للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة الدكتور ضياء الدين أحمد

قال بعد مقدمة في الشكر لأصدقائه الذين احتفوا به ولأصحاب الجرائد ما
ترجمته:
أيها السادة: لم تعد كلية عليكرة شيئًا غير معلوم في مصر. فأكتفي بأن
أقول: إنها الآن تتألف من ثلاثة أقسام: المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية
والمدرسة العالية. وبالمقارنة بمدارس مصر الابتدائية والثانوية يصح أن نعتد
مدارس مصر الابتدائية والثانوية كالمدرسة الابتدائية عندنا بقسميها الابتدائي
والراقي؛ لأن المدارس الثانوية للتعليم العام لا وجود لها في الحقيقة بمصر , والتي
يسمونها هنا المدارس العالية كمدرسة الطب والحقوق، تسمى في أوربا مدارس
ثانوية فنية , فمدرستنا العالية في الكلية لا يصح أن تقاس بها مدارسكم العالية هنا
وإن كانت المدرسة العالية في عليكرة لا تزال في طفوليتها، أو كأنها مدرسة ثانوية
راقية، ولا ننكر أن مدرستنا الكلية لم تخرج إلى الآن رجالاً من عظماء العلماء
الذين يكتشفون الاكتشافات المهمة في العلوم والفنون بيد أنها قد خرجت رجالاً ذوي
كرامة ونفوس عالية وإخلاص لبلادهم وملتهم.
يوجد في بلاد الهند أكثر من مائة مدرسة مثل كلية عليكرة لكن الذي يجعل
لكليتنا امتيازًا حقيقيًّا على غيرها أنها الشرقية الوحيدة التي يوجد فيها نظام خاص
بإقامة الطلبة فيها على الطريقة الإنكليزية، وأول ما يعلم الطلبة فيها حب الكلية
والعمل المستمر لترقيتها وإعلاء شأنها بكل ما في إمكانهم، ويتدرج من ذلك إلى
ترقية شعورهم في مبادئ الإخلاص والوطنية حتى إذا ما ظهر أن طالبًا ما يشتري
بمصلحة المدرسة مصلحة شخصية له حقره الطلبة كافةً، فإما أن يكفر عن ذنبه
بخدمة عامة وإما أن يبرحها غير مأسوف عليه. ويوجد في المدرسة مجتمعات عديدة
وأندية كثيرة للطلبة، والمبدأ الذي تسير عليه هذه المجتمعات والأندية هو المبدأ
الذي وضعه المستر بك رئيس المدرسة السابق في خطبة ألقاها عند تأسيس النادي
المسمى (يونيون كلوب) إذ قال:
(أيها الطلبة هذا البناء بناؤكم، وهذا النادي ناديكم، وهو جزء من أجزاء المدرسة
الكلية، وهو المكان الذي تكوّنون فيه رأيكم العام، وتغذون آراءكم، وتربون
أخلاقكم، وتعدون أنفسكم لإدارة الأعمال) .
أما نظام المدرسة العام فهو على الطريقة الإنكليزية حيث يتولى الطلبة
شؤونهم بأنفسهم في السير والإدارة , ومن حسن حظنا في عليكرة أننا لا نعرف،
ولا نتبع الطريقة الفرنسية في ضبط الطلبة ونظامهم بواسطة ضباط، فإنها طريقة
عقيمة، ولها مضار كثيرة ظاهرة في مصر، ومن أسرار نجاحنا أن نتمسك كثيرًا
بالتربية الدينية والتربية الوطنية. إذ يجبر الطلبة على تأدية الواجبات الدينية كلها
وينشطون على الاهتمام والاشتغال بأحوال المسلمين في أنحاء العالم كافةً.
