للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعليم الديني

لا نعرف بلادًا إسلامية أثَّر فيها التفرنج، كما أثر في مصر. وأغرب مظاهر
هذا التأثير ما جرى منذ أشهر من الخلاف بين المسلمين، في تعليم الدين
بالمدارس، بل وفي فائدة تعليم الدين وعدم فائدته، وإمكان الاستغناء عن الدين في
تهذيب الأخلاق، وتربية النفوس.
فتحت باب البحث في ذلك الجرائد، وتبعها الناس كعادتهم فمن قائل: إن
موضع تعليم الدين البيوت لا المدارس، وإنه ينبغي للحكومة أن تبطل تعليم الدين
من مدارسها. ومن قائل: إن ما يعلم في هذه المدارس كاف، لا حاجة إلى الزيادة
عليه. ويقابل هذا القول، طلب أعضاء مجلس الشورى والجمعية العمومية زيادة
التوسع في تعليم الدين بهذه المدارس. ووراء هذه الأقوال والآراء ما كتبه بعض
الناظرين في آراء فلاسفة أوربا، ونشر في جريدة المؤيد من بيان وجه الحاجة إلى
تعليم الدين، وبيان الاستغناء عنه، ومن قال بذلك من علماء الغرب.
ومما يتشدق به المقلدون لأصحاب الآراء الفلسفية الناقصة، قولهم أنه يمكن
الاستغناء عن الدين، بالتربية الأدبية العقلية، المبنية على الإقناع بضرر الرذائل،
ونفع الفضائل، كأن يقول المعلم للتلميذ: إن الكذب قبيح، ومقترفه محتقر بين
الناس، لا يوثق بقوله، ولا يعتد بشهادته، ولا بخبره، وإن الخمر ضارة؛ تذهب
بالصحة والمال. ومن هؤلاء من يرى أن هذه الطريقة أفضل من طريقة الدين
المبنية على التخويف من عذاب الآخرة؛ لأن في هذا التخويف من إضعاف النفس،
وإيقاعها في الأوهام ما فيه على زعمهم.
ومن أهل الدين الراسخ من سرى له شيء من أوهام المتفلسفة، فصار يرى
أن تعليم الدين والتربية عليه في الصغر ضار، ولكنه يجب بعد بلوغ العقل أشده؛
لأن الدين عبارة عن فلسفة روحية، والمبتدئ ليس أهلاً لتلقي الفلسفة.
قد استعجل متفرنجو المسلمين جدًّا، في جعل مسألة التعليم الديني محل بحث
ونظر، واستعجل المتفلسفة منهم في الحكم بأن الإقناع العقلي كافٍ في تهذيب
الناشئين، ومُغنٍ عن الأخذ بالدين أو خير منه، فإن أئمتهم من غلاة الملاحدة في
أوربا لم يظفروا بإقناع شعب من شعوبهم برأيهم هذا، ولا يزال جميع
الأوربيين يقيمون بناء التربية والتعليم على أساس الدين، على أن حاجتهم إليه
دون حاجتنا لوجوه، منها انتشار التعليم الأدبي والإقناعي في جميع طبقاتهم، حتى
إن بعض بلادهم لا يوجد فيها أمي ولا أمية، ونحن عاجزون عن تعميم التعليم
بدين أو بغير دين، فهل من الصواب أن تجعل المتعلمين منا على قلتهم
غير متدينين، وهم القدوة لسائر الأمة؟ أم الصواب أن يسعى هؤلاء النفر من
المتفلسفة، إلى محو الدين من الأمة برمتها متعلمها وأميها. وهل يظنون أن جميع
أفراد الأمة يكونون حينئذ فلاسفة أو متفلسفين مثلهم، يتركون الشرور لقيام الدليل
العقلي على ضررها أو منافاتها للشرف؟
قلما تجد أحدًا من أصحاب هذا الرأي العقيم تاركًا للمعاصي والشرور؛ لأنها
ضارة بالمجتمع، أو مخلة بالشرف، ومن ترك ذلك ظاهرًا لا يتركه باطنا، إلا من
تربى منهم تربية دينية حقيقية، طبعت في نفسه ملكات الفضائل طبعًا، عجزت عن
محوه نزغات الفلسفة الناقصة.
