للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الهوى والهدى
أو اللذة والمنفعة [*]

يولد الحيوان ذا وجدانين متضادين؛ وجدان اللذة بما يلائمه، ووجدان الألم
مما لا يلائمه، وإحساس الطبيعة الحيوانية بالحاجة إلى اللذيذ يسمى (شهوة) ،
وهو يطلبه قبل وجوده، ويلتذ به بعد أن يصيبه. فالشهوة: هي الشعور الأول
للحيوان، واللذة: هي الشعور الثاني والمطلب الأول. لا فصل في هذا بين
الحيوان الأعجم والناطق؛ على أن الإنسان لا يولد ناطقًا، بل يولد أشد عجمة
وأضعف شعورًا من سائر الحيوانات.
يتعلم وليد الإنسان النطق بعد ولادته بأشهر؛ فيعبر عن شعوره وإدراكه،
ويفهم من غيره بعض ما يعبر به عما في نفسه، ثم يتولد فيه الميل إلى البحث
ومعرفة المجهولات، ثم الفكر فيما تدركه مشاعره، والتذكر، والتخيل، والقياس،
والاستنتاج؛ وهي اللذة المعنوية؛ تسوقه إليها شهوة عقلية، ينفرد بالترقي فيها دون
الحيوان الأعجم، وبذلك يميز بين النافع والضار، ويحكم بوجوب طلب الأول وإن
كان مُؤلِمًا كالدواء، واتقاء الثاني وإن كان مشتهى ومستلذًّا كالخمر والحشيش،
وكالإسراف في اللذات النافعة. كما يميز بين الحق والباطل في الاعتقاد، ويرجح
الحق على الباطل.
يرتقي الإنسان في التمييز بين النافع والضار، والحق والباطل بالتدريج،
وربما بلغ أشده واستوى، وهو يرى بعض النافع ضارًّا، وبعض الباطل حقًّا، ولا
يحيط أحد من الناس خبرًا بالمنافع والحقائق ولو لشخصه، فما قولكم -دام فضلكم-
في الباحث عن المنافع والمضار لأمة عظيمة أو دولة كبيرة.
ترتقي معرفة الناس بالمنافع والمضار بارتقاء التربية الصالحة، والتعليم النافع
وإنك لتجد أكثر المترقين في تربيتهم وتعليمهم يؤثرون اللذة على المنفعة
في كثير من شؤونهم وأحوالهم، فما بالكم بمن دونهم في ارتقائهم.
إيثار اللذة على المنفعة، والباطل على الحق: هو اتباع الهوى، وعكسه هو
اتباع الهدى، ولو كان كل لذيذ ضارًّا، أو كل نافع مؤلمًا؛ لهلك الناس باستحباب
الهوى على الهدى، ولكن أكثر اللذائذ نافعة، وأكثر المؤلمات ضارة، والحق
والخير محببان إلى النفوس البشرية طبعًا، وإنما يكرهها الجاهل بهما، أو من تربي
على ضدهما، حتى ملك الباطل أو الشر وجدانه، واستحوذ على نفسه استحواذًا.
فليس في فطرة الإنسان غريزة تصده عن الكمال في اتباع الهدى باختيار الحق
على الباطل، وترجيح النافع على الضار، فتبارك الفاطر الحكيم.
يحب الطفل اللعب وهو نافع له، وقد يؤثره في سن التمييز على التعليم،
فيظن الجاهل أن هذا إيثار للذة على المنفعة؛ لفساد في الفطرة، وما هو بفساد في
الفطرة، وإنما هو مظهر الحكمة فيها.
لا ينفر الولد من التعلم إلا إذا كان فيه إرغام للفطرة بتكليفه، فَهْمُ ما هو غير
مستعد لفهمه، وذلك ضار به، أو بمنعه من اللعب النافع له، أو بمعاملته بالشدة
العائقة له عن كماله، وهذا التحكم في عقله ونفسه كالتحكم في جسمه بسومه حمل
الأثقال ومصارعة الرجال، وأكثر الناس يعرفون درجات قوى الأجسام، دون
درجات قوى النفوس والأحلام.
جرب بعض الناس طريقة الحكمة في التعليم والتربية، وهي الطريقة التي لا
تخرج الناشئ عن طوره، فتجعل الدارج يافعًا، أو الطفل كهلاً؛ الطريقة التي لا
تحمل الطبيعة ما لا تحمل، فجذبوا الناشئين بسلاسل اللذة التي عرفوها إلى جنة
المنفعة التي جهلوها، فانجذبوا طائعين مسرورين.
هكذا يمكن للمربي الحكيم أن يجمع بين الهوى والهدى، ولولا هذا الإمكان لما
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ،
ولكن المربي الجاهل يمد الناشئ في الهوى، ويغذيه باللذة، ويصور له الألم أو
الحرمان في المنفعة، حتى يكون من الخاسرين.
سنة الله في الأمم تشبه سنته في الأفراد، فللأمة طفولة وتمييز، وشباب
واستواء. وهي تُؤْثِرُ قبل بلوغها سن الكمال الاجتماعي اللذة على الفائدة، وتستحب
العمى على الهدى؛ للجهل بوجوه المصالح العامة، وما يرفع الأقوام وما يضعها،
وحينئذ تكون أحوج إلى المربي الحكيم من الطفل اليتيم.
ما ارتقاء الأمة إلا كثرة الحكماء والفضلاء فيها، ومهما كثر هؤلاء، فلا
يكونون في سواد الأمة إلا عدداً قليلا، فأكثر أفراد الأمم الراقية الآن يؤثرون اللذة،
ويسعون لها سعيها في عامة أحوالهم. ألم يأتك نبأ خسارة من طبع كتب الفيلسوف
(هربرت سبنسر) في علم الاجتماع، وفلسفة التربية والتعليم، وهي أنفع ما كتب
حكماء الغرب في أرقى أممه؟ ! قارن بين هذا وبين الربح العظيم الذي يناله من
يطبعون القصص الغرامية وغير الغرامية. نعلم أن الدَهْمَاء من كل أمة يتبعون
مواقع اللذة، وينفرون من النافع إذا لم يكن مستلذًّا، ولكن الأمة المرتقية لا يروج
عندها الضار بها، وإن كان لذيذا.
تربية الأمم وإرشادها أشرف الأعمال وأفضلها وأشقها وأعسرها، ويعوزه من
العلم والحكمة والإخلاص والنزاهة، ما لا يعوز غيره. فإن فتنة الهوى فيه لا يقاس
بها فتنة، حتى إن الملك العاطل من حلية هذه الصفات يتبع هواه في سياسة رعيته،
حتى يودي بشعبه ورعيته، ولو كان خساره في ذلك موازيًا لخسار الأمة في
مجموعها. آية من يتبع الهدى في إرشاد الأمة أن لا يتبع فيه هواها، ولا يتحرى ما
يرضيها وإن كان يرديها، وأن يكون كالطبيب يجرعها المر؛ ليقيها الضر، إذا
تعذر أن تجذب باللذات إلى المنافع، كما يجذب الدارج واليافع.
لا يؤمن الفرد من اتباع الهوى في سياسة الأمة، وإرشادها عن علم أو جهل
لذلك جاء الوحي بوجوب جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وبذلك ارتقت الأمم
العزيزة وينبغي لمرشديها أن يسلكوا سبيل الشورى كحاكميها، فلا يستبد أحد الأفراد
برأيه في الإرشاد، لهذا نرجو من هذه (الجريدة) من تحرير الفوائد، فوق ما
نرجو من غيرها من الجرائد، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح العقل على
الهوى.