أما المسائل السياسية فلا يمكن الاستغناء عنها، ولا منعها من الكلية إذ لابد
للشاب الطالب من أن يفكر، ومن الجنون أن يصد سيال الفكر بحواجز صناعية
لابد أن تهدم وتسقط في يوم من الأيام وينساب التيار في جهات عديدة، والذي نعمله
في الحقيقة هو أن نعد لذلك السيال طرقًا ومسالك يجري فيها.
والكلية الآن تتبع بروجرام التعليم في الحكومة، وتعد الطلبة لامتحان
المدارس الجامعة الكبرى. على أن الغاية من مبدأ الأمر أن تكون مدرسة عليكرة
جامعةً إسلاميةً مستقلةً , وقد قال المرحوم السيد أحمد خان منذ زمن طويل في
خطبة ألقاها: (إن نجاتنا لا تكون إلا في الوقت الذي يصبح فيه أمر تعليمنا بيدنا،
ولا تسترقنا مدارس الحكومة الجامعة , وحينئذ نأخذ العلوم بيميننا والفلسفة بشمالنا
ونحمل تاج: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فوق رؤوسنا.
وقال منذ اثني عشر عامًا أحد حكام الولايات الهندية وهو السير أنتي مكدونال
في خطبة ألقاها: (ليس من البعيد أن تنمو هذه الكلية فتصير مدرسةً كبرى،
وتكون قرطبة الشرق الحديث، وينتج الفكر الإسلامي من بين جدران هذه المدرسة
الرقي السياسي والديني الذي لا يؤمل الآن من الآستانة أو مكة نفسها) .
وقد أخذ المسلمون بعد وفاة المغفور له السيد أحمد خان يفكرون بمساعي
النواب محسن الملك في إنشاء جامعة إسلامية وجامعة للمسلمين , وثمت فرق بين
التعبيرين كما ظهر في جامعة أيرلندا الكاثوليكية حتى لقد كان البحث في جعل كلية
عليكرة مدرسةً جامعةً كبرى موضوع المناقشة والأخذ والرد في مؤتمر التربية
الإسلامي , وقد قال سمو أغا خان في ختام خطبة له بعد الكلام في أسباب انحطاط
المسلمين ما يأتي:
(إن كنا حقيقةً كما ندعي آسفين على انحطاط ملتنا وأمتنا فواجب أن نتحد
في نهضة واحدة لإصلاح هذه الحال، وفي مقدمة كل عمل يجب أن نبذل الجهد
لتكوين مدرسة جامعة يتعلم فيها المسلم زيادةً عن العلوم الحديثة تاريخ الإسلام
والمسلمين , وأن لمسلمي الهند حقًّا طبيعيًّا برقي وتقدم إخوانهم في مصر وفارس
وأفغانستان وغيرها بجعل عليكرة (أكسفورد إسلامية) يرد إليها أبناء المسلمين لا
لتعلم العلوم الحديثة فقط، بل لتربية أخلاقهم وتنمية صفات الإخلاص والمروءة
والإيثار على النفس وغير ذلك من الصفات التي نهضت بالمسلمين في عصورهم
الأولى، ولا ريب مطلقًا في أن مدرسة جامعة كبرى كهذه تعيد لنا مجدنا الذاهب،
أفلا يتحد المسلمون، ويجهدون أنفسهم في إنشاء مدرسة جامعة كهذه، فهل فقدوا
الشعور الشريف ومكارم الأخلاق التي كانت سببًا في نهضتهم الأولى حتى أصبحنا
غير قادرين على جمع شيء من المال لهذا العمل المجيد؟ !
وقد كان المستر موريس ناظرنا السابق وضع مشروعًا لنظام المدرسة الجامعة
المطلوبة، واقترح أن تكون فيها مدرسة كلية خاصة بالعلوم العربية.