يمكن أن يجمع للناشئ بين الإقناع والدين؛ بأن يبين له ضرر الرذائل
والمعاصي في سياق حكمة تحريمها، وبيان محاسن الفضائل ومنافعها في سياق
حكمة إيجابها أو استحبابها، وإلا تعسر الإقناع أو تعذر؛ لاختلاف الأفهام في حقيقة
الشرف، والخير، والشر، والنفع، والضر. فإذا قلت للناشئ: إن الزنا قبيح أو
مخل بالشرف، لا يمنعه ذلك أن أقنعه بأن يأتيه سرا؛ لأن أمر الشرف منوط بنظر
الناظرين وعرفهم. وإذا قلت له: إنه خطر على الصحة؛ لأنه مدعاة للإسراف،
أو مجلبة لبعض الأدواء. لم يكن لقولك من التأثير - إن أخذ بالتسليم - إلا العزم على
الاقتصاد فيه، والحذر من غشيان المصابات بالأدواء، ويظن أن ذلك مما يسهل
عليه، وربما وجد من الناصحين من يقول له: إن ترك ذلك العمل ضار بالصحة،
فكانت نصيحته أقرب إلى القبول من نصيحتك. وإذا قلت له: إن لهذه الفاحشة
غوائل اجتماعية: كاختلاط الأنساب، وقلة النسل، وإثارة الشرور بين المتنازعين
فيها عند المشاركة، فلا نطمع منه إن عقل قولك، بأن يترك لذته الثائرة حبًّا
بالمصلحة العامة. ولكن أكثر الذين يتربون تربية دينية صحيحة، لا يستحلون
الفاحشة ويستهينون بها كما يفعل من فقدوا ذلك، وإنك لتجد في كل بلد يدين أهله
بحرمة هذا الفاحشة كثيرين يتقونها خوفًا من الله -عز وجل -على ضعف العلم بالدين
وعدم التربية عليه، ولولا الخرافات التي زلزلت العقائد، وشوهت وجه الأحكام:
كالاعتماد على الكفارات، والشفاعات، والغفران، لكان وقوع هذه الفاحشة من
المتدينين من النوادر.
وقل مثل ذلك في الخمر، فإن المتعلمين على الطريقة التي يطلبها المتفرنجون
والمتفلسفون؛ أعرف من غيرهم بما فيها الضرر، وهم مع ذلك أكثر شربًا لها من
سواهم. وأضف إلى ذلك جريمة القمار، وما فيها من المضار، على أن المتفرنجين
والمتفلسفين منا لا يحرِّمون بعقولهم هذه الموبقات الثلاث، التي يجاهدها فلاسفة
أوروبا بعقولهم، وعلومهم أشد الجهاد، ويعدونها شر غوائل المدنية الأوروبية، وهي
لا تزداد بالرغم منهم إلا انتشارا.
إن الجميع متفقون على قبح الكذب وضرره، وإنهم لأعجز عن إقناع الناشئين
بتركه مهما قويت حجتهم من أضعف مرشد ديني، وإن لم يأت بحجة أو حكمة وراء
النص، وقصارى ما يبلغه قولهم من نفس من يقبله، أن يحترس من الفضيحة بالكذب
الجلي، لا أن يتركه مطلقا.
أما زعم المتفلسفين: أن تربية الدين، قد تضر بالعقل أو النفس بما فيها من
الإرهاب والتخويف، فهو زعم باطل، لا يقوله إلا من يجهل الدين والناس،
وسنبين ذلك في فرصة أخرى.
وأما القول بأن الدين فلسفة لا ينبغي أن يتلقاه إلا المتعلم المستعد لتلقي
العلوم العالية فله وجه، وفيه قصور، فإن الدين له طرفان: أدنى وهو الهداية
العامة لكل مكلف، وإن أميًّا جاهلا. وطرف أعلى وهو كما قيل: حكمة وفلسفة.
والصواب أن يعلم التلميذ في المدرسة الابتدائية، ما يليق به من الطرف الأول،
ويترقى به تدريجا. يعلم في السنين الأولى مع القراءة بالحكايات عن الأشياء، أن
الله -تعالى- هو الذي أعطى كل شيء خلفه ثم هدى، فإذا كان موضوع درسه
في النحل مثلا: يذكر له بعد شرح ما يليق بفهمه من حالها وأعمالها، أن الله -
تعالى- هو الذي خلقها، وألهمها أن تعمل لحفظ حياتها هذه الأعمال، ويترقى به في
ذلك.
