للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استقالة اللورد كرومر وتقريره

ما كاد اللورد كرومر يتم تقريره السنوي عن مصر والسودان، حتى عرض
له في معدته مرض شديد حتى صار يُغَذَّى بالحقن، وحتى لم يسطع الحفاوة بأخي
ملك الإنكليز الذي زار مصر في هذه الأيام كما يجب، وحتم عليه الأطباء الاستقالة
من منصبه، وترك الأعمال العقلية بتة، فكتب إلى حكومته بذلك؛ فرَاجَعَتْه
عسى أن يثني عزمه؛ فلم يفد ذلك، فقبلت استقالته مع إظهار الأسف العظيم على
اضطراره إلى ترك الخدمة، والثناء العاطر عليه الذي شارك الحكومة فيه جميع
أحزاب الأمة.
وقد صرحت الحكومة تصريحًا رسميًّا بأن سَتُسَيَّر في مصر على طريقته،
وتعمل بما أرشد إليه في تقريره الأخير، وهذا التقرير هو أشد التقارير وطأة على
الوطنيين؛ لا سيما الذين يعرفون بالحزب الوطني، من حيث ما يراد فيه من
تغيير نظام الجنسية المصرية، ومحاولة إقناع دول أوروبا بترك الامتيازات،
والاستغناء عنها بمجلس تشريع وطني؛ معظم أعضائه من رعايا هذه الدول؛
وباقيهم من الوطنيين.
ومما نقل عن التقرير، فكان شديد الوقع على نفوس المسلمين، كلام في
الشريعة الإسلامية فحواه: أنها لا تصلح لهذا الزمان. وكلام فيما يسمونه الجامعة
الإسلامية، وكلام عن المستر دنلوب في اللغة العربية، وإننا ننتظر صدور نسخة
التقرير العربية؛ لنقرأها ونبين ما هو الحق في الشريعة، ومعنى كونها خاتمة
الشرائع الإلهية.
أما اللورد نفسه فهو بما عمل في مصر، يعد من أعظم السياسيين في هذا
العصر، وقد اعترف له الوطنيون مع الأجانب بالنزاهة التامة، وترقية مالية البلاد
وتكثير مواردها، واحترام استقلال القضاء والحرية الشخصية فيها، وناهيك بحرية
المطبوعات، ويشكو منه الوطنيون أنه لم يرق المعارف، ولم يزد مصر إلا بعدًا
عن الاستقلال.
ويقولون: إن نجاحه الذي ظهرت به عظمته، يقوم على ثلاثة أركان: مزاياه
الشخصية وثقة حكومته به، ومساعدتها إياه في كل ما يطلب، وطول الزمن الذي
صرفه في مصر، ونسوا ركنًا رابعًا: وهو طبيعة مصر وأهلها، فمصر تواتي كل
حاكم قوي، وتخضع لإرادته في كل ما يريد منها، ولولا استعداد القابل لما ظهر
استعداد الفاعل، والحكيم من يراعي في عمله الاستعداد الطبيعي فيما يعمل فيه،
ولو وجد في أمرائها رجل كاللورد كرومر، لعمل فيها خيرًا مما عمل اللورد؛ لأن
أميرها كان يراعي مصلحتها من كل وجه خالصة لها، واللورد كان ينظر إلى
مصلحة دولته أولا، وإلى مصلحة مصر ومصالح دول أوروبا ثانيا. وقد اهتزت
مصر وأوروبا لاستقالته، وخاف الماليون على أموالهم، والأحرار على حريتهم من
بعده، واستحسن بعض النزلاء والوطنيين أن يعمل له تذكار في مصر. وكانت
جريدة المؤيد و (الجريدة) ، أكثر الجرائد المصرية اعتدالا في الكتابة عنه.
وأفضل ما استفادت مصر في هذه المدة؛ مدة اللورد كرومر أو الاحتلال،
استيقاظ الشعور بوجوب الاستقلال الذاتي، أو الاعتماد على النفس في الرقي.
استيقظ هذا الشعور في بعض النفوس، ولولا أن أكثر الجرائد شغلت الأمة عنه
بالأماني والأوهام؛ لانتشر انتشارا عظيما، ولجاء بالإصلاح المبين.
شغلت الأمة عن نفسها بمقاومة الاحتلال؛ ولكن بالأماني والغرور، وبالطعن
في الحكومة؛ لأنها تواتي الاحتلال، وبمطالبة الحكومة مع ذلك بكل ما يرقيها،
ويرفع شأنها، بذلك نسيت نفسها، فلم تتعاون على الأعمال الاستقلالية، ولم يوجد
فيها معاهد للتربية الملية، والتعليم الذي يقصد به الرفعة والكمال؛ من غير طريق
الحكومة. بل لم يوجد فيها عون ولا نصير، لذلك الأب البر الرحيم (الأستاذ الإمام
رحمه الله) الذي أراد أن ينتهز هذه الفرصة؛ لإصلاح الأزهر على عمله هذا،
ولكنه وجد بعض الأعوان على النهوض بجمعية خيرية إسلامية، فنهض بها.
هذا وقد ابتدأت الأمة؛ تشغل نفسها بما يوهمها الموهمون من سياسة خلف
اللورد كرومر، وهو أنها ستكون مرقية للشؤون المعنوية، كما رقي اللورد كرومر
بالشئون المادية.
وإننا ننصح لها بأن لا يشغلها عن استعدادها الذاتي شاغل، وأن تعلم أن
من لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وأن أفضل ما يمكن أن تستفيده من الإنكليز هو
تمكينها من ترقية نفسها بالتربية والتعليم الذي تقوم به، وهي بثروتها قادرة عليه،
وما بينها وبينه إلا أن تتوجه بتوفيق الله - تعالى - إليه.
ويظن أن الأمير سيكون أشد مواتاة؛ للسير (ألدن غورست) خلف اللورد
كرومر على عمله بمصر منه لسلفه، وأن السير يكون أكثر تساهلا من اللورد مع
الماليين؛ فيما ينشئون من الشركات، ويعمرون من أرض الحكومة، ولا يظن أنه
يكون أوسع منه صدرًا لمشاغبات الصحف، وأقرب مودة للحرية، وجملة ما يقال
أن السياسية الإنكليزية لا تتغير في مصر؛ بذهاب إنكليزي ومجيء إنكليزي.