للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار

من أحمد موسى المنوفي بكلكته
كلكته ١٧ ربيع الأول سنة ١٣٢٥
فضيلتلو أفندم صاحب مجلة المنار المحترم
من بعد إهداء التحية، أقول: حيث أفدناكم في خط خصوصي قبل هذا، بأن
غرض الفقير من مكاتبتكم والاشتراك في مجلتكم؛ هو الوقوف على حقيقة قصدكم
من إنكار تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في فهم معنى الكتاب والسنة
وأقوال الصحابة ليس إلا، فنرجوكم الإفادة عن ما إذا كان قصدكم إظهار المخالفة،
لتعرفوا فنعذركم؛ إذ لستم أول من خالف لهذا الغرض، وإن كانت الآخرة خيرًا
وأبقى، وقد يضطر الإنسان في التماس قوته إلى ما لا يجوز {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ} (الأنعام: ١١٩) ، فإن كان هذا قصدكم، فنحن نكتفي منكم بالإشارة ولو
من طرف خفي؛ لعلمنا أن ساحة عفو الله واسعة، ورحمته وسعت كل شيء،
وعليه فنكف اليراع عن الاسترسال في موضوع ولجتموه مضطرين، وإن كان قصد
حضرتكم هو رد الأمة إلى الصواب لما تحقق عندكم، وثبت لديكم من خطأ الأئمة
الأربعة أو أحدهم في فهم كلام الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة فالمأمول من
غيرتكم على الشرع الشريف؛ أن تبينوا لنا في أي موضوع أخطأ الأئمة أو بعضهم
في فهم ما ذكر، فإن بينتم لنا ذلك، فالأصل أن تفيدونا عما إذا كان أصحاب
المخطئ منهم أجمعوا على موافقته على الخطأ أو على مخالفته، بحيث تركوا العمل
بقوله بالمرة، وصار العمل على خلاف ما ذهب إليه، أم اختلفوا فمنهم من خالف
ومنهم من وافق، فإن كان الأول فإنا نلتمس من فضيلتكم مع الاحترام لشخصكم أن
تعرفونا: أولا - وجه خطأ الإمام في فهم معنى الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة
المجمع عليها. وثانيا - محل اتفاق أصحابه معه على الخطأ من ذلك العهد إلى
عهدنا هذا، فإن عرفتمونا عن ذلك ولا أخا لكم فاعلين، تبين لي صحة قصدكم،
وسلامة نيتكم، وشدة غيرتكم على الأمة المحمدية، وحرصكم على انتشالها من
مهاوي الضلالة، وحينئذ أضم صوتي مع صوتكم؛ قياما بالواجب وعلى الله إتمام
المقاصد {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران: ١١٠) الآية، (من رأى منكم منكرًا)
الحديث، وإن لم تفعلوا كما هو الراجح، علمنا أن القصد غير صحيح والنية غير
سليمة، وإنما القصد إظهار المخالفة تحيلاً لالتماس القوت، هنا يحسن بي أن أقول
لحضرتكم: إن انتظامكم في سلك محرري الجريدة، يغنيكم عن ارتكاب هذا الشطط
الذي يأباه مقام من يدعى بفيلسوف الإسلام مرة، وبالمصلح أخرى. وإن كان الثاني
وهو اتفاقهم على مخالفة إمامهم فيما أخطأ. أو الثالث وهو اختلافهم في ذلك. فقد
تحقق لدينا أن القوم لم يحابوا إمامهم، ولم يأخذوا أقواله قضايا مسلمة، ولم يتبعوه
إلا فيما تحقق لديهم بالأدلة الصحيحة؛ لأنهم لا يعتقدون عصمته، بل الإمام نفسه لا
يعتقد لنفسه العصمة من الخطأ. ولذا لا نجد إمامًا إلا وقد خالفه أصحابه في كثير من
المسائل، وضَعَّف له أتباعه كثيرًا من الأقوال، فعلام يلام المتبوع وهو مقر بجواز
وقوع الخطأ منه، وبأي دليل يؤاخذ التابع؛ وهو لم يراع لإمامه في مقابل الحق
حرمة. وإن قلت أيها المصلح: نحن لا نعتقد أن الأئمة أو أحدهم لم يفهموا معنى
الكتاب والسنة، بل فهموا ذلك. غير أنهم أو أحدهم قد يسلك سبيل القياس في
مقابل نص القرآن أو صحيح السنة أو إجماع الصحابة، بلا ضرورة ملجئة. فنقول:
إن كان لديكم من ذلك فتفضلوا بتحريره؛ لنكون لكم من الشاكرين، ولخطتكم إن
كان حقًّا من السالكين، وإياكم واتباع الهوى، وسلوك خطة المكابرة أو المغالطة،
فإنا عند ذلك معرضون، وللحق راضخون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ
يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: ٢٢٧) هذا وإن تفضلتم على الفقير المذنب بالجواب عن
اعتقاده في أن وقوع الخطأ من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ الذين قد قلدهم
في فهم معنى الكتاب والسنة جمهور الأمة إلا قليلا ممن أغواهم الشيطان من زمن غير