إننا إذا تكلمنا أيها السادة عن مدرسة جامعة إسلامية فلا نريد مدرسة عالية
تلقى فيها العلوم التي يمكن تلقينها في مدارس ثانوية، وإنما نريد أن نضع أساس
مصدر فكر تنمو فيه الأرواح وتتربى الرجال وتسمو الأخلاق. نريد مكانًا يكون
مهبطًا للعلم ودارًا يلتئم بين جدرانها أرقى ما يكون من الفكر الإسلامي حتى تتشعب
من تلك الشمس أشعة العلم والعرفان في كل أرجاء العالم.
وإني أؤكد لكم أن إنشاء هذه المدرسة الجامعة لم يعد من قبيل الآمال؛ لأننا قد
ابتدأنا وخطونا خطوات في هذه السبيل إذ تم الاتفاق على تأسيس كلية عربية لا
يقصد منها أن يتعلم الطلبة فيها اللغة العربية لتأدية امتحان مخصوص، ولكن
الغرض منها أن يتلقى الطلبة تاريخ الإسلام بفحص وتدقيق للبحث في أسباب رقيه
وانحطاطه , وإننا نؤمل أن تُظهر هذه المدرسة الجواهر المختبئة في آداب اللغة
العربية وتنشر الكتب العديمة المثال بتفاسير وإيضاحات , وفي عزمنا أن نخصص
بعض الطلبة بهذه الكلية العربية ونجعل لهم مرتبات لكي يستريح بالهم من جهة
الحياة وليتفرغوا للدرس والبحث.
ونحن الآن أيضًا ننشئ في محاذاة تلك الكلية العربية كليةً أخرى للعلوم
الطبيعية، وغير خافٍ أن تعليم العلوم الطبيعية عمل كبير يحتاج إلى إنفاق مال وفير،
ولكن والحمد لله لدينا من المال والوسائل ما يكفي للبدء والشروع، وإذا ساعدنا
التوفيق نضم إلى هاتين المدرستين مدرسةً أخرى لعلمي الاقتصاد والتاريخ
السياسيَّيْن والعلوم السياسية كلها، وهكذا نستمر في إنشاء مدرسة بعد أخرى حتى لا
يكون ثمت علم من العلوم لا يتعلم في عليكرة , ولهذا نؤمل أن يؤم الطلاب المسلمون
من جميع أنحاء العالم عليكرة لتلقي العلوم فيها.
وقد طالما سألنا بعض الناس: لماذا يضيق بنا الفكر وحب الذات فننشئ
مدرسةً جامعةً إسلاميةً، ولا يكون سمو النفس ومكارم الأخلاق والتسامح في الدين
باعثًا على جعل جامعتنا عامةً مشتركةً؟ ! ونحن نقول: إننا لا نقصد منع غير
المسلمين من جامعتنا الإسلامية، فإن أبوابها مفتوحة كما هي الحال الآن في عليكرة
لغير المسلمين وكل محب للعلم بلا تمييز بين المختلفين في الجنس والدين، فيوجد
الآن طلبة وأساتذة من اليهود والمسيحيين والوثنيين، ولا نسعى مطلقًا في إخراجهم
منها ولا نسميها (جامعة إسلامية) إلا بالمعنى الذي تنسب إليه أكسفورد وكمبردج
إلى كنيسة إنكلترا الرسمية , وإني أورد لكم بعض الحجج التي نقيمها في هذا الصدد:
أولها: من المعترف به أن التربية الدينية جزء أساسي في التربية العمومية،
وفي جميع مدارس إنكلترا وألمانيا يعلم الدين إجباريًّا، ولابد في كل جامعة كبرى
من وجود مدرسة أو اثنتين للدين واللاهوت , أما المدارس الجامعة في الهند التي
هي تابعة للحكومة فلا أثر للدين فيها , وقد لفت اللورد كرزون حاكم الهند العام
السابق نظر الرأي العام إلى هذه النقطة، وعدَّها نقصًا في نظام التعليم الهندي ,
ولست أدري إلى أي حد من الحكمة يصح اتباع طريقة كهذه في مثل هذه البلاد على
حين أننا نتألم الآن من نتائجها؟ !
