للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي


تاريخ المصاحف
(٢)

هذا ما وعدنا بنشره مما كتبه صاحبنا موسى أفندي جار الله الروسي قال:
(قال العلماء: أول ما نزل من القرآن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ
الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: ١-٤) ولم
ينزل بعده شيء إلى ثلاث سنوات (وتسمى هذه السنوات زمن فترة الوحي) ، ثم
أخذ القرآن ينزل في تضاعيف عشرين سنة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: ١٠٦) ، {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: ٣٢) ، فمنه ما نزل مفرقًا وهو غالب القرآن، ومنه ما نزل جمعًا
كالفاتحة، والإخلاص والكوثر وأغلب الأنعام. وكلما نزل عليه صلى الله عليه
وسلم آية أو سورة وسري عنه، كان يُقرئ الصحابة ما نزل ويستحفظهم
فيحفظونه على الفور عن ظهر قلب، ويعتنون بذلك تمام الاعتناء؛ لأن الحفظ
الحرفي في عصر الرسالة وزمن النزول كان من أعظم العبادات وأقرب القرب،
وكانوا إذا حفظوا آية من النبي - عليه السلام - يترددون عليه غير مرة؛ ويتلونها
أمامه حتى يزداد تثبتهم من حفظها وأدائها، ويسألونه هل حُفظت كما أنزلت حتى
يقرهم عليها، وبعد إتقان الحفظ والتثبت في تمام الضبط، أخذ كل واحد منهم ينشر
ما حفظ: كانوا يعلِّمونه للأولاد، والصبيان، وللذين لم يشهدوا النزول ساعة الوحي
من أهل مكة والمدينة، ومن حولهم من الناس، فلا يمضي يوم أو يومان إلا وما
نزل محفوظ في صدور جماعة غير محصورين، وقد عين جماعة عظيمة من
الصحابة على حفظ القرآن وإقرائه، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى
المدينة قبل الهجرة جماعة من حفظة الصحابة؛ يعلمون القرآن لأهل المدينة
وأولادها، وكان الرجل إذا هاجر إلى المدينة دفعه النبي- عليه السلام -إلى رجل
من أولئك الحفظة يعلمه القرآن، ولما فتح مكة ترك فيها معاذ بن جبل لذلك. وكان
من أكابر الصحابة - وهم ألوف- من يعتني بتعرف فقه القرآن ومعانيه وإتقانه
حفظًا وكتابة. كانوا لا يأكلون نهارهم، ولا ينامون ليلهم باهتمامهم واشتغالهم بضبط
الآيات وحروفها ووجوهها، وكان بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صيحة
وزجل بتلاوة القرآن، وكان النبي يسمع إلى الملأ منهم، ويحمد الله على أن جعل
في أمته أمثالهم.
وبمثل هدا الاهتمام التام لإتقان القرآن في صدر الإسلام، حفظه ألوف من
الصحابة في تضاعيف عشرين سنة.
وحيث إن القرآن كان ينزل مفرقًا منجمًا، ويحفظه الذين يعتنون به على مهل
ومكث في تضاعيف سنوات كثيرة، وذلك أعون في الحفظ وأيسر للذكر. وأكثر
من حفظه كان شرع في حفظه من صباه، وزد عليه ما كان للنبي - عليه السلام -
المعصوم من نسيان القرآن، من كمال الاعتناء والاهتمام بالترغيب في حفظه،
والأمر بتعاهده، فكل من تأمل أدنى تأمل، يتبين ويقطع أن القرآن قد حُفِظ في
الصدور بتمام الإتقان وأرسخ الحفظ وأتم الضبط وكامل البيان، وقد نطقت
الأحاديث، ودلت الآثار على أن النبي- عليه السلام - كان يوقف أصحابه على
ترتيب آيات السور، ويعلِّمهم مواضعها من السورة نصًّا، وكان يقرأ السورة في
الصلوات وغيرها، ويسمعونه فيعرفون من ذلك ترتيب الآيات، فالصحابة ضبطت
عنه عليه السلام ترتيب آي كل سورة ومواضعها، كما ضبطت عنه نفس الآيات
وتلاوتها. وكانت السورة مرتبة لحديث أحمد وأبي داود في تحزيب القرآن، وحديث
(واثلة) في إعطاء السبع الطوال والمئين والمثاني؛ بدل الكتب الثلاثة السماوية
والتفضيل بالحواميم والمفصل، والأحاديث تدل على أن النبي- صلى الله عليه
وسلم - كان يختم القرآن وأن الصحابة كانوا يختمون عنده عدة ختمات، وكل ذلك
يدل دلالة واضحة على أن القرآن كان محفوظًا في صدور ألوف من الصحابة،
مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم عند كل واحد منهم. قال معاذ: عرضنا القرآن
على النبي عليه السلام- فلم يعب منا أحدا.
