للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من بعض أهل العلم بتونس

التوحيد وتوفي ملك الموت للناس
(س١٤) أعظم أساس أقيم عليه هيكل الإسلام توحيد الله - تبارك
وتعالى - واعتقاد أنه وحده المتصرف في الكون، وكيف تجامع هذه العقيدة
الاعتقاد بملك الموت الذي جاء به قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: ١١) ، فما الحكمة في تفويض أمر توفي الأنفس لهذا الملك؟
(ج) إن تفويض التوفي إلى بعض الملائكة، كتفويض تبليغ الوحي للأنبياء
إلى بعضهم، وكتفويض تبليغ الرسالة للناس إلى المرسلين، وكتفويض غير ذلك
من الأعمال إلى المخلوقين، كل ذلك لا ينافي التوحيد وكون الله - سبحانه وتعالى -
هو المتصرف في الكون؛ لأنه عز وجل هو الذي أقدرهم، وهو الذي سخرهم،
ولو سلبهم ما أعطاهم لما قدروا على شيء.
ولكن قضت حكمته أن يربط أمور الكون بعضها ببعض، فيجعل هذا سببًا
لذاك، وهو واضع الأسباب والمسببات، ومدبر العلل والمعلولات، وقد بين لنا في
كتابه كلتا الحقيقتين: حقيقة ربط الأسباب بالمسببات، وحقيقة انفراده بالخلق
والتدبير. ومنه ذلك الربط والتسخير. فكما قال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ} (السجدة: ١١) ، وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: ٤٢) ،
وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر: ٦٢) ، ولكل
مقام مقال، ولا تنافي بين الحقيقتين عند العقلاء، حتى من أهل الوثنية الراقية
كمشركي العرب وقت البعثة، وإنما كان شرك هؤلاء خاصًّا بالعبادة، وهو التوجه
بالقلب إلى غير الله في قضاء الحاجات عند العجز عن الوصول إليها من طريق
الأسباب، أو التقرب إلى الله، وما يتبع ذلك من دعاء المتوجَّه إليه، وجعله وسيلة
إلى الله، كما بَيَّن لنا ذلك الكتابُ العزيزُ في آيات تنطق بأنهم كانوا يعتقدون أن الله
خالق كل شيء، وأن ما يدعون من دونه إنما يدعى؛ ليشفع لهم عنده، ويقربهم إليه
زلفى، وهذا هو الشرك في الألوهية، وقد شرحناه مرارًا كثيرة في بابي: التفسير
والفتاوى وغيرهما من أبواب المنار وترى منه شيئًا في التفسير من هذا الجزء. وهذا
النوع من الشرك هو الذي ابتلي به أكثر الخلق بما يقيسون في هذا الأصل الذي يجب
أن يكون مبنيًّا على البرهان القطعي، لا على القياس الظني أو الوهمي، وناهيك
بقياس الرب الرحيم العليم الحكيم على الملوك القساة الجهلاء السفهاء، إذ يقولون: إن
الملك يقضي حاجات الناس بواسطة المقربين إليه من حاشيته، أو وزرائه، أو يكل
إليهم ذلك، ولا يسمح لكل أحد أن يطلب حاجته منه مباشرة، فكذلك يفعل الله -
سبحانه وتعالى عما يصفون -، فقد أبطل هذا القياس على ألسنة جميع رسله، وهدى
الناس إلى أن يلتمسوا منه حاجاتهم بالسيرعلى سنته في الأسباب والمسببات حتى إذا
أعوزهم السبب وضاقت بهم السبل، ونفدت منهم الحيل، وجب عليهم أن يلجؤوا
إليه، ويعولوا في أمرهم عليه، ويخصوه بالدعاء، ويقصروا عليه الرجاء عسى أن
يهديهم إلى ما جهلوا من الأسباب، أو يخفف عليهم ثقل ما حملوا من الأوصاب، ولم
يأذن لهم أن يدعوا من دونه أحدا، ولا أن يطلبوا منه عونًا أو مددًا أما تقرأ ما أمر به
خاتم أنبيائه، وصفوة أصفيائه {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لاَ
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
* إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: ٢٠- ٢٣) ، فإذا كان خاتم النبيين
والمرسلين، لا يملك للناس ضرًّا يدفعه، أو نفعًا يرفعه، أو رشدًا يهدي به القلوب،
بل يملك التبليغ للرسالة فقط، وهو فيما عدا ذلك بشر مثلكم، فماذا تقول بغيره
ممن يطلب منهم ذلك؟
أما الحكمة في جعل قبض الأرواح موكولاً إلى ملك الموت، فهي داخلة في
الحكمة العامة في ربط الأسباب بالمسببات، وجعل الأرواح اللطيفة عاملة في
الأجسام الكثيفة، وعلى طالب الحكمة أن يعرف ذلك، فمتى عرفه أو عرف منه،
لم يقل: لم كان كذلك؛ لأنه يشاهد أنه منتهى الكمال في الإبداع، كما أن منتهى الجهل
في الناس أن يظنوا أن خلق كل شيء آنفًا هو أدل على كمال قدرة الخالق، كما
تخيلت القدرية، كأن هؤلاء الجاهلين يرون أن الحكمة والنظام ينافيان كمال القدرة،
تعالى الله عن جهلهم.
