للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

للقطر المصري في هذا العصر حال لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار
الأرض، وهذه الحال مفيدة له من وجه، وخطر على أهله من وجه آخر، فيجب
أن يعرفوا كيف يجتنون الفوائد من الوجه الأول، ويجتنبون الغوائل من الوجه
الثاني.
الحال التي انفرد بها، هي أن جميع الأمم الراقية تنازع أهله الحياة في
المعاش أو الاقتصاد كما يقال، وفي الاجتماع والآداب، وما من أمة منها إلا وهي
أرقى من أهله في العلوم والأعمال، ولها من الحقوق فيه أكثر مما لهم، فالقوانين
المصرية تبيح للأجانب أن يملكوا من البلاد كل ما يملكه الوطني، وأن ينشروا فيها
لغاتهم، وأديانهم، ومذاهبهم، ويأتوا بعاداتهم وتقاليدهم، كما يفعل الوطني، ولكن
الحكومة المصرية ليس لها من المراقبة والسلطان على الأجنبي مثل ما لها على
الوطني، فالأجنبي أوسع حرية، وأكثر استقلالاً في أعماله كلها.
أما وجه الفائدة من هذه الحال، فهو أن الأوروبيين في مجموعهم مدرسة
جامعة في البلاد، تعلم أهلها من الأعمال المالية بأنواعها، والاجتماعية، والأدبية ما
لم يكونوا يعلمون، وتعليم العمل أقرب إلى النفع من تعليم العلم؛ إذ العمل مقصد
والعلم وسيلة إليه في الغالب، فكل عامل ينفع البلاد ويرقيها، وما كل عالم ينفع،
وما علينا - والمدرسة العملية مفتحة الأبواب، ودروسها مبذولة في كل مدينة وقرية
لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يدرك، وقلب يتأثر - إلا أن
نتعلم كيف نكتسب، وكيف نقتصد، وكيف نؤسس الشركات، وكيف نؤلف
الجمعيات، وكيف نحافظ على الآداب والعادات، وكيف نقيم بناء وحدتنا الجنسية،
وكيف ندعو إلى عقائدنا وآدابنا الدينية، وكيف نوزع هذه الأعمال على أصناف
العاملين، وكيف نكون مع هذا التوزيع متعاونين متكافلين.
وأما وجه الخطر فهو أجلى وأظهر، فإن ضعيفًا ينازع الأقوياء الحياة،
يوشك أن ينزعوه. وواهنًا يصارع الأشداء يقرب أن يصرعوه، وإذا كان في
الأمثال المسلمة (ضعيفان يغلبان قويًّا) فما بالك بعدة أقوياء يغالبون ضعيفًا واحدًا،
ألا يكون الخطر عليه شديداً؟ بلى إنه يخشى أن تنزع هذه الشركات الأجنبية
والمصارف (البنوك) ؛ أكثر ما في أيدي المصريين من أرض مصر، حتى يكون
أكثرهم فيها أجراء، لا رزق لهم إلا ما يفيضه المالك الجديد عليهم من أجور أعمالهم
من الحرث والخدمة، ويكون الكثيرون منهم عالة، لا يجدون من جود الأغنياء ما
يسد رمقهم، ويفنى الباقون في الغالبين بالتقليد والمحاكاة، يومئذ (لا كان يومئذ) لا
يستطيع أن يقول المصري: هذه بلادي، فأنا أولى وأحق بأن أتولى أحكامها بنفسي،
وأدير نظامها بيدي.
إنما يخشى أن يسرع هذا الخطر المادي، إذا شايعه الخطر المعنوي، وأمده
في سيره وهو التهاون في أمر مقومات الأمة ومشخصاتها من الدين واللغة والآداب
والعادات الحسنة، بل أقول: لا يمكن لأمة أن تحفظ كونها إلا بالمحافظة
على عاداتها، وإن كانت غير حسنة ولا قبيحة، وأن تتروى في القبيح منها،
فتدعو إلى تركه إن تحقق قبحه بالتدريج، واستبدال النافع بالضار، ولا حسن في
عادات الأمم إلا النافع، ولا قبيح إلا الضار. ألم تروا أن أعز الأمم وأوسعها
سلطانا، هي أشد الأمم محافظة على العادات والتقاليد المشخصة لها، وإن كان
غيرها خيرًا منها. ألم تعلموا أن أكثر الأمم الأوروبية قد استنفدت حيلتها، بعد ما
استنفرت بلاغتها وفصاحتها في محاولة إقناع الإنكليز باستبدال المقياس العشري
(المتر) بمقاييسهم (اليرد) بل بتوحيد المقاييس، وناهيكم بفوائده فلم يزد ذلك
الإنكليز إلا محافظة وثباتًا على ما درجوا عليه. ألم يأتكم نبأ ما كان لاستبدال
إسماعيل باشا الخديو، التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري من الفرح والسرور في
أوروبا. قيل: إن ذلك اليوم كان عند الأوروبيين عيدًا من الأعياد، بل فتحًا مبينًا،
من أجلِّ الفتوحات في تحويل الشعوب من حال إلى حال. وهم ينظرون عيدًا ثانيًا
أو فتحًا آخر بإقناع المسلمين عامة بترك العمل يوم الأحد كما فعل بعض تجارهم.
