للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*]
الخلافة الأموية في الأندلس والخلافة الفاطمية في مصر
(٣)

أثبتنا في العددين السابقين مجملاً من خبر الخلافة الأموية والخلافة العباسية،
وألمعنا إلى أن عدم سير الخلفاء بهذا المنصب العظيم على منهاجه الشرعي هو الذي
قوض دعائم السلطة الإسلامية ورمى المسلمين بالفشل والوهن، وأشرنا إلى تعداد
الخلافة، ونذكر في هذا العدد مجملاً من خبر الخلافة الأموية في الأندلس والخلافة
الفاطمية في مصر وما تبعها ونختمه بذكر الخلافة التركية فنقول:
كان بُعد بلاد الأندلس (أسبانيا) عن مركز الخلافة مع صعوبة المواصلات
سببًا في اختلال النظام ومجرِّئًا لولاتها وحكامها على تكليف الرعية فيها فوق وسعهم،
وكان من ثم من القبائل الحميرية والشامية والعراقية ينازع بعضهم بعضًا وينفسون
على قبائل البربر الإفريقية، وانتهى ذلك بنزوع حزب عظيم إلى تأليف حكومة
مستقلة، وفي أطواء ذلك علم القوم أن عبد الرحمن حفيد الخليفة هشام الأموي فر
من السفاح ولجأ إلى قبيلة زناتة أعظم قبائل إفريقية، فطمحت إليه الأبصار،
وتعلقت به القلوب، ثم استقدموه فقدم، وكان في قرطبة رئيسان من لدن الدولة
العباسية يتنازعان السلطة وقيادة العسكر، فقاوماه أولاً ثم سلما إليه وبايعه أهل
الأندلس على الخلافة سنة ١٣٩ هـ ٧٥٧م، فصارت الخلافة خلافتين: أموية في
الغرب وعباسية في الشرق.
كان خلفاء الأمويين في الأندلس خير خلفاء المسلمين بعد الراشدين وأقرب في
سيرتهم إلى الشرع وأبعد عن الفسوق والبدع التي انغمس فيها أكثر أمويي دمشق
وعباسيي بغداد، فقد كان عبد الرحمن الأول عادلاً مصلحًا، وكان ولده هشام حليمًا
محسنًا، وكان عبد الرحمن الثاني كجده هشام في الكرم والحلم ويزيده بالأدب والعلم،
وكان محمد الأول والمنذر وعبد الله عادلين مصلحين، وجاء في آثارهم عبد
الرحمن الثالث، فجمع أشتات الفضائل؛ لأنه أعطي القوتين العلمية والحربية،
فاجتهد في رفع منار العلوم والفنون، وأدخل في أسبانيا علوم بغداد وبنى المباني
العظيمة التي كانت زينة قرطبة ومفخر الأندلس كلها وانقاد له المغرب الأقصى.
سار هؤلاء الخلفاء - كما قلنا - سيرة حسنة بالنسبة إلى غيرهم، ولكن روح
الشقاق والخروج على السلطان كان قد تمكن من الأمة، وطمع في الخلافة كل من له
وشيجة رحم بالخلفاء أو عصبية تناط بعصبيتهم، ولو جرى المسلمون على أصل
الاختيار والانتخاب لسلموا من بلاء كبير.
عهد الخليفة عبد الرحمن الأول لولده الثالث هشام الأول فكبر ذلك على أخويه
الكبيرين سليمان وعبد الله فخرجا عليه وحاولا سلب الخلافة منه أو الاستقلال في
بعض الأعمال (الولايات) فتغلب عليهما وعفا عنهما، ثم خرجا بعده على ولده
الحاكم وطلبا قسمة البلاد.