***
قيام الدين بالدعوة
وحديث (أُمرت أن أقاتل الناس)
(س١٥) الإسلام كما لا يخفى عليكم، قام بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة
لا بالسيف والقوة، كما يعتقد الكثير من أصدقاء الدين الجهلاء، وكيف يجامع هذا
قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله،
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) فإنه صريح في أن القتال كان
للحمل على الدخول تحت لواء الإسلام؟
(ج) أما كون الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف قطعي لا ريب فيه. وأما
الحديث فقد ورد في مشركي العرب الذين لم تقبل منهم الجزية بعد الإذن بقتالهم،
وما أذن للمسلمين بقتالهم إلا بعد أن آذوا النبي ومن معه، وأخرجوهم من ديارهم
وأموالهم، وقعدوا لهم كل مرصد، ووقفوا في سبيل الدعوة، فلم يكن الإذن إلا
للدفاع عن الحق، وحماية الدعوة كما بيناه مرارا، وليس الغرض من الحديث بيان
أصل مشروعية القتال، فإن هذا مبين في الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: ٣٩) الآيات،
وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (البقرة: ١٩٠)
الآيات، وإنما الغرض منه بيان أن قول لا إله إلا الله كاف في حقن الدم، وإن لم يكن
القائل لها من المشركين معتقدا؛ لأن الأمر في ذلك يبنى على الظاهر، وهذا بالنسبة
إلى وقت القتال، ولكنه بعد ذلك، يؤمر بالصلاة والزكاة، فإن امتنع عن قبولهما لا
يعتد بإسلامه، كما يؤخذ من رواية (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) وهو في الصحيحين على غرابته؛ لأن شعبة
تفرد بروايته عن واقد وقد عد من الإشكال فيه أن يكون راويه ابن عمر مع ما علم من
محاجة عمر لأبي بكر في قتال مَانِعِي الزكاة، ولم يحتج به عمر، ولا ابنه قاله له.
وأجاب ابن حجر عن هذا باحتمال نسيان عبد الله له في ذلك الوقت. ومما يؤيد قولنا
أَنَّ الحديث خاص بالمشركين وإن كان لفظه عامًّا؛ رواية النسائي له بلفظ: (لا
أمرت أن أقاتل المشركين) ، وقد علمت أن المراد بيان غاية القتال لا مشروعيته،
وأن سبب مشروعيته الدفاع وتأمين الدعوة ومنع الفتنة، لا الإكراه على الدين المنفي
بنص القرآن الحكيم.
***
الاضطهاد في الدين وقتل المرتد
(س١٦) إذا كان الإسلام لا يضطهد أحدًا لعقيدته، فكيف يشرع قتل المرتد
الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ؟
(ج) كان المرتد من مشركي العرب، يعود إلى محاربة المسلمين وإيذائهم
فمشروعية قتله أظهر من مشروعية قتال جميع المشركين المحادين للإسلام. وكان
بعض اليهود ينفر الناس من الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم بإظهار الارتداد عنه ليقل
قوله بالطعن فيه قال تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي
أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران:
٧٢) ، فإذا هدد أمثال هؤلاء بقتل من يؤمن ثم يرتد، فإنهم يرجعون عن كيدهم هذا
فالظاهر أن الأمر بقتل المرتد كان لمنع شر المشركين، وكيد الماكرين من اليهود
فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر، التي تسمى في عرف أهل عصر
سياسة عرفية عسكرية، لا لاضطهاد الناس في دينهم. ألم تر أن بعض المسلمين
أرادوا أن يُكرِهوا أولادهم المتهودين على الإسلام، فمنعهم النبي - صلى الله عليه
وسلم - بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير، والإسلام في أوج
قوته. وفي ذلك نزلت آية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) .
***
حكاية القرآن
المسخ في بني إسرائيل
(س١٧) جاء في القرآن الحديث عن مسخ بعض الأمم من بني إسرائيل،
فهل هو محمول على حقيقته من انقلاب الأعيان، كما هو مذهب الجمهور (وهو
مخالف لسنة الله في الكون) ، أو هو محمول على التشنيع بحالهم، كما هو مذهب
مجاهد؟ وإذا كان كذلك، فبماذا نجيب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - (مسخت
امرأة من بني إسرائيل) ؟
هذه الآية وما ماثلها تعد من أصول الدين وقواعده العامة التي تقضي على
غيرها، ولا يقضي عليها شيء، ولا يمكن رد الحديث إليها فيما وصل إليه علمنا
إلا بحمله على ذلك السبب الخاص، فكأن الضرورة قضت بذلك في تلك
الحال.
