للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سنن الاجتماع
في الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

طبيعة الاجتماع تقضي بوجود الحكام، ما قضت بوجود النزاع والخصام،
فإذا لم يتغلب على الناس من يحكم فيهم كما يشاء، اختاروا هم لأنفسهم من يحكم
بينهم كما يشاءون؛ لأن ما قضت به سنن الوجود واقع ما له من دافع.
الحكم حاجة من حاجات الناس، يقوم به بعضهم بالنيابة عن الباقين، فهو
كسائر الحاجات من العلوم، والمهن، والحرف كالزراعة، والصناعة، والتجارة
التي يقوم بكل فرع من فروعها من يكفي المجتمع همها، كما يقوم هو بسائر
حاجاتهم، ويكفيهم ما أهمهم. فالحاكمون كغيرهم من العاملين، كل صنف يخدم
مجموع الأصناف، التي يعبر عنها بالشعب أو الأمة، من حيث يخدمونه (وكلٌ
ميسرٌ لما خُلِق له) ومسير إلى حيث يسوقه استعداده، فمن سابق ومتخلف، ومن
محسن ومسيء، ولكل جزاء، والجزاء إما مال يكفي أو يغني، وإما مال وجاه
يعلي.
جزاء الأعمال التي تتطلبها طبيعة الاجتماع طبيعي مثلها، ولولا ذلك لما
اندفع كل فريق إلى العمل الذي يزين له استعداده جزاءه والغبطة به، فمن يطلب
من الجزاء الطبيعي على العمل أكثر مما تفرضه سنة الاجتماع من الجزاء عليه فهو
باغ، متنكب صراط الحق، غير مقيم لميزان العدل، إذ يطفف لنفسه ويخسر للأمة.
البغي في اقتضاء الجزاء، يكون من الأفراد، ومن الجمعيات، والأصناف،
فالأول: لا تأثير له في إفساد الأمة وتلافيه سهل. وأما الثاني: فهو البلاء المبين؛
لأن قوة الاجتماع هي أعظم القوى. وإنما يتحقق البغي بتحديد قيم الأعمال
والأشياء تحديدًا طبيعيًّا - إن أمكن- أو قانونيًّا؛ ليكون متجاوز الحد هو الباغي الذي
يجب إرجاعه عن بغيه.
ينجح زيد في بغيه على عمرو، إذا كان أقوى منه علمًا أو جسمًا، والحاكم
يفصل بينهما، إذا رفع الأمر إليه، وإلا كان الراضي بالهضيمة مستحقًّا لها
جزاء على جهله، ومن ذلك ما يقع كثيرًا من الحوذية، يطلبون فوق ما حدد لهم في
التعريفة، فالعارف يهددهم، والجاهل قد ينقدهم، والخطب في الأمرين سهل.
وإنما الخطب الجلل: أن يتفق صِنْف من القائمين بأعمال المجتمع، فيبغون في
طلب الجزاء. ومنه ما يعرف في هذا العصر باعتصاب العمال، ولكن
هذا الاعتصاب يجري في أعمال لم تحدد أجورها تحديدًا طبيعيًّا، ولا شرعيًّا،
ومسلك العدل في تحديد القانون له دقيق، ولا أرى له وجهًا ترضى به طبيعة
الاجتماع، إلا أن يكون النسبة بين كسب المالكين وأجور العاملين، ويأبى علينا هذا
المقال أن نخوض فيه، ويرضى لنا أن نرده إلى الحاكمين.
لا نقول: إن اعتصاب العمال من البغي، ولا نقول: إن فيه خطرًا على
الشعب، وإنما الخطر العظيم في بغي الحاكمين، الذين يوكل إليهم تلافي بغي
الأفراد والجمعيات من المحكومين لهم.