ويعلم مع الإلهيات على هذا النحو شيئًا وجيزًا من سيرة النبي - صلى الله
عليه وسلم - وأخلاقه، وآدابه، ويذكر له أن الله - تعالى - ميزه هو وأمثاله من
الأنبياء بعلم خاص بهم دون سائر الناس، يهدون به الناس إلى الحق والخير، كما
ميز النحل بعلم خاص بها لا يشاركها فيه غيرها، وأما العبادات: فيجب أن
يتعلمها الناشئون بالعمل لا بالقول، وكذلك العامة اتباعًا للسنة السنية (صلوا كما
رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وأما تعليم المبتدئين فلسفة السنوسي وأمثاله في
الإلهيات: كالصفات العشرين، فهو من العبث الذي يعد جناية على الدين، من ينتقده
فإني معه أول المنتقدين، والله على ذلك من الشاهدين.
سألت أحد الفضلاء المستمسكين بالدين عن ولد له، لعله في الثانية عشرة
أيصلي؟ فقال: لا أدعه يصلي الآن؛ لأنه لا يعقل معنى الصلاة، فإذا بلغ السن
التي يفهم فيها معنى الصلاة، فإنه يصلي.
هذا الوالد الذي يرى هذا الرأي من أبناء كبار الباشوات، وقد تعلم في أوربا
وتقلد بعض الأعمال العالية في الحكومة، وهو يفهم من معنى الصلاة، ما لا يفهم
أكثر أهل الأزهر؛ لأنه قرأ الإحياء قراءة استهداء، ويقل فيهم من قرأه، وكثير من
مدرسيهم لا يعرف عدد أجزائه، ولا رأى منها شيئًا، وهو على ما نعتقد غير
مصيب، ولعمري إنه ينبغي لمن يرى رأيًا يخالف ما درجت عليه أمته، أن لا
يتعجل العمل به، بل يبحث، ويستشير، ويناظر من يعلم، أو يظن أنهم أهل
للبحث في ذلك، لعله يرجع عن رأيه أو يمضي فيه على بينه تامة، ولا يعتد في
هذا المقام بتجربة الواحد والآحاد.
نقول في الصلاة ما قلنا في الدين بجملته، إن لها طرفًا أدنى وطرفًا أعلى، ومن
فوائد حمل الناشئ المميز على الصلاة: تعويده الطهارة، والوضوء، ومنها
توليد الشعور الإجمالي بالعبادة في قلبه، وهذا شيء عرفناه بنفسنا، ورأينا أثره في
غيرنا ممن تربوا تربية دينية، فلا يصح لمن لم يذقه أن ينكره، ومنها تعويده
المحافظة على المكتوبات في أوقاتها، فإن كل عمل يؤدى بنظام في أوقات معينة،
يحتاج فيه إلى التعويد في الصغر، فقلما يحافظ الإنسان على عمل منتظم لم يتعوده،
وإن هو اعتقد نفعه في الكبر. فأنا اعتقد أن الرياضة البدنية من الضروريات لذي
الأعمال العقلية مثلي، واستحث عزيمتي للارتياض كل يوم، فلا تواتيني إلا في
بعض الأيام، وإنني أعاتب نفسي منذ سنين على هذا الإهمال والتقصير، ولو لم
أكن مواظبًا على الصلاة من الصغر، لما بعد أن أترك بعض أوقاتها تكاسلاً أو تأوّلا.
ومن فوائد المواظبة على الصلاة قبل البلوغ، أن المواظب عليها لا يقع بعد
البلوغ في مهلكة الشبان، التي يعبر عنها كتاب العصر بالعادة المضرة، وناهيك
بشرورها ومضارها، وإذا هو اجترحها لا يفرط فيها، فإن لم يتركها لأنها محرمة،
امتنع من الإسراف فيها؛ استثقالاً لتكرار الغسل، وهذا ضرب من ضروب
نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، والناس عنه غافلون.