(ج) لفظ المسخ لم يرد في القرآن إلا في آية واحدة، هي قوله - تعالى -:
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِياًّ وَلاَ يَرْجِعُونَ} (يس:
٦٧) ، وهي بيان لقدرة الله - تعالى - على الانتقام منهم لو شاء. ولكنه لرحمته لم
يفعل كل ما يقدر عليه من التنكيل بالكافرين والظالمين، والمروي عن السلف تفسير
المسخ هنا بالإقعاد أو الإهلاك. روى ابن جرير عن الحسن {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ
عَلَى مَكَانَتِهِمْ} (يس: ٦٧) قال: لو نشاء لأقعدناكم. ورواه عن قتادة بلفظ
(لأقعدناهم على أرجلهم فما استطاعوا مضيًّا ولا يرجعون، فلم يستطيعوا أن يتقدموا
ولا أن يتأخروا) وروي عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: (ولو نشاء أهلكناهم
في مساكنهم) . ولم يرو عن أحد أنه قال: إن المسخ تحويل الخلقة من شكل إلى
شكل.
ويقول الراغب في المفردات: إن المسخ تشويه الخلق والخُلق، وتحويلهما
من صورة إلى صورة، وهو مأخوذ من مسخت الناقة أي: أنضيتها، حتى تغير
خلقها، ولا يفهم منه أنك جعلتها بقرة. والحديث الذي ذكرته لا أتذكر أين يوجد.
ولكنني أعلم أنه ليس في الصحيحين. والخطب في مثله سهل بعد الذي علمت، وبعد
العلم بأن هذه الروايات في الأمور التي يطلب فيها العلم الصحيح ليست مما يحتج
به.
***
الدابة التي تتكلم في آخر الزمان
(س ١٨) ما معنى قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً
مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (النمل: ٨٢) فهل الآية محمولة على ظاهرها أو هي كناية عن ظهور العجائب؟
(ج) هذه الآية مما أخبر الله به عن المستقبل البعيد، فهي من أنباء الغيب
التي تؤخذ بالتسليم، ما لم يكن ظاهرها محالا، فتحمل على خلاف الظاهر بالتأويل
كما هي القاعدة، وكلام الدواب ليس محالا في نظر العقل؛ ولذلك يطمع علماء
الإفرنج الآن، في معرفة لغة بعض الحيوانات كالقرود والببغاء، تتكلم بالقدر
المعروف، ويحتمل أن تترقى في هذا الكلام، كما يحتمل أن توجد حيوانات أخرى
تكلم الناس، ولا نقبل أقاصيص المفسرين في ذلك.
***
طائفة محمد بن عيسى
أكلة الثعابين والنار
(س١٩) من الناس طائفة تنتسب إلى الشيخ محمد بن عيسى، وتأتي من
المنكرات ما يتقطب له وجه السنة. ولكن تظهر من الخوارق ما يقف الناظر متحيرًّا
دون الوصول إلى حقيقته، وإدراك كنهه، كأكل ذوات السموم، وابتلاع المدى،
وإدخال السيف في البطن والعين، وإلصاق النار بالبشرة وأكلها، وليس شيء من ذلك
بضار لهم. فما الحقيقة فيما يأتونه؟
(ج) لو قرأتم ما كتبناه في الكرامات وخوارق العادات في المجلس السادس
وغيره لاكتفيتم به عن السؤال بهذا.
إن الذين يتخذون عمل الغرائب صناعة كثيرون في كل أمة، وأنواع هذه
الغرائب كثيرة، وكل عاقل يجزم بأن ما يراه منهم يمكن أن يكون من غيرهم؛ إذا هو
تمرن عليه، وهو على نوعين: شعوذة يخيل صاحبها إلى الرائي غير الحقيقة،
وأمور طبيعية جاءت على غير ما يعرف الرائي فظن أنها غير طبيعية، ومتى ظهر
للإنسان شيء من أعمالهم على حقيقته، وعرف سببه بطل تعبه، والعاقل يقيس ما لم
يعلم من ذلك على ما علم.
فأما أكل ذوات السموم وهي الثعابين، فهو لا يضر الآكل بطبعه له، وقد
استخرج بعض الأطباء سم الثعبان وأكله. وإنما يضر إذا أصاب الدم ابتداء. ولكن قد
يضره الوهم إذا هو أكله معتقداً أنه ضار. وأما ابتلاع المدى فما أراه إلا من الشعوذة،
فهو يخيل إليك أنه ابتلع المدية من حيث يكون ألقاها بخفة لم تشعر بها.
وأما إدخال السيف في البطن والحربة في جفن العين، فقد شاهدت عمل
الرفاعية له، ورأيت أنه إيهام وتخييل. وأما مس البشرة بالنار فهو مما قد يكون
بالتعود، ومما قد يكون بالتخيل، وكلاهما مما شاهدته، وقد أحرجت واحدًا منهم
وأردته على أن يمكنني من وضع النار حيث أريد من بدنه، فلم يقبل ثم استتبته
فأظهر التوبة عن مخادعة الناس بذلك. ولك أن تراجع ما كتبناه من قبل في ذلك.