للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر

من الناس من يكتب ليرضي الناس، فهو يتحرى رضاهم بالحق وبالباطل، فلا
الحق مقصود له في ذاته، ولا الباطل مطلوب له لذاته، وإنما يكتب لهوى خاص
هو كل ما يقصد. ومنهم من يتحرى الحق رضي الناس أم لم يرضوا، وافق أهواءهم
أم لم يوافقها، ولا يتبع الناس الهوى في شيء، كما يتبعونه في الكلام عن الحكام
والرؤساء ورجال السياسة، وإننا نرى أهل الأهواء قد يعدون الشيء الواحد
إذا صدر عن زيد نافعًا، وإذا صدر عن عمرو ضارًّا، ويقول فلان قوله فيعدونه
إيمانًا وإصلاحًا، ويقوله آخر فيعدونه كفرًا وإفسادًا.
منذ سنتين وأشهر نشرت عدة مقالات في بعض جرائد القاهرة في ذم الفلسفة،
والتعريض بمن زعموا أنه يريد إدخالها في علوم الأزهر (يعنون الأستاذ الإمام
رحمه الله) ، وقالوا: إن الأزهر مدرسة دينية محضة، لا يجوز تعليم شيء فيها
غير الدين. وفي هذا العام أمر شيخ الجامع الأزهر بعض المشايخ بقراءة فلسفة
اليونان فيه، فطفق بعضهم يقرأ الإشارات لابن سينا، وبعضهم يقرأ كتبًا أخرى في
ذلك، ولم يكتب أحد، بل لم يقل أحد شيئًا، فلماذا كان توهم إدخال الفلسفة في
الأزهر منكرًا دافعًا إلى ذلك الانتقاد الشديد، وصار تعليم الفلسفة بالفعل الآن معروفًا
لا ينتقده أحد؟
وقد نشرت إحدى جرائد المسلمين منذ سنتين مقالاً لأحد الأمراء، عبث
فيه ببعض أصول الدين وعقائده، وكتبت جريدة أخرى لهم أن الحكم بقتل القاتل
من بقايا الهمجية، بل استَبْدَل الحكام القوانين بالشريعة، ولم يقل المسلمون شيئًا،
ولا حركوا ساكنًا، بل ظلوا يعدون هؤلاء الحكام من رؤساء الدول. وقد قال اللورد
كرومر في تقريره الأخير عن حال مصر والسودان كلمة في الشريعة، قام لها
الناس وقعدوا لا لذاتها، بل لأنها من اللورد كرومر. وقد أطال الرد والطعن كثير
من الكتاب على كلمة الرد من حيث هي كلمته، وتكلم بعضهم فيها لذاتها. ومما
كتب في الرد على اللورد مقالة في الرق، نشرت في اللواء معزوة إلى حكيم من
حكماء الإسلام.
ولكنه لا يعرف البديهي من قواعد الإسلام؛ إذ زعم أن الزكاة المفروضة فيه
تصرف بحكم القرآن إلى الحكام، وإلى سفراء الدول وقناصلهم، وفي بناء الفنادق
للسياح. ولو كتب مثل هذا الكلام في المقطم، لقامت عليه وعلى كاتبها قيامة اللواء
وغير اللواء، وعدوا ذلك أعظم جناية على الإسلام.
هكذا ينظر أكثر الناس إلى من قال، لا إلى ما قال، ولا يعرفون الرجال بالحق
بل يعرفون الحق بالرجال، كلا إن اتباعهم الهوى في الرجال، يصرفهم عن
معرفة الحق وعن طلبه، فلا يقبلونه ممن لم يوافق أهواءهم. ولكنهم يقبلون الباطل
ممن فتنوا بهم، وصاروا موضع ثقتهم، وهذا من أكبر البلاء على الناس؛ إذ لا
ترتقي أمة منهم إلا إذا كثر المستقلون فيها بالحكم على الناس وعلى الأقوال، الذين
يطلبون الحق لذاته، ويجعلونه هو الميزان لمعرفة الناس ومعرفة الأشياء.