بعيد؛ أقل منه ممن أصيبوا في عقولهم، وزين لهم الشيطان أنهم أدركوا من أسرار
الشريعة ما لم يدركه هؤلاء الأئمة؛ حملة الشرع الشريف؛ وإن تقليد أحد الأئمة
المذكورين، أولى من تقليد من ذكرنا من الغواة على فرض أنهم على شيء من العلم
والتقوى. هل أنا الفقير مصيب في هذا الاعتقاد أم لا؟ بينوا تؤجروا ودمتم أفندم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محسوبكم المطيع
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد موسى المنوفي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بكلكته
(المنار)
تعجلنا بنشر هذه الرسالة برمتها على مجيئها قبيل إتمام المنار، وعلى قيام
القرائن السابقة واللاحقة عندنا، بل الدلائل الناطقة على سوء اعتقاد صاحبها بنا،
وظنه أنه قادر على دحض حجتنا والتنفير عن خطتنا، بل على كونها ليست شرطنا
في انتقاد المنار، وهو أن يذكر لنا المنتقد شيئًا مما نشرناه، ويبين بطلانه بالدليل
أو يطالبنا بالدليل عليه إذا نحن أوردناه غفلاً. وليس منه أن يحاسبنا على نيتنا
وكسبنا، أو يُعرِّض بسبنا وثلبنا، أو يخترع لنا رأيًا ويسألنا عنه. نشرنا الرسالة على
هذه كله؛ لنبين لمرسلها أن ما فيها ليس بالشيء الذي يسمى انتقادا، وأننا فيما نحن
عليه من البصيرة ولبينة في الدين، لا نحفل بقول من يقول أو يكتب أننا نخَطِّئ
الأئمة الأربعة، وإن كان ذلك مما ينفر عن المنار جماهير العوام، وكثيرين ممن
يعدون من الخواص؛ الذين يجلون هؤلاء الأئمة إجلالاً خياليًّا تقليديا، لا يوازي
معشار إجلالنا الحقيقي لهم رحمهم الله وجزاهم خيرًا.
وأول ما نقوله في الجواب: إن طريقتنا التي جرينا عليها في المنار ليست
من الوسائل التي يلتمس بها (القوت) - لو كنا معوزين - لأنها مخالفة لأهواء
الأكثرين وآرائهم، ومظنة لأن تكسد سوقها فيهم، وإنما يلتمس القوت من يلتمسه من
أصحاب النفوس الصغيرة؛ من حملة الأقلام بما يرضي الجمهور. وقد صرحنا في
مقدمة المنار بأننا أنشأناه ونحن نتوقع عدم رواجه، وأن أهل الخبرة والرأي
أنذرونا ذلك، ثم ظهر لنا صدق ذلك، وظل المنار أربع سنين لا يأتي من اشتراكه
إلا جزء قليل ينفق عليه، وهو الآن على سعة انتشاره لا يعد ربحه مقصودًا لمن
يقدر أن يربح بغيره؛ إذا تركه أضعاف ما يربح منه، وقد تمر السنين ولا نطالب
أكثر المشتركين بقيمة الاشتراك، بل نترك ذلك لأمانتهم، وما هذا شأن من يعمل
لأجل القوت. ولسنا من محرري الجريدة؛ كما قال في فضوله الذي يشبه سائر
أقواله في كونه رجمًا بالغيب. ثم إننا لقينا من الإيذاء في سبيل المنار ما يعرفه
الكثيرون إجمالاً وتفصيلا، ولا نطيل فإن الإخلاص صلة بين العبد وربه، ومن لم
ير في دعوتنا إلى انتقاد ما نكتب، ونشر ما ينتقد علينا، آية على أننا لا نريد إلا
بيان الحق، فله أن يسيء الاعتقاد بنا كيف شاء، وعلينا أن نسأل له العفو والمغفرة
والهداية من الله تعالى. ثم إننا نتكلم في المقصد فنقول:
ملخص الجوهر في كلامه، أننا ننكر على من نظروا فيما فهم الأئمة الأربعة
من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فاتبعوا منه ما رأوه صوبا، وردوا ما رأوه
خطأ، وسمي هذا الاتباع تقليداً؛ وهو لو وجد لا يعد تقليدا، ونحن لم ننكر ذلك
قط، فإن أصر على زعمه، فليبين لنا مكانه من المنار، وإنما ننكر التقليد في الدين
وهو الأخذ بقول القائل من غير دليل؛ لما قام عندنا من الحجج والدلائل على بطلانه
وبذلك قال الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وما أجاز التقليد إلا ضعفاء
المقلدين الذين خالفوا أئمتهم في استباحة التقليد. أما كون الأئمة أصابوا في فهم
الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؛ فهو لا يمنع بطلان التقليد في نفسه؛ إذ لا ينقض
دلائله، بل ربما يؤكده؛ لأن ما جاز لهم جاز لغيرهم؛ لأنه ليس وحيًا اختصهم الله
به، وجعله فوق كسب سائر البشر، بل هو أمر ممكن يتناوله كسب كل كاسب،
وإن تفاوت الناس فيه و {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) . ?
