واستعدوا لتحكيم العقل في مدركات الحس والوجدان، بعث فيهم خاتم النبيين
والمرسلين، الذي جعل الفكر والنظر أساس الدين، نبي جاء بالبينات والهدى
وكتاب نهى عن التقليد واتباع الهوى، وعظّم شأن العقل وجعله هو المخاطَب بفهم
النقل، فامتاز دينه على سائر الأديان بأنه دين الحجة والبرهان الناعي على متبعي
الأوهام والظنون، بأنهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، بل وصفهم بمثل قوله: {صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (البقرة: ١٨) ، وقوله: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} (الفرقان: ٤٤) {بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: ١٧٩) .
كتاب احتج على صحة العقائد بآيات الله في الأنفس والآفاق، وبيّن فوائد ما
دعا إليه من العبادة ومكارم الأخلاق، وأشار إلى مصالح الناس فيما شرعه من
الأحكام والسنن، ونبه على مفاسد ما حرمه عليهم من المنكرات والفواحش ما ظهر
منها وما بطن، فهدى الناس بذلك وبدعوتهم إلى أن يكونوا على بصيرة في دينهم
وعلى بينة منه، وبجعله دين الفطرة وبنفي الحرج والإعنات عنهم فيه، وبجعله
يسرًا لا عسرًا، وبالاكتفاء منهم بما يستطيعون منه وبتقرير غناه سبحانه عن
العالمين، هداهم بذلك كله إلى أنه ينبغي لهم، بل يجب عليهم أن يفقهوا حكمة
جميع ما خوطبوا به ووجه كونه مصلحة لهم ووسيلة لسعادتهم وتركه مدرجة
لفسادهم وشِقوتهم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) ووصف من اتبعه بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ
يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًًا وَعُمْيَانًا} (الفرقان: ٧٣) .
إن دينًا هذا شأنه يعلو عن أن يكون مهبًّا للأهواء، أو مثارًا لاختلاف الآراء،
أو مجالاً لتحزب العلماء، أو آلة لسلطان الرؤساء، فهو الحنيفية السمحة ليلها
كنهارها كما ورد عمن جاء به صلى الله عليه وسلم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: ١٥٣) ، ثم قال في هذه السورة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا
لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام:
١٥٩) وقال في سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) ... الآية ثم قال بعد آية أخرى منها: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
١٠٥) ، وقال عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا
شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: ٣٠-٣٢) ، وثَمَّ آيات أخرى في
التنفير عن التفرق والخلاف.
ماذا كان من أمر الذين ينتسبون إلى هذا الدين؟ هل ظلوا على البصيرة في
دينهم أم تركوها إلى التقليد واتباع الآراء وخروا عليها صمًّا وعميانًا؟ هل استقاموا
على الصراط المستقيم سبيل الله أم اتبعوا السبل الكثيرة فتفرقت بهم عن سبيله؟
هل ظلوا أمة واحدة محافظة على أخوة الدين أم فرقوا دينهم وصاروا شيعًا كل شيعة
تعادي الأخرى لمخالفتها إياها في المذهب، ومباينتها فيما أحدثت من المشرب؟
إذا كان الخلاف طبيعيًّا في البشر، وكان أقوى سائق لهلاك الأمم إذا تمادت
شيع الأمة فيه ولم تعالجه بعلاجه، فلماذا لا يرجع المسلمون في كل خلاف يقع إلى
علاجه الذي بيَّنه الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩)
تمزق شمل المسلمين بتنازعهم السياسي الذي تبعه التنازع الديني فتفرقوا شيعًا
كل شيعة تنتحل مذهبًا تتخذه حجة لنفسها على سائر المسلمين، فكان ذلك حجابًا
دون رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بتحكيم الكتاب والسنة فيه؛ إذ جعلوا
مذاهبهم أصولاً يُرجِعون إليها آيات الكتاب وأخبار السنة بالتأويل وغير التأويل
(كدعوى النسخ) فعلوا ذلك لتقوية السياسة بالدين، فأضاعوا السياسة والدين،
وردوا الأمة أسفل سافلين، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
أما خسرانهم للدنيا بسوء السياسة فبما أضاعوا من سيادتهم وسلطانهم، فإن
معظم شعوبهم وبلادهم قد استولى عليها الأجانب، وما بقي منها في أيديهم قد
أوغلت السلطة الأجنبية في أحشائه، وهي تهدده بسلب دمائه، وأما خسرانهم
الآخرة فبما ابتدع جماهيرهم في الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين الأولين، وهي
سبيل الله التي من اتبعها كان على بصيرة من الله وبرهان، وما هي إلا هداية هذا
القرآن، الذي وصفهم بما لا ينطبق على جماهير المتأخرين المختلفين، ووعدهم
فآتاهم بطاعتهم ما سلبه من الخالفين المخالفين.
اقرأ في التاريخ حوادث الفتن بين أهل السنة والشيعة والخوارج، بل بين
المنتسبين إلى السُّنَّة بعضهم مع بعض، بين الأشاعرة والحنابلة، بين الحنفية
والشافعية، بين الشافعية والحنبلية ...
إنك إن تقرأ تجد الجواب عما سألتك عنه، ومن أغرب ما تجد أن العدوان
بين الشافعية والحنفية كان من أسباب حملة التتار على المسلمين وحمْلهم على تدمير
بلادهم، تلك الحملة التي كانت أول صدمة صدعت بناء قوة المسلمين صدعًا لم
يلتئم من بعده ويعُد كما كان، تلك الحملة التي يتأول بها بعض الناس خروج يأجوج
ومأجوج ويقول إنهم هم التتار.