ثانيها: قد أصبح من المقرر أن أفيد نظامًا للتعليم هو نظام معيشة الطلبة في
المدرسة كما هو المتبع في إنكلترا وفي عليكرة، وإنني لا أخشى معارضةً إذا قلت
صراحةً: إن ذلك النظام لا يصلح مع إهمال الدين.
ثالثها: أشك كثيرًا في إمكان جمع المال لإنشاء مدرسة جامعة لا دين لها،
اللهم إلا إذا قامت الحكومة بإنشائها، وأذكر أن السير ميخائيل هيكس بيتش وزير
مالية إنكلترا أخيرًا قد ألقى علينا في خطبة له ما يأتي:
(قد دلت التجارب أنه لا توجد وسيلة لحمل الناس على دفع المال بسخاء
لمشروع من الأعمال أحسن من صبْغه بصبغة دينية) .
رابعها: أن المدرسة الجامعة ليست معملاً (فاوريقة) لصناعة طلبة ينجحون
في امتحانات مخصوصة ويأخذون شهادات عالية، ولكن المدرسة الجامعية يراد
منها أن تخرج رجالاً كبارًا ورجالاً ينقطعون للعلم والدراسة والبحث , ولا يمكن
لمدرسة جامعة لا دين لها أن يدوس الإنسان على الفوائد المادية وينقطع للعلم
وللتعليم وبالعكس قد دلت التجارب على أنه يوجد في المدارس التي لها دين من
ينقطع للعلم والتعليم.
ولست الآن أريد الخوض في مشروع الجامعة في مصر فأنتم أدرى بدائكم
ودوائكم أكثر مني ولكني أريد بالنيابة عن رؤساء كلية عليكرة أن أدعوكم إلى الهند
لتنظروا بأعينكم تفاصيل العمل قبل أن تبدأوا في مصر، وقد يوجد خلاف بشأن
المدرسة الجامعة ونوعها، ولكني أعتقد أن كل ذي ذمة يتفق معي في الحاجة إلى
مدرسة ثانوية للفقراء , ومدارسكم التجهيزية الأربع لا تكفي لتربية الأمة كلها ولو
وجد من يتبرع بالمال لتربية أبناء الفقراء فيها.
ليس من الغريب أن المسلمين الذين يكوّنون هنا خمسةً وتسعين في المئة من
مجموع الأمة من الهمة والنشاط على ما يؤهلهم لإنشاء مدرسة ثانوية واحدة في حين
أنه يوجد في مصر ست مدارس ثانوية أهلية ليست منها واحدة للذين يتألف منهم
خمسة وتسعون في المائة من مجموع الأمة!
يوجد هنا اعتقاد فاسد وهو أنه يلزم أن يكون المعلمون في المدارس الثانوية
أوربيين , ومما يمنع الناس أن يفتحوا مدارس ثانوية الخوف من كثرة النفقات ومن
أسباب أخرى، وإنني موقن بأنه إذا وجد أساتذة مصريون للمدارس الثانوية فإن
عدد المدارس الأهلية يزداد، وإذا كان الهنود يُعلِّمون في مدارس أرقى كثيرًا من
مدارسكم الثانوية إخوانهم الهنود باللغة الإنكليزية، فلماذا لا يقدر المصريون على
تعليم إخوانهم كذلك؟ فلهذا أرى أن أول واجب على قادة الأفكار هنا أن يسعوا في
تربية معلمين , هذا عمل سهل لا يقتضي نفقات كثيرة ويمكن تنفيذه في الزمن
القريب، وإني أنصح بتخصيص مبلغ لتربية وتعليم أبناء الفقراء في مدارس
الحكومة الثانوية، ويلزم في مقدمة كل شيء أن يتلقى المعلمون علومهم في مدارس
أرقى منها حتى صار من اللازم أن يكون ذلك في أوربا!
وإذا كانت الحالة المالية لا تسمح بإرسال الطلبة إلى أوربا فهناك طريقة
أخرى لتعليمهم في كلية عليكرة، فإن نفقات التعليم فيها مع الإقامة والسكنى وكل ما
يلزم للطالب - لا تزيد على ثلاثة عشر جنيهًا في السنة، ولهذا أرى أن عشرين
جنيهًا تكفي الطالب في السنة من كل الوجوه، ويا ليتكم تجمعون مبلغ قدر مئتين
وخمسين جنيهًا يعطى منه عشرون جنيهًا في السنة لطالب فقير، ويرسل ستة من
هؤلاء إلى عليكرة ليقيموا أربع سنين أو أكثر إذا أراد الطالب , ولا أقصد أن أقول:
إن التعليم في عليكرة أرقى منه في أوربا، ولكني أفضله لسببين:
أحدهما أن الطالب يتلقى تربيةً دينيةً مع تلقي العلوم والمعارف في جو
إسلامي، ويجتمع بالمسلمين من بلاد العجم وأفغانستان وإفريقية الجنوبية وجميع
أجزاء الممالك الهندية. وباجتماعه بهم وأحاديثه معهم تتسع دائرة فكره وتزداد
معارفه.
وثانيهما: أن الطالب فيها يتلقى تربيةً وطنيةً، ولا يتعود معيشة السرف كما
يفعل المتعلمون في أوربا , وإنني في موقفي هذا أنظر إلى كل شيء من الوجهة
التي تهم عليكرة وترقيتها كما سبقت لي الإشارة؛ لأنني أعتقد اعتقادًا ثابتًا بأن وجود
المصريين في عليكرة يكون خطوةً كبرى في طريق جعلها جامعةً لمسلمي الشرق
كافةًَ، وقد أشار المستر أرشبيلد مدير الكلية في تقريره الأخير إلى هذه النقطة أيضًا،
وقال: إن وجود الطلبة المصريين في عليكره يساعد على توسيع فكر الطلبة الهنود.
والآن أستسمحكم في الكلام على بعض المصاعب التي نجدها، والتي آمل أن
إخواننا المصريين يساعدوننا على تخطيها. علمتم أن التعليم الديني إجباري عندنا
في عليكرة ولكن لسوء الحظ ليست لدينا الكتب الموافقة، وطالما اجتهدنا في دعوة
الناس إلى مجتمعات وحفلات لنحملهم على وضع كتب سهلة لتعليم العلوم الدينية؛
لأن الكتب الموجودة الآن هي التي كانت موجودةً من قرون عديدة ماضية , ولقد
تقضي علينا صروف الزمان والمكان أن نغير بروجرام التعليم في عليكرة فإنه يتعلم
عندنا طلبة من مذاهب شتى، ومنهم كثيرون من الشيعة ولذلك يلزمنا أن نضع كتبًا
للتعليم الديني لا ارتباط لها بمذهب من المذاهب، ولكنها قائمةً على أصول الدين
الإسلامي.
ومصر الآن بلا شك لها الزعامة في المسائل الدينية وكنا نفخر لوجود كثيرين
فيها من العلماء الأَكْفَاء الذين يعتمد على آرائهم، بل وتتخذ حجةً في المسائل الدينية
فإذا أمكن أن يؤلف مؤتمر لإصلاح الكتب الدينية اللازمة لتعليم الناشئة الحديثة فلابد
أن تكون مصر موضع اجتماع هذا المؤتمر؛ لأن مصر الآن مركز ديني وجغرافي
عظيم، ونحن في الهند مستعدون بلا شك لعقد مثل هذا المؤتمر وإن كان يوجد
عندنا الآن في الهند جمعية من المشايخ تأسست لإصلاح الكتب الدينية في المدارس،
ولكنها لعدم وجود رجال ممن يعدون حجةً وثقةً في المسائل الدينية لم يعمل فيها
عمل مفيد، وقد أنشأت هذه الجمعية مدرسةً ليحتذى حذوها، ولكنها لم تضع
بروجرامًا صالحًا ولا كتبًا وافيةً بالغرض.