تعليم الدين
في المدارس المصرية
بحث قوم في تعلم الدين بمدارس الحكومة، فمنهم من قال بوجوب الزيادة فيه،
ومنهم من قال: إن ما فيها كاف، ومنهم من قال: إنه لا ينبغي أن يعلَّم الدين في
المدارس، وإنما موضع تعليمه البيوت، وهم يعلمون أن تعليم البيوت منوط بالنساء،
وأن النساء المصريات لسن على شيء من علم الدين، ولا من علم الدنيا الذي يؤخذ
بالتلقين , وقد رددت الجرائد هذه الأقوال، ولم أر فيما قرأته فيها بيانًا صحيحاً لما
يجب أن يكون عليه هذا التعليم في هذه المدارس، ولا في غيرها. وقد طلبت
الجمعية العمومية من الحكومة التوسع في تعليم الدين بمدارسها، فقررت نظارة
المعارف زيادة دروسه في المدارس الابتدائية، فانتقدت ذلك الجرائد التي لا يرضيها
من الحكومة شيء ولم تبين ما هو الصواب. وعندنا أنه يجب أن يكون معظم هذه
الدروس في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في سيرة الخلفاء الراشدين إن
اتسع لها الوقت، وإلا كانت عبثا.
وقد وجد القبط فرصة في هذه الأيام لطلب كان قد سبق لهم فلم يجب، فطلبوه
فأجيب الآن، وهو أن تعلَّم الديانة النصرانية في هذه المدارس أيضا وقد عُدَّتْ إجابتهم
إلى هذا الطلب غريبة؛ إذ لا يعهد تعليم دينين في مدارس حكومة من حكومات
الأرض، بل لا تسمح حكومة أوربية أن يعلم في مدارسها مذهب من مذاهب الديانة
المشتركة بين أهل المملكة، غير مذهب الحكومة، أعني أن حكومة إنكلترا التي
تدين بمذهب البروتستانت، لا تسمح لرعيتها من الكاثوليك أن يعلموا مذهبهم في
مدارسها.
وجم المسلمون لهذا العمل وكثر كلامهم فيه، ولو خاضت الجرائد فيه لكان هو
الشغل الشاغل للقطر كله، ولكنها سكتت لما نعلم ويعلم سائر العقلاء العارفين بالمأزق
الذي وضعت فيه نفسها. وقد سألني كثير من المتفكرين عن رأيي في ذلك، وكان
منهم بعض المدرسين في المدارس والأزهر، فقلت ما حاصله: إن للمسألة وجهًا
دينيًّا، ووجهًا سياسيًّا، فهي من الوجه الديني نافعة للمسلمين؛ لأن التعليم الديني
في المدارس كان نائما فهي توقظه، أو كان ميتًا فهي تنفخ فيه شيئًا من روح الحياة.
وأما من الجهة السياسية فهي ضارة بهم؛ لأنها من أمارات كون الحكومة
ليست إسلامية، والذنب في هذا على أهل الشغب من المسلمين الذين أخذوا على
أنفسهم مناصبة القوة المحتلة، وإظهار العدوان لها، ومحاولة إقناع الجمهور بذلك،
وبأن كل من يعمل معهم، أو يعرفهم، فهو عدو للوطن خائن للأمة. ومن العجائب
أن هؤلاء المشاغبين قد ظلموا اسم الإسلام والمسلمين؛ إذ مزجوه بكلامهم، وأدخلوه
في سياستهم الأفينة حتى ظلموا المسمى، لا بتعليم دين آخر في مدارس الحكومة؛
فإن هذا نافع له غير ضار به كما قلنا آنفا، ولكن بما أحدثوا في نفوس الأوروبيين
من أن المسلمين يريدون الاجتماع باسم الإسلام؛ لمقاومة سلطتهم في الشرق، وهذا
غير صحيح، وإن تبجح بما يدل عليه طلاب المال والجاه، باسم الإسلام ومصر،
وقد رأينا بوادر شرور سياستهم، ونعوذ بالله من أواخرها.
ويظن بعض الناس أن تعليم النصرانية في المدارس، ربما يكون مثارًا
للتعصب الديني الجاهلي، ونظن أنه لا خوف من ذلك. ويظن بعضهم أن هذا يكون
سببًا لترك التلاميذ من القبط لحضور دروس القرآن، وحفظ ما يحفظ عادة منه،
وأن ذلك يكون نقصًا في اكتسابهم ملكة اللغة العربية، وهذا معقول ولكن أكثرهم
لا يتركون القرآن فيما أظن.