للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة السنة العاشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه، وعلى
آله وصحبه، وأهل وداده وقربه، وعلى كل عبد مصطفى من جميع الورى، أما
بعد: فإن المنار قد دخل بهذا الجزء في سنته العاشرة، فقطع مرحلة الأعداد المفردة،
ووقف بباب الأعداد المركبة، فكان نموه، وثباته، وتغذيه بما يحفظ عليه حياته،
وقوته على دفع عوارض العلل التي تواثبه، ومقاواته لما يناهضه ويناصبه؛ آيات
بينات على أنه كائن حي، يرجى أن يبلغ منتهى العمر الطبيعي، الذي يكون لمثله
بالاستعداد الموهوب والمكسوب، وتوفيق الله المطلوب، وبإسعاد محبي الإصلاح
الذي يدعو إليه، والحق الذي يناضل دونه، وما إسْعَادهم إلا الدعوة به وإليه،
والنصيحة له، والدفاع عنه، فالدعوة حياة المذاهب في الفلسفة، والسياسات،
والأديان، وكل ما يرتقي به شأن هذا الإنسان، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: ٣٨) .
المنار يدعو جميع المسلمين بكتاب الله إلى سعادة الدارين: بتقويم فطرة الله،
ومعرفة سنن الله، وينهاهم به عن التفرق في الدين، ويأمرهم بالاعتصام بحبله
المتين، فالدين والفطرة صنوان، والشريعة والطبيعة شقيقتان، فمُنزِّل القرآن، هو
مُنْزِل الفرقان والميزان، وواضع الشريعة هو خالق الطبيعة؛ فالقرآن هداية
وعرفان، وعروج بالأرواح إلى الروح والريحان، بالعبودية المؤدية إلى رضا
الرحمن، والانتهاء باضطراب أمواج النزعات البشرية إلى مستقر السكينة
والاطمئنان، {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: ٩) .
والفرقان عقل يفرق بين الحق والأباطيل، ويدرك أسرار الخليقة وفقه التنزيل،
فهو المخاطب بإقامة الشريعة، وهو المطالب بالتصرف في الطبيعة، فيأخذ منها
بقدر اجتهاده، على حسب استعداده، والميزان عدل عام، في الأخلاق والأفكار
والأحكام، به ينفذ حكم القرآن والفرقان، حتى يلتئم شمل الإنسان؛ فيعطي كل ذي
حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وإن لربه عليه حقًّا، ولنفسه عليه
حقًّا، ولزوجه عليه حقًّا، ولأهله عليه حقًّا، ولقومه عليه حقًّا، ولأمته عليه حقًّا،
ولمجموع الناس عليه حقًّا، فالقرآن يهدي إلى الحقوق ويبين، والفرقان يفرق
بين المتشابهات ويعين، وإنما القسمة بالميزان، وبالثلاثة تكمل فطرة الديان،
فالقرآن كتاب مسطور، وضياء ونور، وبالفرقان نقرأ وندرس، ونجتلي ونقبس،
وبالميزان نعمل بالعلم، ونقوم بالقسط، ومن شذ عن هذه الثلاثة فلم يهتد بالنقل
والعقل، ولم يخضع لسلطان العدل، فقد أنزل الله لعلاجه الحديد، الجامع بين
المنافع والبأس الشديد، فيؤدب بقوة السلاح، حتى يستقيم أمر الإصلاح {وَلاَ
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ
يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} (الإسراء: ٣٣) .
{الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: ١-٤) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} (الحديد: ٢٥) ؛ فهذا بيان للناس؛ بأن بناء معاشهم،
ومعادهم، يقوم على أربعة أركان: الكتاب، والعقل، والعدل، والقوة، وهي
هي القرآن والفرقان، والميزان، والحديد. وقد هدم التقليد الأربعة الأركان، استبدل
بها قول فلان وفلان، أسماء سماها المقلدون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان.
فأما ركن الكتاب فبزعمهم أن فهمه، والاهتداء به خاص بنفر يسمون
المجتهدين، وأنهم انقرضوا وقد عقم الزمان عن مثلهم إلى يوم الدين. وأما ركن
الفرقان فيما أهملوا من الحكمة العقلية والدينية، والعلوم النظرية والعملية. وأما ركن
الميزان فبإباحة الاستبداد لذوي السلطان، وتحتيم طاعتهم، ولو في الإثم والعدوان.
وأما ركن الحديد: فبالإعراض عن الأعمال الصناعية، وما تتوقف عليه من
الفنون الرياضية والطبيعية، فمتى يثبت لشعوبهم ودولهم بنيان، وقد هدموا
جميع هذه الأركان، وفسقوا عن هداية القرآن، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: ١٦) .