أحدث هذا في نفوس العمال طمعًا في الاستقلال كانوا يخفونه في إبان القوة
خوفًا على مناصبهم، ويظهرون كمال الطاعة والانقياد ويستعدون لنيل مطامعهم سرًّا
ويتربصون بالخلفاء الدوائر، فلما آنسوا منهم الضعف ظهر المضمَر وتوالى
العصيان في الأقاليم، وكان أشد الولاة عيثًا وفسادًا في أرض الأندلس والي
طرسوس فقد كان شديد الساعد بمساعدة سليمان وأخيه عبد الله على عصيانهما
المتوالي الذي أشرنا اليه. ثم أضرم القتال في شمالي البلاد ولاة سرقُسطة ومريدة
وطُليطلة وحوسقه بإغواء رجل يدعى عمر وقد استقل عمر هذا وولده كالب بين بلاد
المسلمين والإفرنج نحو ثلاث سنين، وادعى أنه يعتبر الديانتين معًا، وكان ينتهز
الفرصة ويضرم نار الثورة، وقد غلبه الخليفة محمد ثم عاد، ولم يزل يوالي
الثورات حتى زلزل المملكة زلزالاً، وأورثها خبالاً ووبالاً، وعصت قرطبة الحاكم
ابن هشام سنة ٢٠٢ هـ ٨١٧ م حين رتب لكلاءته خفراء جعل لهم مكوس ما يرد
من عروض التجارة، فكانت ثورة أراد الخليفة العقاب عليها فانقض الناس على
خفرائه وقتلوا منهم عددًا عظيمًا، وقد كان الخلفاء بعد عبد الرحمن الأول يتخذون
الخفراء من مغاربة الزناتة، ثم أحضر عبد الله في سنة ٢٨٨ هـ ٩٠٠ م أرقاء
سلاوونية من القسطنطينية فعلموهم حركات السلاح واتخذوهم خدمًا، فاستراحوا
بذلك من المشاجرات التي كانت تحصل بين الخدم من العرب والبربر، وزاد ثقة
الخلفاء بهؤلاء الخدم إعراضهم عن السياسة، ولكن لما رأوا الخلل والضعف في
الدولة زجوا بأنفسهم في المنازعات السياسية كما فعل أقتالهم وأمثالهم في العباسيين،
وقويت هذه الأمراض الداخلية حتى أضعفت مزاج الدولة، فلما جاءتها الصدمات
الخارجية زعزعتها ثم دمرتها تدميرًا.
قلنا: إن سيرة خلفاء الأندلس كانت أحسن من سيرة غيرهم في الجملة، ولكن
لا نقول إنهم ساروا بالخلافة في منهاجها الشرعي، وهو جعل الحل والعقد والنكث
والفتل وسائر الشؤون العامة مقيدة بالشورى المتبعة كما كان الراشدون، ولو فعلوا
ذلك لما نزل بهم البلاء ولكن السلطة كانت محصورة في شخص الخليفة، ومتى كان
الأمر كذلك فإن الشقاء يكون أقرب إلى الأمة من السعادة؛ لأنها تكون تابعة لشخص
واحد إذا استقام استقامت وإذا زل زلت أو زالت. وكذلك كان شأن هؤلاء الخلفاء،
فقد بدأ الضعف والانحطاط فيهم في عهد هشام الثاني لأنه كان سيئ التدبير، بعيدًا
عن السياسة، والأمر كله في يده، فعجز عن مقاومة الأعداء، فانحطت مهابة
الخلفاء، وخضدت شوكتهم، واستفحل أمر الثوار والخارجين، وكان الإفرنج في
أثناء ذلك في تقدم مستمر في الأعمال الحربية، فتجرءوا على المسلمين وطفقوا
يناوشونهم القتال وينتقصون بلادهم من أطرافها، وأولو الأمر مشغولون بالفتن
الداخلية، وسائر الناس قسمان: العلماء: وقد أوغلوا في فنون الأدب إيغالاً صرفهم
عن كل ما سواه، بل قادهم إلى الترف والانغماس في النعيم المضعف للنفوس عن
الحرب والجهاد، والصناع والزراع وهم أتباع كل ناعق ولا سيما في الأمم التي ليس
فيها تربية قومية أمية، وليس لها رأي عام. وتربية الأمة وتعميم العلم والتهذيب
فيها وإن كان من أهم ما جاء به الدين الإسلامي إلا أن استبداد الخلفاء والسلاطين
واستئثارهم بالأمور العامة وتقصير العلماء والمرشدين ذهب بهذين الأمرين اللذين
هما روح الأمم وحياتها.
أما الخلافة الفاطمية، فقد كانت شر خلافة أخرجت للناس، تولدت فيها
جراثيم الفساد التي قضت على غيرها من أول عهدها، كتفويض السلطة إلى
الوزراء والقواد، واستخدام الدخلاء وجعلهم قوادًا. فقد كان الخليفة الثاني (العزيز)
أول من اتخذ وزيرًا قرن اسمه باسمه، وأول من استخدم الترك وجعل منهم قواداً،
فكانوا سلاً في رئة الدولة نمت جراثيمه رويدًا رويدًا حتى كان من أمره ما سنشير
إليه قريبًا.
صدمت هذه الخلافة الثوراتُ من أوائل نشأتها أيضًا، فقد خرج على الحاكم
وهو الخليفة الثالث قوم ادعى زعيمهم أنه من ذرية هشام بن عبد الملك، فاشتعلت
نار الحروب الداخلية، وكانت سجالاً، ثم ظفر الحاكم بهم فأمات الزعيم شر ميتة.
ومن سيئاتهم: كثرة العهد في الخلافة إلى الأحداث، فكان ذلك مدعاة لتلاعب
الوزراء والقواد بالأمر، فقد بويع الحاكم وسنه إحدى عشرة سنة وكان الوصي عليه
الوزير أرجوان، فانفرد بالنفوذ وتجاوز الحد في الاستبداد، وولي المستنصر
الخلافة في السابعة من عمره، وكانت أمه أمة سوداء اشتراها أبوه الظاهر من
يهودي، فتصرفت بالأمر كما أحبت، وجعلت مولاها الأول مستشاراً، فكانت
الخلافة الإسلامية تدار بيد يهودية، واستخلف الحافظ لدين الله أصغر أولاده
إسماعيل الظافر بأمر الله وسنه سبع عشرة سنة، فاستبد وزيره العباس بالأمر، ثم
ضاق ذرعًا من استهتار الخليفة وإسرافه في الخلاعة والشهوات، ورأى أن عاره
يمس شرفه وشرف ولده لامتزاجهما به، فأمر ولده أن يكيد له ويقتله ففعل، ثم قتل
أخويه به ليبرأ من تبعة قتله في أعين الناس، وولي ولده الفائز وعمره خمس سنين
وقيل سنتان!! ومما حكاه عنه المؤرخون أنه جمع الأمراء لمبايعته وحمله على
كتفه، ولما أمرهم بالطاعة والانقياد له صاحوا بالإجابة صيحة شديدة منكرة فزع لها
الخليفة الحدث، فبال على كتف الوزير! وصار يصرع بعد ذلك (فيا رباه هل هذه
هي خلافة النبوة التي يقوم بها دينك ويستقيم أمر عبادك) .
وقد انحطت مصر في أيام الفائز هذا حتى كانت تعطي ضريبة عظيمة
للصليبيين في القدس ليكفوا عن الإغارة على غزة وعسقلان. استغاث أهل القصر
من وطأة الوزير عباس الثقيلة بصالح بن رزيك الأرمني الأصل، الشيعي المغالي،
فقدم إلى مصر وتولى الوزارة بعد هرب عباس، ولما مات الفائز أراد الصالح أن
يولي مكانه شيخًا من الفاطميين، فأسر له في مجلس المبايعة أحد أصدقائه بأن سلفه
في الوزارة كان أحسن تدبيراً منه؛ لأنه لم يسلم نفسه لخليفة لم يتجاوز الخمس
سنين، فاعتدها نصيحة وسمى الحدث عبد الله بن يوسف خليفة ولقبه بالعاضد
لدين الله، فنشأ مستعبداً للوزير صالح وتزوج ابنته وسماه ملكًا ثم سلطانًا، وأشرب
منه الغلو في التشيع، وقد أحفظ لقب الملك أو السلطان قلوب أهل الخليفة على
الوزير، فأرسلت له عمته من ضربه ضربًا مبرحًا انتهى بموته (انظر إلى الاعتناء
بشرف الألقاب الضخمة عند أرباب العقول السخيفة، فقد قتل الصالح لقبه مع أنه لم
يزده سلطة ونفوذاً) .
أما سيرة هؤلاء الخلفاء ووزرائهم: فقد كان العزيز أديبًا شجاعًا محبًّا للصيد،
وفوض أمر الجند إلى جوهر القائد فاتح مصر ومؤسس الأزهر، وولى الوزارة
يعقوب بن يوسف وقرن اسمه باسمه وأمر أن تكون المكاتبات الرسمية باسمه،
وتختم الأوامر بختمه، فأحسن هذا الوزير السيرة وكان فاضلاً مصلحًا، فحسنت
حال البلاد في عهده، ولكن تفويض الأمر إلى الآحاد إذا جاء بالخير يومًا يجيء
بالشرور أيامًا، فقد ولي بعد العزيز ولده الحاكم، فطغى الوزير أرجوان الوصي
عليه وبغى، كما قلنا آنفا، ثم لما رشد الحاكم كان رشده عين الغي، فإنه لم يكد
يستبشر العلم ببنائه (دار الحكمة) وما اجتلبه إليها من الكتب القيمة وإباحتها لكل
قارئ وناسخ حتى غشيت العلم والدين والمسلمين والذميين ظلمات من ظلمه
واستبداده وكفره وعناده المتولد ذلك كله من مرض في دماغه وخلل في عقله.
فقد ظهر في عهده مذهب الضرارية نسبة لرئيسهم ضرار أستاذ حمزة صاحب
الرسائل الكثيرة في بيان المذهب الذي يدعو إلى عبادة الحاكم، فنصرهم الحاكم، ثم
ادعى الألوهية وفتح سجلاًّ لكتابة أسماء المؤمنين به، فكتب بالتسليم له نحو سبعة
عشر ألفا، ولقد كانوا كلهم أو جلهم مكرهين لأنه كان ينتقم أشد الانتقام ممن يخالفه،
ولكن مدرسته (دار الحكمة) ودعاته دعاة الفتنة قد أضلا خلقًا كثيراً، وتأسس بذلك
مذهبه وثبت، حتى إن في الناس من يعبده حتى اليوم! ! فهل كان المسلمون بهذا
الاستسلام مهتدين بهدي الإسلام!! حاش لله، أليس هؤلاء الرؤساء الضالون هم
الذين شوهوا وجه الدين وانحرفوا بأهله عن صراطه المستقيم، ألا يحق لمجموع
الأمة أن يقول في هؤلاء السادة {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ *
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: ٦٧-٦٨) .
والحاصل أن الحاكم كان يسفك الدماء بغير سبب ويظلم أهل الذمة بدون سند،
فقد هدم الكنائس في مصر والقدس، ثم بنى كنيسة القيامة على نفقته، وكان يأمر
وينهى بما لا يعقل له معنى، كالأمر بسب السلف قولاً وكتابة على الجدر بألوان
مختلفة، وكالنهي عن أكل الملوخية والجرجير وبيع الزبيب، وقد جاء من بعده
المستنصر، وكان أذنًا إمعة فاسقًا ضعيف الرأي، فكانت الخلافة اسمًا بلا مسمى،
وفي عهده ادعى رجل أنه هو الحاكم، وكان يشبهه فتبعه قوم واجتمعوا عند قصر
المستنصر وصاحوا: هذا هو الحاكم، فنكلت بهم الدولة.
وقد استبدت أم المستنصر بالأحكام وتلاعبت بتغيير الوزارة، وخرج معز
الدولة والي حلب على الخليفة وحاول الاستقلال، فأرسل إليه الجيوش المصرية،
فغلبها ثم لم يشأ الهجوم على مصر، ولكنه أرسل زوجته وابنه ليعقدا الصلح مع
الخليفة، فاستمال الخليفة جمالُها البارع واستنزله عن حلب لزوجها!! وخرج عليه
الأمير معز بن باديس في المغرب وجعل الخطبة باسم القائم بأمر الله العباسي،
فحاربه جيش المستنصر ست سنوات فدوخه ولكن نفوذ المستنصر انتشر حتى إن
أمير اليمن عليًّا بن محمد الصالحي خطب باسمه، بل إن الأمير أرسلان السباسيري
قائد جيوش الخليفة القائم بأمر الله العباسي رفض الطاعة لخليفته ورفع في بغداد
العلم الفاطمي الأبيض ودعا للمستنصر على منابرها سنة، وفعل مثله أهل واسط
والكوفة وأكثر المدن الشرقية الكبيرة، واضطر القائم بأمر الله أن يوقع على صك
يتضمن أن الحق في الخلافة كله للخلفاء الفاطميين، ثم دب نفوذ المستنصر إلى
خراسان وشرقي بلاد فارس، ولولا أن حاكم تلك البلاد رأى أن رسوخ قدم العلويين
هناك يضره فأوقف سير نفوذهم وسار بجيشه إلى بغداد، فأعاد السلطة العباسية -
لبلغ نفوذهم آخر بلاد العباسيين.