أيها السادة:
العلاقات بين مصر وعليكرة تزداد يومًا بعد يوم، وسيكون عندنا معلمون
مصريون، ونود أن نبعث بعض الطلبة الناجحين المتقدمين لإكمال علومهم الدينية
في الأزهر , وفي إمكانكم أن تبعثوا بعضًا من أبنائكم لتلقي العلوم عندنا , وقد رأيت
أن الناس هنا يهتمون بتقدم مدرستنا وسيرها، ويسألون عما نفعله نحن الهنود
المسلمين لإصلاح التربية والتعليم، ولهذا أرى أنه يحسن تأليف جمعية مصرية لها
ارتباط بكلية عليكرة، وتساعد على نشر ما يعلم عنها بين المصريين وتساعدنا مثلاً
في اختيار معلم اللغة العربية عندنا، وإذا تأسست جمعية على هذ النمط فتكون
وظيفتها:
(١) طبع ونشر الخطب والرسائل الخاصة بكلية عليكرة ومؤتمر التربية
الإسلامي.
(٢) إعطاء المعلومات الضرورية عن الكلية لمن يطلبها من المصريين.
(٣) مراقبة تعليم الطلبة المصريين في عليكرة وضبط حسابات المبلغ الذي
يعد لهم كما ذكرنا.
(٤) إعطاء النصائح والإرشادات والمساعدات اللازمة إذا احتيج إليها فمثلاً
إذا احتجنا لاختيار معلم من مصر فأنتم بالطبع أدرى بكفاءته أكثر من نواب محسن
الملك أو سواه من الرؤساء، وأظن أنهم سيشتغلون بوضع نماذج لسير المدارس
الإسلامية في الهند وبالطبع يرسلون إليكم تلك النماذج لأخذ آرائكم فيها، وكذلك
تعليم البنات عندنا لابد أن نحتذي فيه المدارس المصرية؛ لأن الهنود لا يحبون أن
يقلدوا الأوربيين في ذلك.
وفي الختام أيها السادة: أشكر لكم تعطفاتكم ووداعكم إياي وأؤكد لكم أنني
سأكون معكم على الدوام بوجداني وعواطفي، وسأتذكر ما حييت بمزيد الشرف
والفخار أصدقائي الكثيرين الذين كان من حسن حظي أن ألتقي وأتعرف بهم اهـ.
فوائد هذه الخطبة والعبر فيها
هذه الخطبة تنبئ عن فهم ثاقب ورأي صائب، وتهدي إلى طريق لاحب ولعمل
واجب، وفيها عبر لطلاب الإصلاح من المسلمين، وأن أولاهم بها عقلاء
المصريين، الذين خطب الخطيب ودهم، وطلب وصل حبل مدرسة عليكرة بحبلهم،
وأعظم هذه العبر عندي أربع:
(١) تفكر زعماء مسلمي الهند وأصحاب العقول الراقية منهم في وجوب
العمل لإصلاح المسلمين كافةً، ودعوتهم إلى السعي في إنشاء مدرسة جامعة
إسلامية تكفل ذلك، ولم أرَ أحدًا في مصر يفكر في مثل ذلك أو يدعو إليه إلا ما
كان من الأستاذ الإمام - رضى الله تعالى عنه - فلنا أن نقول بعده: إن عقلاء
مسلمي الهند أرقى من عقلائنا وأعلى همة.
(٢) توحيد التعليم الديني والتربية الدينية في مدرسة عليكرة، وهو أعظم
أركان الإصلاح الذي لا يرجى للمسلمين فلاح بدونه، ولم نعلم قبل أن أعلمنا
ضياء الدين أن مدرسة عليكرة تقيم هذا الركن العظيم فيها، فينشأ السنيون على
اختلاف مذاهبهم مع الشيعة تنشئةً واحدةً روحها الأخوة الإسلامية النافية للتفرق
والخلاف.