ما لك ولمعرفة حال تفرق المسلمين من كتب التاريخ أو من كتب المذاهب،
أدرْ طرفك في بلادهم اليوم وانظر حال أهل هذه المذاهب على ضعف الدين في
نفوس الجماهير تجد بأسهم بينهم شديدًا، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، كما قال الله
تعالى في وصف من لا إيمان لهم ولا أيمان - إلا من حفظ الله من أفراد متفرقين
يتحملون الأذى في سبيل جمع الكلمة وإزالة الخلاف وإعادة الأخوة الدينية إلى ما
كانت عليه في أول نشأة الدين أو إلى قريب من ذلك. بل تجد الحنفي في كثير من
البلاد لا يصلي مع الشافعي، بل تجد من أسباب الخلاف والعداء الشديد كون
بعضهم يجهر بـ (آمين) وراء الإمام، وبعضهم لا يجهر بها أو لا يقولها،
وكون بعضهم يرفع أصبعه عند الاستثناء في شهادة التوحيد وبعضهم لا يرفعه. مثل
هذا الخلاف مما يُجعل في بعض بلاد الهند فارقًا بين الحق والباطل وبين الهدى
والضلال، ولا غرو فهم عيال على الكتب التي تبحث في كفر مَن قال: أنا
مؤمن إن شاء الله. كالسلفية والأشاعرة وتقول: يجوز نكاح بنت الشافعي قياسًا
على الذمية! {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: ٦٨) ألم يعدهم الله بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من
قبلهم، وأن يُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدل خوفهم بالأمن، وأن
لا يجعل للكافرين عليهم سبيلاً؟ بلى، ولن يخلف الله وعده وإنما هم المخلفون
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) .
نعم إنه لم يزل ولا يزال في هذه الأمة قوم ظاهرون على الحق كما ورد
الوعد في الحديث، ولكن هؤلاء لقِلَّتهم أمسوا غرباء كما جاء في حديث آخر، وأي
غربة أشد من غربة من يوصفون بالكفر والزندقة؛ لأنهم يقولون بوجوب اهتداء
المسلمين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ ! ألم يكن في بني
إسرائيل أمة يهدون بالحق وبه يعدلون؛ إذ وصفهم بما وصفهم به من الإعراض
عن كتابهم وتحريفه وإذ أحل بهم ما أحل من عذاب السبي والإذلال، وإزالة
الاستقلال؟ بلى ولكن كان هؤلاء المحقون قليلين، فليس لهم أمر يُطاع، ولا هدْي
يُتبع، فلا أثر لهم في الأمة، فكأنهم ليسوا منها.
أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر لم ينبغ فيها عالم إلا وكان في طور
كماله أو خاتمة أعماله يأمرها بالاهتداء بالقرآن واتباع سيرة السلف الصالح،
وناهيك بالإمامين الجليلين حجة الإسلام الغَزَّالي وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن كان
على شاكلتهما، ولكن السلطان كان مؤيدًا لعلماء الرسوم وأهل التقليد؛ لأنهم آلة
السياسة، وأعوان الرياسة فكان صوت المصلحين بينهم خافتًا، ومقامهم خافيًا،
حتى إذا اشتهر لهم كتاب أُحرق، كما أحرق كتاب إحياء علوم الدين، أو رفع
شجاع صوته بالدعوة ألقي في غيابة السجن كما فعلوا بشيخ الإسلام تقي الدين.
ثم اشتد ضغط السياسة في هذا القرن على أهل العلم والدين في كل بلاد
يحكمها المسلمون، فاستيقظ لشدة وطأتها أهل الاستعداد منهم وشعروا بشدة الحاجة
إلى الإصلاح قبل أن تجهز على الأمة السياسة الفاسدة، وطفقوا يتنسمون ريح
الحرية فوجدوها في مثل مصر والهند فأنشأوا يدعون إلى الإصلاح، والموفَّق -
إن شاء الله تعالى - من بدأ بالدعوة إلى الإصلاح الديني؛ إذ عليه يتوقف كل
إصلاح، وهو مفتاح النجاح والفلاح.
لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع بقاء التقليد،
فإغلاق باب التقليد الأعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كل إصلاح، وقد
كتبنا في مجلة (المنار) التي أنشأناها في مصر في أواخر سنة ١٣١٥ مقالات
كثيرة في بيان بطلان التقليد، منها ما هو من إنشائنا ومنها ما نقلناه عن الإمام
العلامة ابن قيم الجوزية، رحمه الله تعالى. من ذلك مقالات (محاورات
المصلح والمقلد) التي نشرناها في المجلد الثالث والمجلد الرابع من المجلة، وبينا
فيها طرق الاستدلال الصحيح، وبطلان التقليد، ووجوب البصيرة في الدين،
واتباع سبيل السلف الصالحين، وطريق الوحدة الإسلامية في المسائل الدينية
والسياسية والقضائية.
كان لهذه المقالات أثر حسن في نفوس أهل البصيرة والفهم حتى كان بعض
أساتذة المدارس يقرأ المقالة منها ست مرات، وقد اقترح علينا غير واحد من محبي
العلم والدين أن نطبع هذه المحاورات في كتاب مستقل، فأجبنا طلبهم وأضفنا إلى
المحاورات أسئلة في موضوعها وردت علينا من باريس مع أجوبة المنار عليها
زيادة في الفائدة فنسأل الله تعالى أن يجعلها خدمة نافعة للمستعدين، وعملاً خالصًا
لوجهه الكريم.
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحُسيني