للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*]

(١)
سأل سائل بترعة السويس هل كانت نافعة للمسلمين أو الشرقيين أم ضارة
بهم؟ فأجاب غير واحد بأنها كانت مثار المضار، وبركان الأخطار، لولاها لما
جاس الأوروبيون خلال هذه الديار، ولما تمكنت سلطتهم في كثير من الأقطار،
وأجاب واحد ممن حضر بأنها كانت نافعة أكثر مما كانت ضارة؛ إذ لولاها لكان
أهل الهند والأفغان كأهل مراكش في جهلهم وغفلتهم، وجفوتهم للمدنية وفنونها
التي وصلت إليها في هذا العصر، بل ولكانت مصر التي تزهو بعمرانها الآن خرابا
يؤدي ذكران البوم العشرات من قراها مهورًا لإناثها؛ على الطريقة التي كانت
متبعة عند البوم في الزواج على عهد إسماعيل باشا. ناهيك باليابان وما صارت إليه،
وبالصين وما تشرف عليه.
يسهل على غير الخبير المحقق في طبيعة الاجتماع، العارف حقيقة حال الهند
والأفغان ومراكش ومصر، أن يماري في القول مراءً ظاهرًا أو غير ظاهر، وأن
يستفتي أمثاله: أليس الفرق عظيمًا بين الهند التي كانت زاهية على عهد السلطنة
التيمورية، بالمعارف والصنائع الوطنية، مستغنية بنفسها عن أوروبا وسائر العالم،
وبين مراكش التي كانت ولا تزال تغلب عليها البداوة، بجهالتها، وغباوتها،
وعصيانها لكل نظام؟ أليس كل ما ينسب إلى الأفغانيين من الفضل هو تجافيهم عن
المدنية الأوروبية، ومنع الأوربيين أن يساكنوهم في بلادهم أو يتجروا فيها آمنين؟
ولولا ذلك لضاع استقلالها وكانت ولاية من ولايات الهند. ألم تأخذ مصر بأسباب
المدنية الأوروبية من عهد محمد علي باشا وهي على استقلالها؟ ألم تدخل في أول
ولاية محمد توفيق باشا في طور جديد من إصلاح، خابت به آمال طلاب الزواج
من البوم بالقرى والمزارع التي آلت إلى الخراب؟ كل هذا يقال في الاستفتاء،
ويقال أكثر منه، ويكون نص الفتوى عن كل سؤال: بلى. وهي كلمة يكتفي بمثلها
مشايخ الإسلام في الآستانة إذ يجيبون بكلمة (أولور) في مقام الإيجاب، وبكلمة
(أولماز) في مقام السلب، وبعد ذلك يأتي الحكم على الأوروبيين كافة بأنهم ما
جاؤوا الشرق بخير ما ولا منفعة، بل جاؤوا بشرور ومضار أعظمها إزالة استقلاله،
وأي خير أو نفع يوزن بسلب الاستقلال، حتى تصح المقابلة بين منافع الأوروبيين
ومضارهم في الشرق؟
هذا هو الحكم الذي يرمي قاضيه عن قوس عقيدة الجماهير، والجماهير في
الشرق جاهلون بالسياسة راغبون عنها، ويقل في المشتغلين منهم بها والباحثين
عنها من يحيط بأطراف مسائلها، ويعرف المطالب ببراهينها ودلائلها، ولولا أن
هؤلاء العارفين قليلون فينا، لما كنا نشكو مرض الأمة الذي يعبرون عنه بلفظ
التأخر والانحطاط. وهؤلاء العارفون القليلون لا يرضون بهذا الحكم، وإنهم لأعلم
من غيرهم بقيمة الاستقلال الذي عبث به الأوروبيون، وبأنه لا يوزن به شيء.
ولكنهم يعطون كل شيء حقه ثم يوازنون بين الأشياء، لا يمنعهم من ذلك أن يكون
في إحدى كفتي الميزان؛ ما يَرجَح بكل ما يوضع في الأخرى. على هذه الطريقة
القويمة نسير في بيان منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق، بعد تمهيد مقدمات
تعين على فهم مرادنا من المقابلة وهي:
(١) إننا نريد بالمنافع كل ما يزيل شيئا من شقاء الأمة أو يزيد في
سعادتها، فيدخل فيها أمور الصحة ولا سيما مطاردة الأوبئة، وأمور المعاش
والكسب ولا سيما ترقية الزراعة، وتأسيس الشركات المالية، ويدخل فيها العلم
والتربية، والآداب، وأمور الاجتماع، وتدبير المنزل، والعلم بالإدارة، والسياسية،
وأصول النظام، وغير ذلك، مما ينقل الأمة من طور أدنى إالى طور أرقى.
(٢) إننا نريد بالمضار ما يقابل المنافع بجميع وجوهها التي أومأنا إليها آنفا،
وهو كل ما تصير به الأمة إلى حال شر مما كانت عليه، في أفرادها، وبيوتها
وهيئتها العامة سواء كان ذلك من جهة البدن كالمعاش والصحة، أو من جهة النفس
كالعلوم والأخلاق والآداب، وإن شئت فقل كما يقول كُتَّاب العصر من الجهة المادية
والجهة الأدبية، ويدخل في الجهة الأدبية الدين.
(٣) إننا نريد بالأوربيين كل ما يتناوله اللفظ، لا الحاكمون منهم خاصة.
(٤) إن المقابلة التي نوازن بها بين المنافع والمضار إضافية، أي إننا
ننسب حال الأمة بعد اختلاطها بالقوم إلى حالها قبله، لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه
من الكمال، ولا إلى ما عليه الأمم الأوروبية في أنفسها، ولا إلى ما تهوى عامتنا أو
خاصتنا أن نكون عليه.
(٥) إن الكلام في المقابلة لا يتناول نيات القوم ومقاصدهم فينا، وإنما هو
خاص بالأثر الطبيعي لدخولهم في البلاد، سواء جاء على وفق ما يقصدون أو على
ضده.
(٦) إن الغرض من بيان المنافع التنويه بها، والتنبيه إلى الاستزادة منها
ومن بيان المضار، تقبيحها والتنفير عنها، ووراء ذلك تلبية نداء التاريخ بتخليد
هذه الحقيقة في ألواح الصحف، سالمة من نزعات تعصب الجاهلية، محفوظة من
نزغات الأهواء السياسية؛ لأن مدونها يحبها لذاتها، ولا يخاف في تقريرها لومة
لائم، ويحب أن يكون المسلمون وسائر أهل الشرق على هدى وبصيرة فيما يأخذون،
وفيما يتركون.
(٧) إنه لا يفقه هذا الموضوع حق الفقه، إلا من كان عارفًا تاريخ الشرق
حق المعرفة، خبيرًا بأخلاق الناس فيه، وعاداتهم، وطبائع الأمم، وأحوال
الاجتماع، وشئون السياسة، ونحن لا نكتب هذه المقارنة والموازنة لمثل هذا العالم
الاجتماعي النحرير، وإنما نكتبها للجمهور الذي لا يعرف من حال نفسه، وحال
من يعيش معهم، إلا ظواهر غرَّارة لا تنفذ بصيرته إلى شيء مما وراءها، وإن
كان يوجد في أفراده من يظن أنه أحاط بما هنالك علما، وقتله فقهًا وفهما.
من مسائل علم الاجتماع، أن الأفراد والأمم المؤلفة منها تقتبس ممن يخالطها
ويجاورها ما يناسب استعدادها. فالأفغانيون لما كانوا أهل حرب، وأولي قوة وبأس،
اقتبسوا من الأوروبيين النظام العسكري؛ وما يتبعه من الاستعداد للحرب والكفاح.
والسوريون لما عرف من استعداهم القديم للتجارة، كان أول شيء استفادوه من
الأوروبيين فنون التجارة وطرقها الجديدة حتى بذوهم في ذلك، فقد كان معظم تجارة
سوريا الكلية ببيروت في أيدي الأجانب، فغلبهم عليها من كانوا يخدمونهم من
الأهالي حتى لم يبق لهم منها إلا أقلها. والمصريون وهم أهل حرث وزرع، قد
استفادوا منهم في ترقية زراعتهم؛ ما سبقوا به جميع الزراع في المشرق. وكذلك
يكون اقتباس المضار على حسب الاستعداد، فلابد من تدبير هذه القاعدة الاجتماعية
فيما نذكر من المقابلة والموازنة في الفصول الآتية.

(٢)
نبتدئ بذكر المنافع والفوائد التي استفدناها بمخالطة الأوروبيين والاتصال بهم
وفي اقتباس علومهم ومعرفة أحوالهم وشئونهم، فنعد منها ما يسبق إلى الذهن أنه
الأهم، ونختار في سردها معدودة لفظ الفوائد فنقول:
الفائدة الأولى
استقلال الفكر
رأيت في يد أحد طلاب العلم جريدةً جديدةً، وكنت تلميذًا في فرقته، ورأيته
يغمطها، ويدعي أنه يقدر على إنشاء جريدة خير منها. فقلت له: إنني لا أدعي
مثل هذه الدعوى، فإن كنت واثقًا، فاكتب لي مقالة في موضوع اجتماعي أو
سياسي، مما تبحث في مثله الجرائد. قال: اقترح. قلت: اكتب لي مقالة في
الاستقلال، فسكت ولم يرجع إلي قولا، ولا كتب شيئا.
عزمت على أن أكتب شيئًا في استقلال الفكر، ولم أفرغ له إلا بعد ثماني
ساعات، لم تخطر في بالي فيها تلك الواقعة. ولكن كانت أول ما سبق من الذهن
إلى القلم عند الكتابة، وما أثبتها عبثا ولا فكاهة؛ بل أردت أن أنبه القارئ إلى
جلال الموضوع الذي لا أزال أجله من ذلك اليوم؛ عسى أن يهبه من انتباهه ما
يليق به لا سيما إذا كان يحب الاستقلال لنفسه ولأمته.
يكثر في الجرائد ذكر استقلال الأمم والشعوب، وقلما تذكر شيئًا في استقلال
الأفراد الذي هو أصل استقلال الجماعات الكبيرة؛ التي تسمى أممًا وشعوبا.
استقلال الآحاد نوعان: استقلال الفكر، واستقلال الإرادة. وهذان النوعان
هما الجناحان للإنسان يطير بهما إلى الكمال في العلم والعمل، ويكون حظه من
النجاح على قدر حظه من قوتهما، وحسن استعمالهما.
استقلال الفكر يكون ببلوغ العقل أشده وارتقائه إلى مستوى رشده، فإن العقل
القاصر؛ هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه، كما نرى من الأطفال،
ومن هم في حكم الأطفال من الرجال. فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في
البحث عن الحق والصواب في معارفه، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو
مصالح أمته عندما يبحث فيها، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله، إلا إذا
ظهر له أنه الحق والصواب.
إن الذي لا يعرف الحق والصواب بالنظر والاستدلال، لا يعد عالمًا ولا
سياسيا، بل لا يعد عاقلا؛ لأن ما يحفظه من أقوال الناس في الكتب والجرائد، أو
في البيوت والمحافل، لا يرفعه إلى مرتبة العقلاء الذين يميزون بين الأقوال بالدليل
العقلي، فإن الأولاد المميزين يحفظون الأقوال مثله ولا يعدون من العقلاء، إلا إذا
أريد بالعاقل من ليس مجنونا؛ يجب أن يُساق إلى البيمارستان أو مستشفى المجاذيب
فإن هذا الاصطلاح يسمح لنا أن نطلق لقب العاقل على الإمعة الذي لا رأي له،
وإنما يتابع كل واحد على رأيه؛ لا سيما إذا لم يكن متهمًا عنده بعداوته له، لسبب
من أسباب التهم.
استقلال الفكر طبيعي في البشر، كما أن ضده وهو التقليد طبيعي فيهم. فأما
التقليد فهو طبيعي في الراشدين، ولولا ذلك لما ارتقوا في علم ولا عمل، ولسار
جميعهم على ما كان عليه أول واحد منهم، فكانوا كالبهائم متساوين في علمهم
وعملهم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} (الزمر: ٩) لو ترك
الناس وفطرتهم، لأعطوا طور القصور حقه، وطور الرشد حقه. ولكن معظم
الأفراد الذين بلغوا أشدهم مستقلين في أفكارهم، مستدلين على آرائهم، ولكانت
أعمالهم على حسب أفكارهم؛ لاستقلال إرادتهم المعبر عنه بالحرية الشخصية في
عرف هذا العصر. ولكن الرؤساء المسيطرين قد تصرفوا في الفطرة تصرفًا
ذهب بالاستقلال الذي لا يتفق مع الاستبداد. ولذلك ترى أهل البداوة أقرب إلى
الاستقلال من أهل الحضارة المحكومين بسلطة استبدادية.