وهذا دليل آخر على سبق مسلمي الهند لمسلمي مصر وكونهم أكبر همة
وإقدامًا، وقد كنا دعونا إلى مثل هذا التوحيد منذ بضع سنين، وناهيك بمقالات
(محاورات المصلح والمقلد) ، ولكن لم نر أحدًا اهتم بتنفيذه، بل عادانا وآذانا
كثير من الناس زاعمين أن ما دعونا إليه ضار مضيع للإسلام، وهو جعل القرآن
والمجمع عليه من السنة هو الذي يلقن لجميع المسلمين؛ ليكونوا أمةً واحدةً كما
يحب الله، وجعل المسائل غير المجمع عليها في الإسلام متروكةً إلى اجتهاد الأفراد
لا تدخل في التعليم العام، ولا يمنع أحد من النظر فيها والعمل بما شاء منها أو
تركه، ولا يُعادَى لذلك , وما شرع الله لنا إلا أن نقيم الدين ولا نتفرق فيه وهل من
سبيل إلى إقامة بدون تفرق إلا ما دعونا إليه؟ نعم قد استحسن ما كتبناه كثير من
العقلاء والأذكياء، ولكن لم ينصروه ولم يدعوا إليه بالقول ولا بالكتابة في الجرائد ,
ومسلمو الهند قد سبقونا إلى العمل الذي كان الأستاذ الإمام عازمًا على جعله أساسًا
للمدرسة الكلية التي توجه إلى تأسيسها , ومن علم أن التعصب للمذاهب في الهند
أشد منه في مصر، وأن الحرية في مصر أقوى منها في الهند تجلى له أن الفرق
بيننا وبينهم في الرجال العاملين فقط، وإلا فإن استعداد الشعب هنا للإصلاح أقوى
منه هناك فعامتنا خير من عامتهم، وخاصتهم خير من خاصتنا فيما أعتقد.
(٣) اعتقاد الدكتور ضياء الدين التابع لاعتقاد قومه أن مصر أرقى من
الهند في العلوم الدينية. ولو كان في مصر زعماء من رجال الدين يقدرون هذا
الاعتقاد من مسلمي الهند وغيرهم حق قدره لحققوه إن لم يكن متحققًا وعرفوا كيف
يستفيدون منه، ويفيدون به. أما السبب في هذا الاعتقاد فهو عند عامة شعوب
المسلمين صيت الأزهر القديم، وقد عرف الكثيرون من خواصهم وعقلائهم في هذه
الأيام حقيقة الأزهر، وإنما كانت آمال مثل زعيم مسلمي الهند ورئيسهم في كلية
عليكرة (النواب محسن الملك) معلقة بما كان يحاول الأستاذ الإمام من إصلاحه.
فلما حملت المشاغبات والدسائس المرحوم على تركه صرَّح محسن الملك بانقطاع
رجائه ورجاء عقلاء المسلمين من الأزهر في مقالة نشرها في جريدة الرياض
الهندية، وناهيك بما كتبه يومئذ للمنار، وما العهد بمقالته الأخيرة في المنار ببعيد ,
وكان الدكتور ضياء الدين عندما وقع هذا اليأس من الأزهر في نفوس زعماء قومه
ومدرسته في مدارس أوربا حاملاً لأملهم الأول الذي باح به في خطبته هذه.