تنتزع أراضي مصر من أهلها قطعة بعد قطعة، فلا تشعر الأمة بانتزاعها؛
لأن البلاد تبقى على حالها، لا يتغير من معالمها، ولا من شؤون عولمها شيء،
وتترك مقومات الأمة ومشخصاتها، عقيدة بعد عقيدة، وعادة بعد عادة، ولا تشعر
الأمة بتركها، وما له من الأثر في حياتها؛ لأن تحول الأمم كتحول الظل، لا يشعر
أحد بحركته، ويشعر كل أحد بعاقبته، وانتقال الثروة من الشعب الكبير كانتقالها
من الرجل الواحد الذي يغتر بكثرة ماله، فيسرف ويبذر، لا يلاحظ عند كل نفقة
ما بقي من ماله، ونسبتها إلى دخله، وإنما تنحصر ملاحظته في شيء واحد وهو
أنه يملك مليونًا، فهو اليوم ينفق عشرة آلاف، على أنها عشرة من مليون، وفى غد
ينفق عشرة أخرى على أنها عشرة من مليون، ولا يزال يرى المليون مليونًا، وإن
لم يضم إليه شيئًا، والعشرة عشرة وإن صارت بانضمامها إلى ما قبلها عشرات
فمئات، حتى تستغرق المليون فلا يبقى منه شيء، أو يبقى منه ما يكون مثله في يد
الفقير والمسكين.
لا يهولنك ما قرأت فتكون من اليائسين ولا تستهينن به فتكون من المغرورين
فإن الخطر الذي ذكرناه وإن كان صحيحاً مما يمكن اتقاؤه، وإن لمصر
على ضعفها قوة المالك المدافع عن ملكه، أو المحافظ عليه في زمن لا غصب فيه،
ولا مصادرة في المال، ولا استبداد يحول دون التربية والتعليم، والمحافظة على
مقومات الأمة من اللغة والشعائر والأخلاق، والعادات. فالخطر المخشي ليس
خطرًا اضطراريًّا لا قبل لنا به، ولا حول لنا ولا قوة على دفعه، وإنما هو خطر
نتقحم فيه بمشيئتنا واختيارنا، وإذا نحن اتقيناه كان مصدره وهو التنازع بيننا وبين
الأجانب مصدر علم وعرفان، وترقٍ في الاجتماع والعمران، نعم إنه لا يخلو من
إثم، ولكن منافعه تكون أكبر من إثمه.
كيف يُتقى هذا الخطر؟ قد علم مما مر، أن الخطر محصور في أمرين:
إضاعة الثروة، وإهمال مقومات الأمة، فأما الثروة فلها ثلاث آفات أو ثلاث
بلاليع: القمار، ومنه مضاربات البورصة، وقد فشا وباؤه في القطر المصري،
حتى لم يدع قرية ولا مزرعة (عزبة) سالمة من فتكه، وإعطاء الربا للأجانب،
وبيع الأطيان والأملاك منهم، ولا سبيل إلى إقناع الناس باتقاء هذه الآفات الثلاث،
ولكن الجرائد إذا فصلت مضارها، وكررت النذر فيها، وتتبعت الوقائع والحوادث
في تخريبها للبيوت، وإفقارها للأغنياء، وإذلالها للأعزاء، رجونا أن يقل فتكها حتى
لا يصل إلى درجة الخطر على الأمة.
وأما مقومات الأمة، فأمرها أعظم ومجال القول فيها أوسع، وإنما يخاطب في
شأنها الزعماء المصلحون، والعلماء العاملون، والأغنياء العاقلون، وأصحاب
الصحف الغيورون، والخطباء المؤثرون، إذ المدار فيها على إيجاد معاهد للتربية
والتعليم، ينشأ فيها الرجال المستقلون، والنساء القادرات على تربية الولدان وإقامة
النظام في البيوت، وهذا ما يطلب من الزعماء والأغنياء، ولا ينكر ما
للجرائد الناصحة من التأثير في الحث عليه، ثم على النصح المتتابع للأمة في
المحافظة على تلك المقومات، وإعلاء شأنها، والتقريع الشديد للذين يهملون شيئًا
منها، وهذا ما يطلب من الخطباء والكتاب.
وإني لأعجب! كيف تقصر الجرائد الوطنية في هذين الركنين العظيمين؟
حفظ ثروة الأمة، وحفظ مقوماتها الجنسية وترقيتهما. وتطيل الكلام في المسائل
الخارجية والحوادث الجزئية، فيكون أكثر ما تقوله لغوًا، لا فائدة فيه للجمهور،
أليست مصر أحوج إلى حفظ ثروتها ومقوماتها منها إلى سائر الأشياء؟ أليست هذه
الثروة والمقومات على خطر من التنازع مع سائر الأمم، يجب تداركه؟ أليست
الجرائد هي المطالبة ببيان ذلك والحث على تلافيه؟ بلى وعسى أن يكون عناية
الجريدة به أكبر من عنايتها بسواه والله الموفق.