قال لورد كرومر قوله في الشريعة الإسلامية، فقامت له جرائد المسلمين
وقعدت، وأعولت وولولت، وذمت وقدحت، وأرنأت واقترحت، ثم صدر المنار
فكان خيرًا منها دفاعًا، وأشد للمخالف إقناعًا، وزاد على ذلك أن وفق إلى أخذ
كتاب من اللورد نفسه، يبرئ فيه الدين الإسلامي نفسه من النقد والطعن، ويستدل
على ذلك، ويصرح بأن عبارة التقرير - التي فهم منها الطعن في الدين نفسه - لم
تؤد مراده الذي بينه ووضحه بما كتبه إلينا. فماذا قال الناس في ذلك؟
اختلفوا فيه كما هي عادتهم، فاستحسنه فريق كل الاستحسان، وشكر لنا
سعينا، وللورد فضله وإنصافه، وبالغ بعض أفراد هذا الفريق في الإعجاب بذلك،
حتى قال لنا أحد المحامين وهو ممن لا يختلف اثنان في كمال استقلاله، وجودة رأيه،
وسعة علمه: أخبرني هل سحرت اللورد بكتابك إليه وهو لا يعرفك، أم استعنت عليه
بوسائط أخرى، حتى نجحت في أخذ هذا الجواب الذي لا يتصور أن يخدم الإسلام
بمثله في هذا الباب؟ إلخ ما قال.
وذهب فريق آخر إلى أنه لا فضل للورد في جوابه، وإنما الفضل كله فيه
لصاحب المنار. وقد جرت بين أحد الباشوات من هذا الفريق، وأحد المشايخ
الوجهاء من الفريق الأول مراجعة ومحاورة بذلك في حفلة عرس في العاصمة،
وكان بعض الوجهاء فيها موافقا للباشا، وبعضهم موافقا للشيخ.
وذهب فريق ثالث إلى أن صاحب المنار قد أخطأ فيما كتبه إلى اللورد؛ لأنه
لقنه الجواب في السؤال. ورد عليهم بعض الناس بأن صاحب المنار قد أحسن في
ذلك؛ لأنه ورَّط به اللورد حتى أجابه إلى ما يريد من تبرئة الدين الذي هو الكتاب
والسنة، وهذا هو غرضه من الكتاب. ورد عليهم آخرون بأن ما استدل به اللورد
في جوابه مؤيد بتقاريره، فهو لم يستفد الجواب من السؤال، وإنما جاء به من عند
نفسه كما هو مفهوم من استدلاله.
وقال فريق آخر: إن صاحب المنار قد أخطأ؛ لأنه كان سببًا لهذا الكتاب
الذي يميل القلوب إلى اللورد، حتى تراه أهلاً للشكر والثناء، ونحن لا نحب أن
نرى منه ما يحببه إلينا، بل نحب أن نرى منه ونسمع عنه، ما يزيد بغضنا فيه
وحنقنا عليه.
وصاح فريق آخر: إن صاحب المنار لا يستحق على هذا العمل إلا القدح
والذم، والسب والشتم، والقدح والتشهير، والتمثيل والتصوير؛ لأنه دافع عن
اللورد الذي هو عدو الوطن والوطنيين، وخصم الإسلام والمسلمين، ولو كان
هؤلاء يقولون ما يعتقدون، وإذا ظهر لهم الحق يذعنون، لوجدوا كثيرين يقولون
لهم: إنكم لمخطئون، فإن المنار ما دافع عن اللورد، بل رد ما يفهم من كلامه بثلاث
مقالات لم يسبقه أحد إلى مثلها، ثم توسل إلى استكتابه ما هو عين المصلحة
للإسلام والمسلمين، وإن لم يوافق أهواء بعض المتحمسين من الوطنيين الذين
يكرهون الحق إذا ظهر على لسان زيد، وينفرون من المصلحة إذا جاءت على يد
عمرو، وهم لا يتبعون إلا شعور الكراهية والنفور، ولا يصيخون إلا لداعي
الإفراط والغرور، وأكثرهم مقلدون لما يقوله أصحاب الصحف الغالون.
