للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كلام فريد أفندي وجدي
في الدين وفلسفة التشريع

كتب محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة منذ أشهر مقالة في بعض
الجرائد اليومية، قال فيها: إنه سينشئ مدرسة يدرس فيها العلوم العليا؛ من كونية
واجتماعية وعمرانية، ومن ذلك جميع العلوم الطبيعية والفلسفية بأنواعها ... إلخ،
أي: إنه سيقوم وحده بما تريد لجنة (الجامعة المصرية) أن تبدأ به، وترى ما لديها
من مال الاكتتاب وهو عشرات الألوف من الجنيهات، وما وُقِفَ على الجامعة من
الأطيان لا يزال غير كاف للشروع في هذا القسم العالي. ولكن فريد أفندي وجدي
سخي بالوعود، وقد تبرع له سيد أفندي محمد صاحب المدرسة التحضيرية بحجرة
من مدرسته وفَّى بها وعده، فهذه الحجرة هي مدرسة العلوم العليا.
وقد شرع فريد أفندي في إلقاء الدروس فيها، ونشر الدرس الأول من علم فلسفة
التشريع في جريدة المؤيد ثم في مجلته، فتذكرنا بقراءته تلك المقالات التي كان
ينشرها في المؤيد عن الإسلام؛ إذ جاء فيه بمثل ما جاء فيها من أمور تعزى إلى
الإسلام وهو لا يعرفها، وفلسفة فيه لا يرضاها. وكان خطر لنا أن ننتقد تلك
المقالات؛ قيامًا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن عرض لنا أمور ثنت عزمنا عن ذلك منها الرغبة عن انتقاد فريد أفندي
لذاته، ولأنه صاحب مجلة، ولا نحب أن يكون بين أصحاب المجلات مثل ما بين
أصحاب الجرائد من المناقشات التي لا يؤمن أن تصير من قبيل المراء والمشاغبة،
تركنا الرد على ما جاء في تلك المقالات من مخالفة أصول الدين، والنفس تحاسبنا
على ما فرطنا، وتعتذر عن تفريطها بأن تَتَبُّعَ خطأ الناس والرد عليه غايةٌ لا تُدْرَك،
ولا يستطيع القيام بها واحد وهو من فروض الكفايات. ولكنها ليست مطمئنة بأن هذا
العذر يرضي الله - تعالى- مع ما ترى من سكوت العلماء في هذا العصر عن إنكار
المنكر، ثم عرض لنا مثل هذا عندما قرأنا درس فلسفة التشريع، وإن كان الخطأ فيه
دون الخطأ في تلك، ثم جزمنا بأن الانتقاد واجب علينا، فبادرنا إلى كتابة هذا النقد
فعسى أن ينظر فيه رصيفنا فريد أفندي بعين الإنصاف.
في هذا الدرس أو المقالة كثير من الأمور المنتقدة، وأهمها عندنا ما قاله في
التشريع، وكون الوحي هو أصل الشريعة عند المسلمين. وقبل البحث فيها نقول كلمة
لا بد منها في انتقاد عبارة فريد أفندي وهي: إن القارئ لها لا يكاد يفهم منها معنى
محررًا يجزم بأنه هو مذهب الكاتب ومراده، بل يجد فيها من التعارض
والإبهام والعسلطة ما لا يجزم معه بالمعنى المراد. ومثل هذا مما يتعسر
نقده. ويسهل الجدل والمراء فيه. ولم أذكر هذا إلا لأن الضرورة قضت بذكره كما
ستعلم.
بدأ المدرس المقال بقوله: (لم يعتن المسلمون في الصدر الأول بشيء بعد
تقرير الأصول الدينية بقدر ما اعتنوا بالأمور التشريعية) وفيه أن المسلمين لم يكن
عندهم شيء يعبر عنه بالأمور التشريعية غير ما شرعه الله لهم من الدين على لسان
رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: ١٨) .