فالمنار يدعو المسلمين إلى إقامة الأركان الأربعة باسم الإسلام، من حيث
يحتجون على هدمها بالإسلام. وإنما إقامتها أن يكون أمر الأمة بأيدي أهل القرآن
العرفاء، وأصحاب الفرقان الحكماء، ومقيمي الميزان في السياسة والقضاء، وحملة
الحديد لمدافعة الأعداء ومنع الاعتداء، وهؤلاء الأصناف هم: أولو الأمر، الذين لم
يجب أن يرد إليهم كل أمر، وهم أهل الإجماع الجديرون بالاتباع، وهم أحل الحل
والعقد الذين ينقضون ويبرمون، ويحلون ويعقدون، وهم أهل الشورى الذين
ينصبون الخلفاء والأمراء، ويضعون الأحكام في السياسة والإدارة والقضاء، وعلى
هذا أراد النبي تربية المؤمنين واتبعه بقدر الاستعداد الخلفاء الراشدون، وبترك هذا
حل ما حل من البلاء بالمسلمين {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) .
بهذه الأركان الأربعة كان الإسلام دين الفطرة، والهادي بسنن الشريعة إلى
كمال سنن الطبيعة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠)
فالمسلم من يقيم دين الله، بإقامة سنن فطرة الله، ومن يجمع بين العلم بما أنزل
الله، والعلم بما خلق الله، ويفقه الاتفاق بين قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: ٦٤) ، وقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: ٣٠) ، ومن ذهب إلى
التفريق بين دين الله وفطرته، وزعم أن العلم بكتاب الله لا يتفق مع العلم بخليقته،
فقد جهل الخالق والخليقة، والشريعة والحقيقة، وكان حجابًا دون الإيمان، يصد
عنه أولي العلم والعرفان، فما بال من يزعم أن العلم والدين ضدان، أولئك أعداء
القرآن، وأولياء الشيطان {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً
مُّبِيناً} (النساء: ١١٩) {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: ١٢٠) .
أيحسب هؤلاء الهائمون في أودية الأوهام؛ أن هذا الشيء الذي يسمونه فقهًا
هو الإسلام؟ أليس أصل هذا الإسلام هو القرآن؟ أليست السنة من قبيل العمل به
والبيان؟ فما بالهم قد حصروا الدين فيما لم يحفل بأكثره الكتاب، ولم يفصل فيه
شيء مما وضعوا له من الفصول أو فتحوا من الأبواب؟ أرأيتك كم سورة أو آية
نزلت في أحكام البيع والإيجار، والكفالة والحوالة والجعالة والإقرار، والمساقاة
والمزارعة، والشفعة والوديعة والرهان، والحجر والصلح والغصب والضمان؟ بل
أين ما أكثرتم من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس؟ وما أطلتم به من الكلام
على الطهارة والطهارات والأنجاس؟ وما جئتم به في جميع العبادات من الرأي
والقياس؟ هل أنزل الله في ذلك كله عشر معشار ما أنزل من الأمر بالنظر في
المخلوقات، واجتلاء آياته في الأرض والسموات من تصريف الرياح والبحار،
وتفجير الينابيع والأنهار، وإنبات الحدائق والجنات متشابهات وغير متشابهات،
وتسخير الدواب والأنعام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، ونصب الجبال
كالأوتاد، وبناء السبع الشداد، ورفع السماء ووضع الميزان، وجعل الشمس والقمر
بحسبان؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ
عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ
سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} (الفرقان: ٤٥-٤٩) .
فكيف تحصرون جميع أمور الدين، فيما سكت عنه الكتاب أو أجمله أو فوضه
إلى المستنبطين، وتجعلون ما فصل الإرشاد إليه، وجعل المعوَّل في معرفته تعالى
عليه، هو الذي يأتي بنيانه من القواعد، ويقتلع أصول أحكامه والعقائد، أليس هذا
منتهى التفريط في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء؟ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ
تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: ٨٩) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ
إِلاَّ كُفُوراً} (الفرقان: ٥٠) .