أما أصحاب الصحف المصرية؛ فأكثرها لم يقدر هذه المسألة قدرها على
عنايتها دائمًا بأقل ما يؤثر عن الرجال العظام كلورد كرومر من قول وعمل، حتى
ما لا شأن له في المصالح العامة، كالرياضة والدعوات إلى الطعام أو الشاي. أما
السبب الذي لأجله لم تحفل الجرائد بأمر يعد من أهم موضوعاتها؛ وهو استدراك
اللورد على عبارة في تقريره الرسمي في مسألة مهمة؛ فهو أن جرائد الإفرنج، وما
على شاكلتها من الجرائد العربية لا ترى من مصلحتها التنويه ولا مقتضى ملتها
بالشهادة للدين الإسلامي، أو تبرئته من مناهضة المدنية أو مخالفتها مهما
ارتقت.
وأما جرائد المسلمين التي كان ينتظر منها أن تنوه بذلك وتهتم به، فقد اتفق
أنه ظهر في وقت تحالف فيه بعض أصحابها المشهورين على إسقاط (حزب الشيخ
محمد عبده) ، بالذم والتشهير والقدح والتصوير، وقد افترضوا ما يظنون من
نجاحهم في إيهام الجمهور بأنهم هم الذين كانوا سبب استقالة اللورد، وتغيير إنكلترا
سياستها في مصر تغييرًا مرضيًا (كما يزعمون) ، ولهذا ترى همهم محصورًا في
جعل حسنات ناظر المعارف سعد باشا زغلول سيئات، وفي الطعن بعلومه ومعارفه
وإتقانه للغة الفرنسية، هذا وهو أنبغ رجال وطنهم المحبوب بألسنتهم وأقلامهم،
فكيف يعترفون مع هذا لصاحب المنار بأنه أحسن صنعًا، وهو من حزب الشيخ
محمد عبده المحكوم عليه بالإسقاط عندهم؟ أليس المعقول من أصحاب هذا الحكم أن
يحولوا الأمر عن وجهه، ويجعلوا الحسنة سيئة؟ بلى.
على أن جريدة اللواء أظهرت الارتياب في هذه المكاتبة، كأنها كرمت
نفسها أن تعترف بصحتها، ثم لا تقدرها قدرها وصعب عليها أن تعترف للورد أو
لصاحب المنار بمزية، فلم تر مخرجًا من ذلك إلا بإظهار الارتياب والشك فيما قيل.
ولكنها جزمت بتكذيب ما نقل عن الشيخ حسونة افتياتًا عليه. وجريدة المؤيد نقلت
السؤال والجواب، وتنزلت من سمائها فقبلت الجواب على أنه تنازل من اللورد،
ورجوع عن قوله الأول. وهي على كونها لم تترك اللسع أو اللدغ الخفي في هذا
كعادتها قد كرمت نفسها أن تعد الدفاع عن الإسلام دفاعًا عن اللورد، فتركته إلى
من لا كرامة لهم في أنفسهم، ولا في أنفس أحد من العقلاء الذين يعلمون أن ذلك لم
يدفع عن اللورد ضرًّا، ولم يجلب له نفعًا.
وقد كتب إلينا من القاهرة وغيرها في استحسان السؤال والجواب، واستهجان
خطة المشاغب فيه، وقد اكتفينا بنشر كتاب لأحد أساتذة المدارس؛ لأنه لم يسم فيه
أحد، وقد صرح بطلب نشره، فليراجع في باب المراسلة.