للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي


تقويم الأفكار
لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي
(٢)

الحقيقة الثانية هي السياسة، وهي النظر في شؤون الأمة والسير بها في
منهاج يقودها إلى مواطن الراحة والسعادة، وهي نوعان: سياسة داخلية، وسياسة
خارجية، فالسياسة الداخلية هي التي تلزم الملك في إدارة شؤونه الداخلية، ولا بد
للملك الراغب فيها أن يحيط بأحوال رعيته ويقف على ما يجري فيها، ويتعرف
سيرة بطانته وكبار أمته، ويراقب أعمالهم وينظر في حركاتهم، ومتى ظهر له
وتحقق أن منهم من ينحرف عن سنن الاستقامة ويبيع الذمة ويبيح المظلمة وينفذ
الغرض والشهوة - وجب عليه أن يبعده ويحل به نكبته. أما إذا استوثق من استقامة
أحدهم فعليه أن يكافئه ويحله محلاًّ من رعايته، وينزله منزلة الكرامة، ويمنّ عليه
بعلو المكانة، فإن ذلك مما يشجع المعتدلين في سيرهم ويقوي من آمالهم ويحبط
عمل المنحرفين، فيرجعون عن غيهم ويتركون سبيل اعوجاجهم، فبهذا تصفو له
القلوب وتحوم عليه الأفئدة، وبهذا تخضع له الطباع المتحجرة والرقاب المستعصية.
أما المستقيمون منهم فلركونهم إلى عدله واطمئنانهم بفضله، وأما المنحرفون
فلخشيتهم من بأسه ومهابتهم من صولته، إنما على الملك أيضًا أن لا يأخذ بالريب
ولا يبطش بالظن ولا يحكم بالوهم ولا يجعل كلام الجاسوس سندًا يؤاخذ به أو حجة
يعاقب بها، وأن يبعد أهل الوشاية ولا يقرب أولي السعاية، فإن ذلك مما يغير
القلوب ويوغر الصدور ويولد الحقود، فيصبح البريء مؤاخذًا، والجاني منعمًا،
والمعتدل مبعدًا، والمنافق مقربًا، وهذا حال لا يستقيم معه شأن ولا يتوطد به نظام،
فتضيع الثقة من الحاكم وتصبح أحكامه مظالم، ويعسر عليه أن يسوس الرعية
ويقود الأمة.
قالوا: بالراعي تصلح الرعية، ولكن هذا المفهوم لا يؤخذ على إطلاقه، فإن
استقامة الحاكم وحدها لا تكفي في ارتقاء الأمة إذا كانت هذه فاقدة التربية وتعوزها
العلوم والمعرفة، وأمر بديهي أن الحاكم الأكبر وظيفته أن يأمر ويسن قوانين وينشر
لوائح، ولكن المنفذ والواقع عليه التنفيذ ليسوا إلا رجال الدولة والرعية، وحينئذ
لابد لتوطيد سياسة الملك من نشر التعليم والاعتناء بأمر التهذيب، حتى تثقف
العقول ويفهم الناس إراداة الحاكم ويفرقوا بين الحق والباطل، خصوصًا وأن
صاحب الأمر في الأمة مهما كان علمه محيطًا بأحوالها، فإن هناك أشياء يتعلق بها
النظام ولكنها لا تصل إلى علمه ولا يحس بها غير الرعية المباشرين لحركتها، فلا
بد لإيجاد هذا الإحساس أن تستشعر الأفراد بما يلزمهم وما يصلحهم حتى يرشدوا
الحاكم إليها، وقد يعرض للحاكم أحوال كثيرة وصعوبات شديدة، لا يمكن أن يفكك
مشاكلها أو يذلل شدائدها إلا باتفاق مع رعيته والاستعانة بآرائهم، وهذه حالات هي
في غنى عن البيان. فإذا كانت الأمة فاقدة الحركة العقلية عارية عما يلزمها من
المعرفة كيف يستقيم للحاكم أمر في مثل هذه الحالة؟
ومن دعائم السياسة في الدولة أن يكون المستظلون برايتها يحكمهم قانون واحد،
ولا يفرق بين وطني وأجنبي، ولا أريد بلفظ القانون إلا معناه الخاص وهو الذي
يفصل بين الناس في معاملاتهم وما يقع بينهم من الجنايات والجرائم، فإنه إذا ميز
فريق عن آخر في دائرة الحكم انصدع النظام وانتكست العدالة، خصوصًا إذا كان
هذا التمييز للأجنبي كما هو حاصل اليوم في بلادنا، فإن الوطني يرى نفسه أحق
بالامتياز من الأجنبي الذي ارتحل عن بلاده وحل في أرض أخرى طلبًا للقوت
وطمعًا في جلب الثروة، فكم يستشعر الوطني بآلام هذا الامتياز وكيف يحب حكومته
مع حرمانه من امتيازات بلاده، بل حرمانه من أهم حقوقه؟ وإذا بغض حكومته
كيف يمكن أن تسوسه وتأمل منه خيرًا؟ نعم إذا كان هذا الامتياز للوطني فالأجنبي
لا يخالج ضميره هذا الإحساس لعلمه أن المميز أهل لذلك وأحق به لأن البلاد بلاده
والحاكم من جنسه يميزه كيف يشاء. ويظهر من هذا خطأ إنشاء المحاكم المختلطة
والمحاكم القنصلية في الديار المصرية وإنها لطريق وعر في إقامة السياسة الداخلية
وتوطيد الراحة العمومية، واليك مثلاً من نظام تلك المحاكم:
إذا قتل وطني أجنبيًّا نصبت للقاتل الشباك وقبضت عليه المصايد وزُج في
السجن وجيء به إلى المحاكم وحوسب على ما اقترف وحكم عليه بالإعدام في يوم
معهود ومشهد معلوم، وهذا عدل لا يرتاب فيه أحد، ولكن إذا كان القاتل هو
الأجنبي فلا تنصب له الشباك ولا تصطاده المصايد، بل يبعث بأوراق التهمة إلى
القنصلية فإذا رآها القنصل وكان رجلاً عادلاً حكم بنفيه إلى بلاده، ثم يعود الجاني
بعد قليل من الزمان ويعيش بيننا بالسلام وبالأمان، وإن كان القنصل ممن يتهاونون
بالقانون خلى سبيل الجاني وقال: إن عندنا من الأشغال السياسية ما لا يسمح معه
بالنظر في القضايا، فلسنا قضاة. ولهم العذر، وبهذا تضيع حقوق أهل المقتول
وحق النيابة في النظام والسلام، فهذا هو طرز القضاء في الجنايات الذي عليه قطرنا
وبه حفظ الأمن وراحة السكان.
ومن دعائم سياسة الملك الداخلية: عدم التفريق بين طبقات الأمة في تولي
الأعمال ونوال الوظائف، فلا يصح قصر الوظائف على أبناء الطبقة العليا، فإن
الكثير منهم بل الأغلب فيهم هم غير أكفاء لتقلد الوظائف وإدارة الأعمال، بل على
العكس من ذلك فإن في الطبقات الأخرى من هو أكثر استعدادًا وأقوى ذكاء وأحسن
طباعاً وأشد محافظة على الشرف والآداب من أبناء الطبقة العليا، وحينئذ فلا بد
للحاكم من أن يحكم الكفاءة في تولي الأعمال وإدارة الشؤون حتى يؤمل أن تسود رعيته وتصلح أمته.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))