وفريد أفندي جعل المسلمين شارعين، ولذلك قال بعد ما تقدم: (ثم لما اتسع
نطاق العمران، واستدعت الأحوال تدوين شريعة شاملة لجميع الأصول والفروع
اقتضت الحاجة أن ينبغ المشرعون الأولون من المسلمين كالأوزاعي والشعبي وسعيد
ابن المسيب وأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد) ... إلخ، ثم قال: (فاختلف
المشرعون الأولون) . وقال: فظلوا يشتغلون بأمر التشريع والتقنين. وقال:
فاستحال أمر المتشرعين، والصواب أن هؤلاء لم يكونوا إلا رواة للحديث
ومستنبطين منه ومن الكتاب، أي: مبينين ما يفهمونه منهما للناس، وناقل الشريعة
ومفسرها لا يسمى شارعًا، (ولا مشرعًا كما تقول الجرائد الآن) ، وإنما الشارع
والمشترع (أو المشرع) هو واضع الشريعة.
ويطلق الشارع في كتب المسلمين على الله - تعالى - لأنه واضع الشرع، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبينه عن الله - تعالى - ولم يعرف إلا
منه. نعم يصح استعمال هذه الألفاظ في غير هذه المعاني لغة لا سيما لفظ
التشريع فإنه يستعمل عند علماء الفنون العربية اسمًا لنوع من محسنات البديع.
ولكن الموضوع ليس لغويًّا، وإنما الكلام في الشرع الإسلامي، فينبغي فيه اتباع
اصطلاح أهله المأخوذ من القرآن إلا أن يخرج المتكلم عن صراطهم، ويجعل
الشرع من وضع البشر.
قال فريد أفندي في الأئمة الذين تقدم ذكرهم: فظلوا يشتغلون بأمر التشريع
والتقنين، ويعقدون لذلك الدروس الحافلة حتى جاء القرن الثالث، وكان قد طرأ
ضعف في أمر الحكومة انتقلت به إلى شكل حكومة مطلقة مستبدة بعد أن كانت
شورية دستورية. فاستحال أمر المتشرعين الإسلاميين إلى حفظة أقوال المتقدمين، وبطل الاجتهاد؛ لعدم نبوغ العلماء الضليعين، وأصبح رجال العلم تبعًا لرجال السياسة في الأهواء والميول، فتوالى الضعف على هيئتهم شيئًا فشيئًا، حتى تولاهم العجز بأخص معانيه، فاصطلحوا على عدد من الكتب يقرؤونها، ويتفهمون
عباراتها بدون نقد ولا محاكمة، وصار هذا معنى الدين والتمسك بالسنة في نظرهم.
أقول: يفهم من قوله السابق (ثم لما اتسع نطاق العمران) ... إلخ، وقوله هذا
أن تدوين الشريعة - أو التشريع على رأيه - قد كمل في وقت اتساع العمران قبل
تحول الحكومة من الشورى إلى الاستبداد. ونحن نعلم أنه لم يدرك حكومة الشورى
من أولئك الفقهاء أوالمشرعين على رأيه إلا سعيد بن المسيب؛ لأنه تابعي ولد في
خلافة عمر وهو لم يدون شيئًا، والباقون كانوا في زمن بني أمية وبني العباس
وحكوماتهما استبدادية بلا نزاع على أن العمران كان في زمنهما أكثر نموًّا.
ثم إن علماء القرن الثالث لم يكونوا كما ذكر، بل ولا القرن الرابع ولا القرن
الخامس، فالفقه ما اتسع نطاقه إلا في هذه القرون، وإن كان الفضل للمتقدم، ولعلنا
نبين ذلك إن مارانا فيه ممارٍ.
ثم قال فريد أفندي: (نحن في هذا الدرس سنعمل على فهم ما هي الشريعة
في الاصطلاح الاجتماعي، وكيف تكونت الشرائع في مدى التاريخ؟ وكيف ترقت
أصولها حتى وصلت إلى أرقى ما وصلت إليه اليوم؟ وكيف تكونت الشريعة
الإسلامية القرآنية؟ وما مكانها من بين سائر الشرائع؟ وما معنى كونها خاتمة
الشرائع؟ وماذا هو الاجتهاد؟ وكيف حصل الاستنباط؟ إلخ، ولنا في كل مبحث
من هذه المباحث كلام في فلسفة الموضوع الذي نتكلم عليه، وآخر ما انتهى الرأي
إليه، وتطبيق ذلك على روح القرآن، وإظهار إعجاز الشريعة الإسلامية من هذه
الوجهات بأصرح بيان) اهـ.