ما هو نوع عمل الحكام في الأمة؟ وما هو نوع جزائهم عليه؟ جاء في
فاتحة الكلام أن الحاكم إما متغلب بالقوة؛ يحكم كما يشاء، وإما مختار من
المحكومين له؛ فيحكم بينهم بما يشاءون من الشرائع والقوانين، فالحاكم الأول يرى
أن عمله من قبيل إدارة صاحب المزرعة والماشية والعبيد لما يملك، وأن ما يأخذه هو
من قبيل الغلة والريع، وأنه يجب على المحكومين له، أن يقوموا له في مزرعته
الكبيرة (المملكة) بما يطلب، وأن يرضوا بما يفرضه لهم وعليهم والمحكومون له
يرونه سلطانًا باغيًا، يتربصون به الدوائر على حسب حالهم في العلم والقوة، أو
الجهل والضعف. والحاكم الثاني يعلم كما يعلم المحكومون له أن عمله من قبيل
عمل الأجراء، وأن ما يأحذه من الجزاء المالي عليه أجرة مفروضة، وأن الجزاء
المعنوي وهو الجاه أثر طبيعي لإحسانه في عمله كما لغيره من المحسنين إلى الأمة في
ترقية العلوم والفنون والأعمال. على حسب حال الأمة يكون حكامها في نفس الأمر
الذي تقضي به طبيعة الاجتماع (كما تكونون يولى عليكم) أما حكم الشرع والعقل
فهو يقضي بوجوب جعل الحكام أجراء للأمة، قال أبو العلاء فيلسوف الشعراء:
ملّ المقام، فكم أعاشر أمة ... حكمت بغير كتابها أمراؤها
ظلموا الرعية، واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها
كذلك شأن أكثر الأجراء والوكلاء مع المالكين الجاهلين بما يجب أن يكون عليه
ملكهم، العاجزين عن تحديد أجور العمال وإلزام كل عامل أن يلزم حده؛ لذلك
أنحى الفيلسوف في شعره باللائمة على الأمة التي مكنت أجراءها من الاستبداد في
السيادة عليها، حتى تجاوزوا مصالحها، ينبهها بذلك إلى إقامة الشريعة فيهم،
وإرجاعهم إلى الكتاب العزيز الذي جعل أمر المؤمنين شورى بينهم.
ذلك حكم الشريعة والعقل، ولن تقدر الأمة على القيام به، إلا بتغيير الأفكار
التي كان من أثرها الطبيعي، أن صار الأجراء سادة مالكين، وتحصيل الأفكار
والعلوم والأخلاق التي تمكنها بالاتحاد من جعل المتغلب بقوته مختاراً لعدله
وفضيلته.
إذا أحسن الحاكم المتغلب في عمله، واقتصد فيما يتناول من مال الأمة جزاء
عليه، كان جديرًا بالجاه الصحيح، وهو ملك القلوب وقيادتها بالمحبة والتعظيم،
وبما يتبعه من الحمد والثناء، وإذا أساء عملاً وأسرف فيما يأخذ يفوته الجاه الصحيح،
ويستبدل به الجاه الباطل، وهو قهر الرعية على أن تعامله معاملة الحاكم العادل
من الثناء والتعظيم الصوري مكابرة للنفس وعصيانًا للقلب، في سبيل طاعته
الإلزامية. أما الحاكم المختار للأمة، فهي التي تفرض له برضاها أجره، وتملكه
قلوبها طائعة مختارة.
روى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افرضوا لخليفة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ما يعينه، قالوا: نعم، برداه (ثوباه) إن أخلقهما وضعهما، وأخذ
مثلهما، وظهره (أي ما يركبه) إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق على
أهله قبل أن يستخلف، قال أبو بكر: رضيت. وفي رواية أنه أراد أن يعمل في
التجارة طرفًا من النهار لأجل عياله، وينظر في أمور الناس في سائر الأوقات
فمنعوه، وقال عمر: نفرض لك، فأراد أن يتمنع فأقنعوه، وفرضوا له كواحد من
المهاجرين، لا أرقاهم ولا أدناهم، وكذلك كان ينفق قبل الخلافة.