وكان للنبي عليه السلام كَتَبة؛ يكتبون فورًا كل ما نزل إليه على الصحائف
والقراطيس من الرقوق والأوراق غالبًا، وعلى الألواح وعسب النخل أحيانًا. كان
النبي -عليه السلام- يملي عليهم مباشرة، بقول: إن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا
في سورة كذا. وكان كتابة ما نزل من القرآن ملتزمة منهم. حتى زمن الاختفاء في
أوائل الإسلام، إذ كان المسلمون يتدارسون القرآن من الصحائف في البيوت، وكان
المشركون يدعون الدراسة إذ ذاك الهينمة [١] من شواهد حديث عمر قبل إسلامه مع
أخته وختنه.
وكانت العرب تكتب كل شيء نفيس أو مهم عندهم، كالأشعار الفصيحة،
والخطب البليغة من شواهد ذلك القصائد المعلقة، والصحيفة التي أكلتها الأرضة.
وكان كثير من الصحابة لهم علم بالقلم، وكان أنس بن مالك يقول: هذه أحاديث
سمعتها من رسول الله وكتبتها وعرضتها، وكثير من هؤلاء كانوا يكتبون في
الصحائف كل آية حفظوها، ويعرضونها على النبي -عليه السلام - وعين من
هؤلاء جماعة على كتابة الوحي، كانوا متمكنين من الكتابة باللسان العربي كل
التمكن كعلي وعثمان وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وأنس بن مالك وعبد الله
ابن سلام وغيرهم.
فكان النبي يملي عليهم مباشرة؛ فيكتبون ما نزل بحضرته، ويعرضون عليه
مرة بعد أخرى حتى يقرهم. بهذا الكيفية كتب القرآن من أوله إلى آخره في حياة
الرسول على صحائف وقراطيس متفرقة، وكانت هذه الصحائف والقراطيس أغلى
عندهم من أنفسهم، وأنفس من كل نفيس، وأحب إليهم من كل حبيب جليس. يدل
عليه أحاديث رويناها في تنافسهم في حفظ هذه الصحائف والقراطيس، وفي حبهم
التبرك بها أحيانًا في المجالس.
وكل ما ذكرته عن شأن حفظ القرآن في الصدور، وما أجملته بعد ذلك في
كيفية جمعه في الصحائف وأثبته في السطور، يدل دلالة قطعية باهرة على أن
القرآن زمن النبي -عليه السلام -كان مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم؛ محفوظًا
في الصدور مكتوبا على ترتيب الحفظ في السطور والأحاديث متضافرة متساعدة
في ذلك.
ولأن إهمال الحفظ والكتابة والترتيب من النبي، ومن ألوف مؤلفة من
الصحابة الذين يتيقنون أن السبب في عزهم وسعادتهم هو القرآن، وأنه هو أساس
دينهم وشريعتهم، وأنه هو الذي يقربهم إلى الله -عز وجل - والذين كانوا يبذلون
جميع ما يستطيعون وما يتصوره العقل في سبيل حفظه كما أنزل مصونًا عن أدنى
شائبة - الإهمال من مثل هؤلاء شيء محال لا ريب فيه.
ثم توفي رسول الله يوم أكمل الله لنا ديننا ورضي لنا الإسلام دينا، والإسلام
قد ظهر في جميع جزيرة العرب؛ وفيها مدن وقرى كثيرة كاليمن والبحرين وعمان
ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد
أسلم، وبنوا المساجد ليس فيها مدينة ولا قرية ولا حلة أعراب إلا وقد قرئ فيها
القرآن في الصلوات، وعلمه الصبيان والنساء وكتب. ومات رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - والمسلمون كذلك؛ ليس بينهم اختلاف في شيء أصلا، كلهم أمة
واحدة، ودين واحد، ومقالة واحدة، ثم تولى الأمر أبو بكر سنتين وستة أشهر
فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس القرآن، وجمع الناس
المصاحف جمعًا مبتدأ، كأُبيّ وعمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود وسالم. ولم
يكن بين المسلمين اختلاف في شيء زمن خلافته، وما كان من ظهور الأسود
العنسي في صنعاء ومسيلمة باليمامة وانقسام العرب أربعة أقسام:
طائفة ثابتة على الطاعة، وطائفة مانعة للزكاة، وطائفة معلنة بالردة، وطائفة
متوقفة متربصة لمن تكون الغلبة. فقد أَخرَج إليهم أبو بكر البعوث، وجهز إليهم
عصابة من المسلمين فقتل الأسود ومسيلمة، ولم يمض عام واحد حتى راجع
الجميع الإسلام، فلم تكن هذه الفتن إلا كنار اشتعلت فانطفأت للساعة. فبعد أن
سكنت هذه الفتن، أحس عمر الفاروق بضرورة جمع القرآن في كتاب واحد؛ على
مشهد من جميع الصحابة وملأ من الحفظة والكتبة، ولما استقر رأي أبي بكر وعمر
على ذلك، أحضرا زيد بن ثابت، وأبديا له ما عزماه. واستعظم زيد ذلك أولا،
واستسهل نقل الجبل، شأن كل مقتدر على عظام الأمور، يقدر الأمر حق قدره،
محتاط عاقل، لا يغفل عما يلزم عليه في القيام بأعظم المصالح عن كمال الاقتدار،
وواجب الاحتياط، وعظيم التثبت، وبالغ الجد والاجتهاد، ووفور السعي، غير
مغتر بما له من الخصال، وإن كان فردًا مفردًا فائقًا على أقرانه وأهل عصره.