ونقول: هذه بضعة وعود منصوصة، وأشار برمز (إلخ) إلى وعود
أخرى وبنى على الوعود وعودًا ولم يفِ بما وعد؛ إذ لم يكن باقي الدرس إلا كلامًا في العدل يتلوه كلام في معنى كون أصل الشرائع من الوحي، وإيراد
اعتراضين على ذلك غير واردين، والجواب عنهما بما لا يدفعهما. وكلام في
بناء القوانين على الأخلاق، وقد ذكرتنا هذه الوعود بقول الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - في كتابة فريد أفندي: إنها (مقدمات ووعود) .
عرف العدل بأنه ما أدى إليه العقل من الأحكام وهذا غير صحيح؛ لأن
الأحكام التي وصل إليها الناس بعقولهم: منها ما هو عادل، ومنها ما هو جائر.
والحاكمون بها منهم العادل ومنهم الظالم، فالعدل أمر آخر لا محل للكلام فيه هنا
ولم نذكره؛ لأنه مقصود بالذات. وإنما ذكرنا لأنه جاء عقبه بما يأتي:
(هنا يلزمنا أن ننبه إلى موضوع خطير، وهو أن متشرعي أوربا عامة
يعيبون علماءنا في اعتقادهم بأن أصل الشرائع الوحي، ولهم في ذلك علينا مطاعن
في غاية الصرامة. ونحن هنا لا مناص لنا من حل هذه الشبهة، فنقول: القرآن
الكريم توسع في معنى الوحي فلم يقصره على النبيين، بل أطلقه على أدنى درجات
الانسياق الطبيعي الحيواني، فقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل: ٦٨) وإذا صح إطلاق
الوحي على هذا الانسياق الفطري الحيواني صح من باب أولى إطلاقه على نتائج
العقل الإنساني؛ لأن الله خالق كل شيء والباعث على كل شيء، فيكون لا
تنافي بين قول متشرعي أوربا: إنّ الشرائع أصلها العقل. وبين قول علماء الإسلام:
إنّ أصلها الوحي. إذا لم يقبل العلماء هذا الحل الموافق للكتاب والعلم، فقد
تعرضوا لِشُبَهٍ لا مخلص لهم منها وهي:
(أولاً) لو كان أصل الشرائع الوحي بمعناه السامي؛ لنزلت الشرائع الأولى
حاصلة على العدالة بمعناها الخاص، والمشاهد بين حوادث التاريخ أن الشرائع
بدأت مناسبة لعقل الإنسان وسذاجته ونقص أخلاقه. والله يتنزه عن ذلك.
(ثانيًا) في الأرض أمم كثيرة في أدنى درجات التوحش، ولديها شرائع
على حسب مداركها مطابقة في أصولها الأولية لشرائع الجمعيات البشرية الأولى،
فلماذا نحكم بأن شرائع المتوحشين العصريين هي من تلقاء أنفسهم، وتلك الشرائع
هي من الوحي، مع تشابهها في النقص والسذاجة؟) اهـ.
افتجر فريد أفندي لعلمائنا قولاً لم يقولوه ولا قاله أهل مذهب منهم، وأورد
عليه مطاعن عزاها إلى الأوربيين؛ ليدافع بكشف شبهتها عن الإسلام والمسلمين،
فكان دفاعه - لو صح ما يسبق إلى الأذهان منه - من قبيل تلك المطاعن أو أشد منها.