والحق أن المجتهد منهم ومن غيرهم يخطئ ويصيب، بل قال أهل الأصول:
إن اجتهاد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - قد يقع فيه الخطأ. ولكن الله لا يقرهم
عليه، بل يبين لهم الحق فيه، وأنى للأئمة الأربعة وغيرهم بذلك. والمقلدون يأخذون
بما صح في مذاهبهم، وإن بحث العلماء فيه، وبينوا مخالفته للدليل، وليراجع
أصول الكرخي.
أما الدلائل على بطلان التقليد؛ فقد بيناها بالتفصيل في مقالات خاصة وفي
تفسير القرآن، وفي كثير من الفتوى وغيرها، فلا سبيل إلى إعادتها هنا، بل عليه
أن يراجعها في مجلدات المنار السابقة، وله بعد ذلك أن يذعن لها أو أن يرد عليها إن
استطاع، ونحن نعده بنشر رده في المنار؛ بشرط أن لا يتعدى البحث في
الموضوع إلى ما ليس منه؛ كما فعل في هذه الرسالة. ومن أقدم ما كتبناه تفصيلاً
في ذلك (محاورات المصلح والمقلد) وفيها نصوص الأئمة في بطلان التقليد لهم
ولغيرهم، وهي مطبوعة على حدتها في كتاب، فله أن يطلبه من مصر وثمنه مع
أجرة البريد روبية واحدة.
وقد طبع في هذا الأيام أجزاء من كتاب (الأم) للإمام الشافعي؛ وعلى هامشه
مختصر صاحبه الإمام المزني، وهو مفتتح بهذه العبارة بعد البسملة (قال: أبو
إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني - ورحمه الله -: اختصرت هذا الكتاب من علم
محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومعنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه
عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق) .
ثم ماذا يريد المنتقد من حصره الإنكار في تقليد الأئمة الأربعة؛ فيما فهموه من
الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ هل يريد أنه يجب تقليدهم فيما فسروا به القرآن،
وشرحوا به الحديث وأقوال الصحابة. وعدم تقليدهم فيما اجتهدوا فيه من الأحكام
التي لم يصرحوا بأخذها من هذه المصادر الثلاثة، إن كان يريد هذا وهو ظاهر
عبارته الأولى؛ فقد هدم معظم الفقه الذي يدين الجمهور بتقليده خصوصًا فقه الحنفية،
وإلا فليدلنا على تفسير الإمام أبي حنفية للقرآن، وشرحه للأحاديث وأقوال الصحابة
ليقلدها من يتبع رأيه الجديد، ويترك ما عداها من مسائل الفقه المأخوذة بالقياس
والاستحسان. وإن كان يقول بقول عامة المقلدين أنه يجب تقليد ما في هذه الكتب
من غير القيد بالالتفات إلى مآخذها؛ فما هو معنى العبارة الأولى؟
الموضوع طويل الأذيال، واسع الأردان، صنف العلماء فيه مصنفات كثيرة
وأحسن ما رأيناه فيه؛ هو ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين)
المطبوع في الهند، ونقلنا كثيرًا منه في المجلد السادس، فعلى المنتقد أن يقرأ ما
كتبنا، وما كتب هذا الإمام وغيره في المسألة، ثم يكتب بعد ذلك ما يظهر له أنه
الحق إن كان طالبًا له. وليعلم أن جماهير المسلمين قد أهملوا الاهتداء بالكتاب
والسنة؛ اكتفاء بهذا الفقه، ثم أهملوا هذا الفقه فقلَّ فيهم من يتعلمه، وقلَّ في
متعلميه من يعمل به، حتى صار الإسلام عند الأكثرين جنسية لا هداية، وقد أخذهم
الله بذنوبهم، وإننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا ترجى لهم هداية إلا بدعوة الكتاب
والسنة والرجوع بالدين إلى ما كان عليه في عهد السلف، ولا نجد حائلاً دون هذا
إلا التقليد الذي صار على بطلانه في نفسه اسمًا بلا مسمى، وهو مع ذلك لا يزيد
المسلمين إلا تفرقًا واختلافًا وضعفًا وهلاكا فنحن نحاول هدمه، وندعو المسلمين
كافة - لا المنتمين إلى المذاهب الأربعة فقط - إلى الاهتداء بما لا خلاف فيه بين
أحد منهم؛ لعلهم يرجعون. وإننا لا نجيز لأحد أن يقلدنا، كما يتوهم المنتقد وغيره
من الذين يتبعون فينا الظن، وإنما نحيل الجميع على الكتاب والسنة، ومتى قرأ
كلامنا بإنصاف عرف ذلك، والله الموفق.