للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آثار علمية أدبية

(مَن حرَّم الخمر على نفسه في الجاهلية)
إذا سلمت الفطرة وكرمت النشأة فقد يبلغ المرء من مراتب الفضيلة - مع فقد
الأخذ بالتعليم والقيام بالتأديب - ما لا يبلغه مع وجْدهما وقد ثلمت فطرته، وخبثت
نشأته، لذلك تجد في سيرة أبناء الجاهلية من الفضائل الاختيارية ما يعز مثله على
قوم يرون أن لهم في العلوم الجواد المصلى، وأنهم نالوا من التربية القدح المعلى،
وإنما هم عبيد الشهوة، وأسرى اللذة، يعاقرون الخمر جهرًا وهم يعتقدون أنها
محرمة في الدين الذي ينتسبون إليه، وضارة في حكم الطب الذي يعولون عليه،
وقد كان يوجد في الجاهلية من حرمها على نفسه وهو لا يرى فيها إثمًا في حكم
الدين، ولا ذمًّا من المعاشرين، وإنما هو العقل أراد حقيقة خبثها فأبى أن يحكم لذته
في عقله.
قال أبو علي القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا السكن بن
سعيد عن محمد بن عباس والعباس بن هشام قالا: حرم رجالٌ الخمرَ في الجاهلية
تكرمًا وصيانةً لأنفسهم منهم عامر بن الظرب بن عمر بن عباد بن يشكر بن بكر
ابن عدوان بن عمر بن قيس بن غيلان وقال في ذلك:
سئَّالة للفتى ما ليس في يده ... ذاهبة بعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي [١]
مورثة القوم أضغانًا بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي
وحرم قيس بن عاصم الخمر وقال في ذلك:
لعمرك إن الخمر ما دمت شاربًا ... لسالبة مالي ومذهبة عقلي
وتاركتي من الضعاف قواهم ... ومورثتي حرب الصديق بلا نبل
(قال) : وحرم صفوان بن أمية بن محرث الكناني الخمر في الجاهلية وقال
في ذلك:
رأيت الخمر صالحةً وفيها ... مناقب تفسد الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفي بها أبدًا سقيما
(قال) : وحرم عفيف بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس الخمر وقال:
وقائلة هلم إلى التصابي ... فقلت عففت عما تعلمينا
وودعت القداح وقد أراني ... بها في الدهر مشعوفًا رهينا [٢]
وحرمت الخمور عليَّ حتى ... أكون بقعر ملحود دفينا
وقال عفيف بن معد يكرب أيضًا:
فلا والله لا ألفى وشَربًا ... أنازعهم شرابًا ما حييت
أبى لي ذاك آباء كرام ... وأخوال بعزهم ربيت
(قال) : وحرم سويد بن عدي بن عمر بن سلسلة الطائي ثم المعنيّ الخمر،
وأدرك الإسلام فقال:
تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي منادي الصبح قاما
كتاب الله ليس له شريك ... وودعت المدامة والندامى
وحرمت الخمور وقد أراني ... بها سدكًا وإن كانت حراما
أقول: ويالله لسلالة هذا الشعر وكم في الأمالي من مثله وما هو أرق منه.
***
(رقة أشعار العرب)
قال أبو علي (ص٢٩) : وحدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال: سألت
عبد الرحمن يومًا فقلت له: إن رأيت أن تنشدني من أرق ما سمعت من عمك من
أشعار العرب فضحك وقال: والله لقد سألت عمي عن ذلك فقال: يا بني وما تصنع
برقيق أشعارهم فوالله إنه ليقرح القلوب ويحث على الصبابة، ثم أنشدني للعلاء بن
حذيفة الغنوي:
يقولون مَن هذا الغريب بأرضنا ... أما والهدايا إنني لغريب
غريب دعاه الشوق واقتاده الهوى ... كما قيد عود بالزمام أديب
وماذا عليكم إن أطاف بأرضكم ... مطالب دين أو نفته حروب
أمشي بأعطان المياه وأبتغي ... قلائص منها صعبة وركوب
فقلت: أريد أحسن من هذا، فأنشدني:
لعمري لئن كنتم على النأي والقلا ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق
فما ذقت طعم النوم منذ هجرتكم ... ولا ساغ لي بين الجوانح ريق
إذا زفرات الحب صعَّدن في الحشا ... كررن فلم يعلم لهن طريق
(ثم قال أبو علي) : وأنشدنا أبو بكر رحمه الله قال: أنشدني عبد الرحمن
عن عمه قال: أنشدتني عشرقة المحاربية وهي عجوز حيزبون زَولة:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى ... ففُقتهم سبقًا وجئت على رسلي
فما لبِس العشاق من حلل الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلي
ولا شربوا كأسًا من الحب مُرَّةً ... ولا حلوة إلا شرابهم فضلي
قال أبو بكر: الحيزبون: التي فيها بقية من الشباب، والزولة: الظريفة،
والزول: الظريف، وقوم أزوال، والزول أيضًا: الداهية، والزول: العجب،
وقال لي غير أبي بكر: الحيزبون: العجوز ولم يحدد لها وقتًا , ثم أنشد في مكان
آخر لابن أبي مرة الملكي:
إن وصفوني فناحل الجسد ... أو فتشوني فأبيض الكبد
أضعف وجدي وزاد في سقمي ... أنا لست أشكو الهوى إلى أحد
آه من الحب آه من كمدي ... إن لم أمت في غد فبعد غد
جعلت كفي على فؤادي من ... حر الهوى وانطويت فوق يدي
كأن قلبي إذا ذكرتكم ... فريسة بين ساعدي أسد
يدي بحبل الهوى معلقة ... فإن قطعت الهوى قطعت يدي
وأنشد لأبي بكر بن الأنباري عن المظفر:
هل من جوى الفرقة من واق ... أم هل لداء الحب من راق
أم من يداوي زفرات الهوى ... إذ جلن في مهجة مشتاق
يا كبدا أفنى الهوى جلها ... من بعد تلذيع وإحراق
حتى إذا نفَّسها ساعةً ... كرت يد البين على الباقي
(المنار)
القارئ يرى في هذه المقاطيع أرق الشعر وألطفه مسلكًا في الروح وأشده جذبًا
للقلوب.