علماء الهند أكثر اعتناءً بالتفسير والحديث من مسلمي مصر، وفيهم كثيرون
من السلفيين الذين يعملون بالكتاب والسنة لا يقلدون مذهبًا من المذاهب، ولا نعرف
أحدًا من علماء الأزهر ارتقى إلى هذا، فإن كان فهو مستخفٍ لا يرجى منه شيء ,
وكذلك العلوم العقلية أرقى في الهند منها في مصر وأعني بها الكلام والأصول
والمنطق والفلسفة النظرية , وأما مدرسة دار العلوم فالعلوم الدينية فيها رسمية لا
عناية فيها لا سيما التوحيد والتفسير والحديث، وهي هي الدين كله. نعم يوجد
أفراد من المتخرجين فيها يرجى خيرهم إذا وجدت الدواعي إلى العمل، وهؤلاء هم
الذين اقتبسوا شيئًا من النور الذي كان يفيضه الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى
وأدركوا قبله الشيخ حسن الطويل رحمه الله تعالى، وهو لم يكن مقلدًا ولكن لم
يعرف أحد منهم في قطر من أقطار المسلمين فيقال إنهم محل الرجاء؛ لأنهم لم
يعملوا، ولم يكتبوا شيئًا في الإصلاح يعرف.
(٤) إن موقع مصر وصيتها ولسانها العربي وما أوتيته من الحرية مزايا
يمكن أن تكون بها قبلة العلم والنور لجميع المسلمين، ويا أسفي وحزني على
الزعيم الذي يسعى في تحقيق هذه الأمانة لها، إنه لم يترك خلفًا يتم ما بدأ به , وقد
كان أقرب الناس إليه في أفكاره ومقاصده شرعوا في الاستعداد لإنشاء المدرسة التي
كان يريد إنشاءها بعد ترك الأزهر فجأةً دعاة الجامعة المصرية يسابقونهم إلى ما هم
أنهض به، فاستمالوا بعضهم وسكت الآخرون لئلا يكونوا معارضين لمن بدأوا
بالعمل قبل أن يعدوا لهم ما كانوا هم يحاولون أن يعدوا له.
سار الداعون إلى (الجامعة المصرية) يمشون الخوزلى ويرى الكثيرون أنهم
لو دعوا إلى جامعة إسلامية لكانوا أسرع في السير وأقرب إلى النجاح على قاعدة
الحاكم الإنكليزي الذي نقل إلينا ضياء الدين قوله , ولكن كثيرًا من أذكياء
المتفرنجين قد شغل خيالهم بوطنية غريبة لا يعرفون كنه استعداد المسلمين لها أو
عدمه، ولم يحيطوا علمًا بما يترتب على نقلهم عن الجنسية الدينية إليها من المفاسد
التي تكون بانتقال الأمم من طور إلى آخر فيعدوا لدرء هذه المفاسد عدتها , فهؤلاء
هم الذين اقترحوا أن لا يكون في الجامعة التي يدعون إليها تعليم لدين من الأديان
مخالفين في ذلك لقوانين جميع الأمم الراقية في فن التربية والتعليم والعمل به ,
ويظهر لنا أن الله تعالى قد عافى الهند من هذه النزعة.
لا نريد بهذا تثبيط الهمم وترغيب المسلمين عند تعضيد الجامعة المصرية
وبذل المال لها؛ إذ لسنا نرى من خدمة الدين مجافاة العلم بل ندعو الأغنياء إلى
البذل لهذه الجامعة سرًّا وجهرًا، ونرى أن الخذلان فيها (لا قدر الله) عار على
الأمة كلها، وأن ما يريده الداعون إلى الجامعة من التعليم العالي وحده لابد منه ولا
مندوحة عنه لأمة تطلب الارتقاء، ونقول مع ذلك: إن هذه الجامعة لا تغني مصر
عن مدرسة أخرى جامعة يربى فيها الناشئون تربيةً دينيةً من أول النشأة إلى أن
يصيروا رجالاً نابغين في علوم العصر كلها، وإذا عظم الاكتتاب يمكن أن ينشأ في
الجامعة تعليم ابتدائي وثانوي مع تربية دينية لا سيما إذا طلب أكثر المكتتبين ذلك.
وسنعود إلى بيان ذلك بالتفصيل فيما سنكتبه عن التعليم الديني وفاءً بما وعدنا
في الجزء الماضي والله الموفق.