ووافق أخيراً فعزم على ما عزما عليه. والإنسان مهما بلغ فى الاقتداروعلو الهمة،
قد يكون إذا وقع عليه أمر عظيم وعزمه وتصوره من جميع وجوهه؛ غير غافل عن
وسائل تحصيله وأسباب الوصول إليه يعتريه طبعًا نوع من التردد وشيء يشبه
التوقف. لكنه لا يلبث فيزول، ويمضي العازم على عزمه، وجمع أبو بكر
الحفظة المشهود لهم بالضبط والإتقان. وكان أهمهم زيد وأبي بن كعب وعثمان
وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن
السائب وخالد بن الوليد وطلحة وسعد وحذيفة وسالم وأبو هريرة وعبادة بن
الصامت أبوزيد وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص واجتمعوا
برياسة زيد بن ثابت في منزل عمر ليتشاوروا في كيفية جمعه وتخصيص أعمال
كل واحد منهم. ثم أخذوا يوالون اجتماعاتهم في مسجد المدينة؛ لكتابة القرآن.
وكلهم كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، وكانوا قد اعتنوا قبل بكتابته جملة مرار
من ذاكرتهم ليتحققوا من ضبطهم له وحفظهم إياه، وجاء من كان كتب مصحفًا
بمصحفه، وأحضروا كل الصحائف والقراطيس التي كتبوا فيها القرآن بحضرة
النبي -عليه السلام - وإملائه، وعهدوا إلى بلال أن ينادي بأنحاء المدينة، أن من
كانت عنده قطعة عليها شيء من القرآن، فليأت بها إلى الجامع، وليسلمها إلى
الكتبة المجتمعين لجمع القرآن على مشهد الصحابة، وجيء بعدد كثير من القطع،
وما كانوا يقبلون قطعة حتى يتحققوا أنها كتبت بين يدي النبى وحضرته؛ إذ كان
غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يديه، وما كانوا يفعلون ذلك إلا مبالغة
في الاحتياط، ومغالاة في التحفظ، وإيغالا في الضبط. وكانوا يقابلون القطع
بعضها ببعض لئلا يبقى مجال شك في تمام الضبط. وكتب القرآن زيد بن ثابت
جميعه. قال زيد: حتى وصلنا إلى آية {لَقَدْ جَاءَكُمْ} (التوبة: ١٢٨) من سورة
التوبة ففقدناها، وفتشناها لنجدها مكتوبة ثم وجدناها مكتوبة عند أبي خزيمة ابن
أوس بن زيد الأنصاري. وقال زيد: حتى وصلنا إلى سورة الأحزاب، ففقدت آية
من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف، قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها
فالتمسناها لنجدها مكتوبة، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ المُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: ٢٣) فألحقناها في سورتها في
المصحف وتم جمعه. وجمع عمر جميع الحفظة والصحابة وقرأه عليهم. ولم يقع من
أحد منهم اعتراض حين العرض، ولم يسمع ولم يظهر بعد أيضا. وبعد إجماع أكابر
الصحابة على هذا الترتيب في هذا المصحف، لا يمكن أن يقال أنهم رتبوا ترتيبًا
سمعوا النبي -عليه السلام -يقرأه على خلافه. وإجماعهم على هذا الترتيب
وإقرارهم عليه بلا خلاف من أحد منهم؛ أقوى برهان على أنهم وجدوا ما أفادهم
علمًا لا يدع عندهم ريبا.
فتقرر أمر القرآن تقريرًا قطعيًّا في هذا المصحف. وكان ذلك أعظم فرض قام
به سلفنا الصحابة، وأهم شيء حدث في الإسلام، وأفضل مَنّ لهم علينا إلى يوم
القيامة وتوفي أبو بكر وهو أعظم الناس أجرًا في المصاحف، وتولي الأمر بعده
عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضا، وفتحت الشام كلها، والجزيرة ومصر كلها،
ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد، ونسخت فيه المصاحف، وقرأ الأئمة القرآن
وعلمه الصبيان في المكاتب شرقًا وغربًا، بقي كذلك عشرة أعوام وأشهرا
والمسلمون لا اختلاف بينهم في شيء، ملة واحدة ومقالة واحدة. والمسلمون إذ مات
عمر، وإن لم يكن عندهم زيادة على مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى
الشام إلى اليمن فما بين ذلك، فلم يكن أقل من ذلك؛ لأن الخليفة عمر الذي كان كاد
يموت همًّا بأمر المسلمين؛ والذي حفر الخليج بعد عام الرمادة فساقه من النيل إلى
القلزم، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام لأجل
المدينة ومكة وما بينهما، خليفة هذا شأنه، لم يكن ليترك بلدًا فتحها ومدينة وقرية
تولى أمرها بلا مصحف يقرأ فيه أهلها.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))