الظاهر من عبارة فريد أفندي الذي يفهمه منها القارئ؛ هو أن الوحي أصل
كل شريعة وجدت في البشر، فكانت قانونًا يحكم بها الناس فيما يختلفون فيه، فعلى
هذا يكون مما يعتقد المسلمون أن الأحكام التي كانت عليها العرب في الجاهلية
وكذا غير العرب من الوثنيين - كلها مبنية على أصل الوحي الإلهي، وإنه لقول
ينقضه الإسلام بكتابه وسنته ومذاهب أئمته نقضًا، وإنما يقول المسلمون كافة: إن
الشرائع التي جاء بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - هي من وحي الله -
تعالى- لا من مخترعات عقولهم، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ} (البقرة: ٢١٣) .
فإذا كان فريد أفندي يريد من عبارته ما يدل عليه ظاهرها وهو أن المسلمين
يقولون: إن أصول جميع الشرائع كان بوحي من الله، حتى شرائع الوثنيين
المنحطين في الوثنية، أو الذين ارتقوا فيها كقدماء المصريين والكلدانيين
والرومانيين، ثم يقول: إن علماء أوروبا يوجِّهون إلينا تلك المطاعن؛ لأجل ذلك.
فقد أعلمناه أن هذا باطل، ونزيد على ذلك أن الأوربيين لا ينسبون إلينا هذا الاعتقاد،
ولا يطعنون علينا به. ولو طعنوا لما دفع قوله طعنهم؛ لأن الوحي لا يصح إطلاقه
على نتائج العقول وما تولده الأفكار، وإن صح إطلاقه على الإلهام الفطري.
وإن أراد بأصل الشرائع ما يعتقد المسلمون أن النبيين المرسلين جاءوا به عن
الله - تعالى - ودعوا الناس إليه على أنه وحي من الله، لا من عند أنفسهم، فقد
صدق في حكاية اعتقادنا، وأن علماء أوربا يطعنون علينا بهذا الاعتقاد، بل لا
يطعنون علينا إلا باعتقادنا أن أصل شريعتنا نفسها وحي من الله دون شريعة اليهود
مثلاً، وحينئذ يكون دفعه لهذه المطاعن بما فسر به الوحي هو عين الهدم لأصل
الإسلام، والتكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ما نطق به القرآن، وانعقد
عليه الإجماع، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء بهذه الشريعة من عنده،
وليست من نتائج عقله وفكره، وإنما يقول بهذا من ينكرون الأديان، ويدعون أن
الأنبياء فلاسفة أخلاق وآداب واجتماع، أسندوا فلسفتهم إلى الوحي الإلهي؛ ليقبلها
الناس، ولهذا رجحنا أن الاحتمال الأول هو مراد فريد أفندي، وعليه يكون مخطئًا
في عزوه إلى المسلمين ما لا يعتقدون، وإلى الإفرنج ما لا يقولون (لأن ما بني على
الفاسد فاسد) ، وقصَّر في سكوته عن بيان شبهتهم على شريعتنا، وعن دفع هذه
الشبهة، ومما يؤيد الترجيح تصريحه: بأن للوحي معنى خاصًّا غير ما فسر به أصل
الشرائع، وقد عبر عن هذه الشرائع بالناقصة. وإنما ذكرنا الاحتمال الثاني لما
علمت. ولكن انظر ما يأتي:
قال فريد أفندي: (فإن قال قائل: قد ثبت شرعًا أن أول البشر آدم - عليه
السلام - وهو نبي بالإجماع، وقد ذكر الله أنه أوحى إليه وعلمه، فيكون أصل الشرائع الوحي بالمعنى الخاص. نقول: إن صح إيحاء الله لآدم كان بالمعنى
الخاص، ولم يكن بمعنى الإلهام والنفث في الروع من طريق مقتضيات الفطرة
الإنسانية، فإن الله لم يذكر أنه أوحي إليه شريعة، بل لم يكن الحال يقتضي ذلك في
ذلك العهد؛ لقلة الناس وقربهم من حالة الفطرة) ... إلخ.