إذا شغلك الفقه عن آيات الله التي بين يديك، فهل يصح أن يشغلك عن آياته
في نفسك التي بين جنبيك، ألم يرشد القرآن إلى السير في الأرض؛ لاستطلاع
العبر؟ ألم ينبئك بسننه في نظام البشر، ألم يهدك إلى أنه- تعالى -لا يهلك
المصلحين؟ وإن كانوا في العقيدة مشركين، وأنه لا يبقي على الظالمين، وأن
العاقبة للمتقين، فما لك لا تعد من هذا الدين معرفة تواريخ الأمم الغابرة، واختبار
أحوال الأمم الحاضرة، ومعرفة الأقطار والبقاع، والعلم بشؤون الاجتماع، أليس
هذا من إقامة القرآن، واستعمال الفرقان والميزان؟ أليس قد أنزل الثلاثة لترقية
شأن الإنسان؟ فكيف تشغلك أحكام حركات الأبدان، ومعاملات الأقران، عن حكم
الديان، في الأناسي والأكوان؟ {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا
مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً
فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان: ٥٣-٥٤) .
ألا ليت الذين يجعلون هذا الفقه معظم الدين، عنوا به بعض عناية أهل
القوانين، فطابقوا بينه وبين مصالح الناس، من جميع الشعوب والأجناس، وقربوه
من الأفهام، وأبعدوه عن الأوهام، إذًََََََا لبقي لهم ذكرًا وشرفًا، ولم تجد حكامهم عنه
منصرفًا، وها نحن أولاء، نراهم قد نسخوا أحكامه السياسية والمدنية والجنائية، ولم
يتركوا للمسلمين إلا ما يعتقدون من الأحوال الشخصية، وهل كانت أحكام فقهائهم فيها
مرضية، أم تتألم الحكومة منها، وتتألم الرعية؟ ألا إنهم قد نَفَّرُوا الناس من الفقه
والدين، ولولا الجرايات والعسكرية؛ لأعرض عن ممارسة كتبهم أكثر هؤلاء
الشراذم المقبلين، ولو رجعوا إلى هداية القرآن، وأقاموا الفرقان والميزان، وتركوا
التقليد وأحسنوا الحديد، لولَّوا عن هذه الكتب نفورًا، وأوتوا الحكمة {وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: ٢٦٩) {وَإِذَا
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} (الإِنسان: ٢٠) .
إن بعد رجال الدين عن علوم القرآن والفرقان؛ والميزان والحديد، وجمودهم
على ما أوجبوه على أنفسهم من التقليد، جعلهم بمعزل من الزعامة، وحرمهم مقام
الأسوة والإمامة، فلم يبق لهم شيء من الأمر والنهي، وباتوا لا يقصد إليهم في
الاستشارة والرأي، ولا يستفتون في إدارة المصالح ودرء المفاسد، ولا يعتمد عليهم
في نظام التربية والتعليم في المدارس والمكاتب، فَقلَّتْ بعدم الثقة بهم ثقة الناس
بالدين، وكثر الفسق في الجاهلين والكفر في المتعلمين، انحلت رابطة جامعته
الجنسية، وكادت تنفصم عروة أخوته الروحية، وأنشأت الشعوب تتعصب لجنسيتها
الجاهلية، في الأنساب واللغات، والأوطان والجهات، يتسللون منه لِوَاذًا ويفارقون
الجماعة أفذاذًا، فسهل على الأجانب تخطفهم شعبًا شعبًا، وانتقاص بلادهم قطرًا
قطرًا، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} (الإسراء:
٤١) .
اللهم قد ثقلت علينا الأوزار، فأحاطت بنا النوائب والأخطار، ولا نكاد نرى
فينا علماء يدعون إلى القرآن، ولا حكماء يرفعون شأننا في علوم الفرقان، ولا
حكام يقيمون القسط بالميزان، ولم نشكر نعمتك بإنزال الحديد، ففاتنا معظم ما فيه
من المنافع والبأس الشديد، بل لم نشكر لك شيئًا مما أنزلت علينا، فأنزلت بسنتك
العادلة ما أنزلت بنا.
اللهم إنك تعلم أن مثار بلائنا، ومنشأ ضعتنا وشقائنا، لا يرجع إلى الأجراء
والزُّراع، وإلى السوقة والصناع، ولا إلى الصعاليك والرعاع، اللهم إنك تعلم أن
مثاره سادتنا المستبدون، وكبراؤنا المترفون، ٣٣: ٦٧ {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: ٦٧-٦٨) .
اللهم إننا أطعناهم مضطرين أو جاهلين، لا مختارين ولا متعمدين، وقد
أيقظنا بلاؤك من رقدتنا، ونبهتنا سنتك من سِنَتِنا، فأنشأنا نفكر في إقامة ما أنزلت
من البينات والهدى، والشكر لك على ما آتيت من المواهب والقوى، بإرشاد
المقلدين، وإرجاع المستبدين {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا
لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة:
٤-٥) {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن
لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} (الإسراء: ٨٠) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... السيد محمد رشيد رضا الحسيني