الحضارة كمال بشري وآفته الاستبداد، الذي يحول دون ما تقتضيه الحضارة
من كمال الأفراد، لعبثه باستقلالهم وسيطرته عليهم في علومهم وأعمالهم.
التعليم في البلاد التي تساس بالاستبداد يكون مبنيًّا على التقليد بطبع
الحكومة؛ لأن الذين يعرفون الحقائق لا يرضون أن يتحكم في مجموعهم
واحد منهم، إرادته حكم، وهواه شريعة وقانون. فاستقلال الأفكار حرب لحكم
الاستبداد وكثيرا ما كانت هذه الحرب سجالاً، والعاقبة للمستقلين.
الشرق أعرق في التقليد من الغرب، فهو أعرق في الاستبداد أيضا. وقد ظهر
الإسلام في الشرق؛ وهو يرسف كالغرب في قيود التقليد، ويئط من وزر الاستبداد
الثقيل، فكسر القيود، ووضع الأوزار. ولكن عاد الاستبداد إلى المسلمين بعد أقل
من نصف قرن. فكان كلما قوي يقوى التقليد، ويضعف الاستقلال حتى زال من
مجموع الأمة، وصار الأفراد المستقلون فيها كالغرباء، لا وليّ لهم، ولا نصير.
قاست أوربا من بلاء الاستبداد أكثر مما قاست ممالك الشرق. وحلكت
ظلمات التقليد فيها أكثر مما حلكت في غيرها. ولكن ما عتمت أن ضاء لها قبس من
علوم عرب الأندلس وغيرهم، فوجد فيها من عرف قيمته، وأنضى في استعماله
عزيمته، حتى صار ضياء ساطعا، ونورًا في تلك الآفاق لامعا، وجاءت ساعة
المشرق بطلوع الشمس من المغرب.
جاهدت أوربا أفضل الجهاد في سبيل استقلال الفكر والإرادة، حتى ظفرت
بأعدائها من رجال الدين، والملوك المستبدين، وجعلت كلمة الدليل هي العليا،
وكلمة التقليد هي السفلى، فجمعت بين عزة البداوة، ومحاسن الحضارة، فارتقت
فيها العلوم والأعمال، إلى درجة لم تعهد في جيل من الأجيال، من حيث رجع
الشرق القهقرى (وغدًا يقدمه الزمان إلى ورا) .
ما كان العلم ليدع الجهل على ما هو عليه؛ حتى يحكم فيه حكمه، ويوقع على
أهله عدله أو ظلمه، اندفعت أوروبا إلى الشرق مستعمرة للأرض، أو داعية إلى
الدين، أو طالبة للكسب، فامتزج أهلها بأهله، ووصلوا حبلها بحبله، بما أنشأوا
من المدارس، وما تقلدوا من الأعمال والوظائف، فطفق أهل الشرق يتعلمون على
الطريقة الأوروبية طريقة البحث والاستدلال، والاستنباط والاستنتاج وأنشأوا
يستنشقون نسيم الاستقلال، ويتوجهون إلى طلب الكمال.
فهذه فائدة كبرى قد استفدناها من الأوروبيين، ينبغي أن نشكرها لهم، ونحمد
لأجلها معرفتهم. وليس للمسلم أن ينكر ذلك؛ محتجًا بأن القرآن الحكيم قد أرشد إلى
هدم التقليد، وقام على أساس الاستقلال في الاستدلال، فإن هذا وإن كان حقًّا
يعترف به المنصف من علماء أوروبا، لم يكن هو المنبه في هذا العصر للشرق
عامة، وللمسلمين خاصة، ودليلنا على هذا، أن رجال الدين منا لا يزالون في
الأكثرأسرى التقليد، وأعداء الاستقلال، فيجب أن ننصف أنفسنا، ونشكر لمن نبهنا
إلى مصلحتنا.
((يتبع بمقال تالٍ))