هكذا كانت حكومة المسلمين في أول عهدها، كانت من القسم الثاني من
التقسيم المتقدم، فعرض عليها من عوارض الاجتماع ما حولها عن وضعها،
وجعلها من القسم الآخر. وكم من حكومة كانت ظالمة بالتغلب، فزحزحتها طبيعة
الاجتماع عن مكانها، ووضعتها تحت سيطرة الأمة، كحكومات الفرنجة في بلادها.
لم تكن حكومة الشورى في المسلمين أثرًا لارتقاء اجتماعي فيهم، ولذلك لم يطل
عليها العهد، وإنما كانت ائتمارًا بأمر الدين وعملاً بهدايته، وقد تغلبت العصبيات في
الأمة قبل أن يستقر هذا النوع من الحكومة، ويلقي بوانيه (أي يثبت ويقيم) بهدي
الدين، ويصير طبيعيًّا في الأمة.
للحكومات آجال مقدرة بقدر أحوال المحكومين لها الاجتماعية، ولمدبر الكون
فيها سنن لا تتبدل ولا تتحول، فما قصر أجل حكومة الشورى في المسلمين،
إلا لأن ذلك المجموع المؤلف من جميع الشعوب والأجناس لم يكن مستعدًّا لأن يكون
مسيطرًا على حاكميه لقلة معارفه الاجتماعية، ولانتفاء الوحدة التي تجعل الأمة
كرجل واحد.
وإنما يستفيد الناس من الدين والدنيا في كل زمان بقدر استعدادهم، ولو كانوا
شعبًا واحد في قطر واحد، لرجي لهم طول هذا الأجل، كما طال أجل حكومة
الرومان، ثم قضي عليها بالتوسع في العمران، ودخول الشعوب الكثيرة تحت
سلطانها.
إذا أراد الله بأمة أن تنهض إلى جعل حكومتها تحت سيطرتها، كما يجب أن
تكون، سهل لها من أسباب العلم الصحيح والتربية القويمة، ما ينير أذهانها،
ويجمع كلمتها حتى تكون أمة عاقلة حكيمة (والعاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) كما
قال الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني.
يسرنا أن نرى بوادر العلم والتربية في أفراد من أمتنا الإسلامية، في كل
شعب وكل قطر، وأن نرى بعض مرشديها يحثونها على الاستزادة منهما، ويسوءُنا
أن نرى بعض الجاهلين المرائين، يفتاتون على المرشدين المخلصين، فيعلقون
آمال الأمة بغير هذا الطريق المعبد، والصراط السوي في تقويم الحكومة، وما يجب
أن تعاملها به الأمة، ولكن قضت سنة الله بأن يغلب الحق الباطل، ويرجح النافع
على الضار ولو بعد حين.
يسهل على من أوتي الخلابة في القول والعرفان بأهواء الجماهير، أن
يغش أمة هي في طور الطفولة في الحياة الاجتماعية، وليس لها زعماء وحكماء
ترجع في الأمور العامة إليهم، ويسهل على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، أن
ينصح لها ويهديها سبل الرشاد، فإذا هي رزئت بالمختلبين وحدهم شقيت، وإذا
هي رزقت الناصحين سعدت، وإذا تنازعها الصنفان وجد صاحب الحق من
نصر العقلاء وإن قلوا، ما يفل جموع أنصار الباطل وإن كثروا، وبذلك ترتقي
الأمة ارتقاء يجعلها أهلاً لأن تختار حكامها، وتحدد لهم الجزاء المالي على
أعمالهم، وتمنحهم الجاه والشرف باختيارها؛ لأنهم يحكمونها بمشيئتها المبنية
على الحكمة والعرفان، وهي تجزيهم بمشيئتها الناشئة عن الرضا والإذعان.