وأما مكة المكرمة فكانت تتنازعها السلطتان فتغلب هذه تارة وهذه تارة.
لما قوي الخلل استفحل أمر الأتراك وكانت أم الخليفة استكثرت من أبناء
جنسها السودان وجعلتهم مناصبين للأتراك، فسفكت بينهما دماء غزيرة، وكانت
بلاد مصر قسمين: الوجه القبلي (الصعيد) في قبضة السودان، والوجه البحري
في قبضة ناصر الدولة الوزير، وقد ضيق هذا على الخليفة بعد ما استنزف الأتراك
ثروته ونهبوا قصره، حتى لم يبق له ما يلبسه إلا الأسمال الخلقة البالية التي لا تكاد
تستر عورته، ثم أشفق عليه فعين له مائة دينار في الشهر. ولما لم يبق للأتراك ما
ينهبون اقتسموا المكتبة العلمية، وكان فيها نحو عشرين ألف مجلد، وكان لحاكم
الإسكندرية ابن المحترق قسم منها بعثوا به إليه فنهبه العربان وأخذوا جلود الكتب
للأحذية وأحرقوا الباقي.
وقد اغتنم بدر الجمالي نهزة الخلل فاستقل في سوريا ثم استدعاه المستنصر
للقاهرة مستنصرًا به فجاءها وقتل أمراءها عن آخرهم، ثم أسرف في قتل أمراء
القطر وأصحاب النفوذ فيه حتى أخضع البلاد، فقلده الخليفة السيف والقلم وإمارة
الجيوش فانفرد بالحكم وسار سيرة حسنة في إصلاح البلاد وترقية الزراعة والتجارة
وتشييد المباني الضخمة من المساجد وغيرها. وقد خرجت صقلية (سيسيليا) في
عهد المستنصر من سلطة المسلمين لإهمال أمرها مع خصبها وعظمها.
وكان الآمر بأحكام الله مولعًا بالملاهي مغرمًا بالنساء، ولا سيما بالبدويات
فقتله الباطنية وهو قاصد زيارة معشوقة له بدوية. وتولى بعده ابن عمه الحافظ لدين
الله وكان غرًّا بعيدًا من السياسة ومذاهبها مقتنعًا بالسلطة الدينية (الكاذبة) ومفوضًا
أمر الإدارة إلى الوزراء الذين قتل حسادهم خيارهم لقربهم منه. وتولى بعد الحافظ
ابنه الظافر بأمر الله كما قلنا وكان منقطعًا لسماع القيان والاستمتاع بالحسان غير
مبالٍ بما يتهدد شرقي ملكه من الصليبيين وغربيه من أمير صقلية الذي زحف إلى
مصر. ثم انتهى هذا الخلل بمجيء الملك الحازم صلاح الدين الأيوبي الذي أزال
هذه الخلافة الفاسدة المضرة وأسس الدولة الأيوبية خاضعة للخلافة العباسية الاسمية.
وأقبح شيء حصل في خلافتهم الدعوة إلى مذهب الباطنية، فإن الدعوة إلى الدين
من مقوماته وقد أهملها المسلمون في كل عصر وقام بها دعاة الفاطميين لأجل إبطال
الإسلام وسنشرح ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
وأما العثمانيون فلم يكن قيامهم بدعوى الخلافة الدينية، بل قاموا بعصبية الملك،
وأول من فطن للرياسة الدينية عاقل زمانه السلطان سليم ياوز، ولو تم له ما
يتمنى لبنى للإسلام بناء لا ينقص، فقد كان من أمانيه جعل اللغة العربية لغة الدولة
الرسمية، ومد نفوذه في البلاد الإسلامية كبلاد العرب والهند، وسنبين ذلك وفوائده
في فرصة أخرى، ثم لم يكن لاسم الخلافة شأن في آل عثمان حتى جاء مولانا
السلطان الحالي عبد الحميد خان أيده الله تعالى فأحيا هذا اللقب الشريف واجتهد في
جمع كلمة المسلمين عليه، وسنكتب مقالة مخصوصة في هذا الموضوع نبين فيها
رأينا فيما تحيا به الخلافة الإسلامية الحياة الطيبة إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))