ونقول: إنه بعد أن ذكر أن آدم كان نبيًّا بالإجماع، ما كان له أن يرتاب في
كون وحي الله له - وقد اعترف بأنه ثابت من الوحي الخاص، لا من قبيل الوحي
إلى النحل، فهذه سقطة كبيرة. وقوله: إن الحال في عهده لم تكن تقتضي شرعًا لما
ذكره ظاهر البطلان؛ فإن القليلين يتنازعون ويتخاصمون كالكثيرين،
فيحتاجون إلى من يحكم بينهم بالحق والعدل، وقد ثبت أن أحد أبناء آدم قتل أخاه،
ولم يمنعه القرب من الفطرة عن ذلك، فماذا نقول فيما دون القتل من أنواع الخصام؟
ثم ما يدرينا أن آدم عاش عمرًا طويلاً كثر الناس فيه، فإن طبيعة الأرض كانت في
عهده غير طبيعتها الآن فيما يظهر، بل ثبت بالوحي أن نوحًا عاش نحو ألف سنة؛
لأن طبيعة الأرض قبل الطوفان كانت غيرها بعده وأمزجة الناس كانت قابلة لذلك
على ما هو المرجح عندنا، والله أعلم بالصواب.
ثم ختم فريد أفندي درسه بأربع مسائل، قال: إنه يمكن جعلها نتائج له وهي:
(١) أن العدالة في الأمة تكون مناسبة لعادتها وأخلاقها.
و (٢) أن الأمم تتكون على النظام الذي تدرك به نفسها.
و (٣) أن كل ترق أخلاقي يتبعه ترق تشريعي.
و (٤) أن الشريعة لا تصل إلى أوج كمالها في أمة إلا إذا كانت المساواة بين
الأفراد بالغة حدها الأقصى؛ أي: إذا ترقت فيها الأخلاق لدرجة أن الرجل منها
يعتبر غيره نظيره، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يتخلص فيها العقل من أوهامه
الاجتماعية، فيواجه الطبيعة الحقة للحوادث، ويترك لها زمامه لتقوده إلى العدالة
المحضة.
(قال) : (من هنا يرى الرائي كيف أن كل انقلاب حدث في أخلاق أمة
يتأدى بطبعه إلى انقلاب في شريعتها، ويدرك تبعًا لهذا فساد الأحكام، وبُعدها عن
العدالة في بعض الأمم المتدينة التي تُقرر مبدأ التمايز في أفراد الجمعية، فَتَهَب
لبعضهم حقوقًا تسلبها عن الآخرين باعتبارات دينية) .
(هنا نستلفت نظر القارئ إلى أمر خطير يدل في إجماله على أن الشريعة
الإسلامية هي أعدل الشرائع، وأرقاها بحكم أكبر أصل من أصول فلسفة التشريع،
وذلك أن هذه الفلسفة تقرر بأن الشريعة لا تصل إلى أوج الكمال إلا إذا كانت
المساواة تامة بين الأفراد. وهذه الشريعة الإسلامية مبناها {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ، فلم تقرر في أصولها أدنى امتياز لأي طائفة، فتكون بهذا
الدليل الإجمالي أعدل الشرائع. وسنرى في التفصيل العجب العُجَاب) اهـ كلام
فريد أفندي.
أقول: لو أحفى المنتقد لهذه الجملة، لأمكنه أن يكتب في انتقادها عدة أوراق،
ونكتفي بذكر المهم عندنا من ذلك، وهو ما يتعلق بالشريعة الإسلامية.
إنه جعل كمال الشريعة تابعًا لكمال الناس في أنفسهم، ولما نزلت الشريعة
الإسلامية لم يكن الناس الذين أنزلت لأجل الحكم بها بينهم أولا في ذلك الأوج من
الارتقاء، فكيف بنى تفضيلها على هذا الأصل؟
ثم من هي الأمة المتدينة التي وصفها بفساد الأحكام وبُعدها عن العدالة؛
لتقريرها مبدأ التمايز بين الأفراد بالدين؟ اليهود ليس لهم حكومة. والنصارى
جعلوا أحكامهم مبنية على العقل، وشهد هو للأوربيين منهم بالارتقاء العظيم. فهل
يعني بعض الوثنيين؟ ولم لم يشر إلى ذلك؟ وماذا يقول في مثل جعل الخلافة في
قريش، وفي أحكام شهادة غير المسلم على المسلم في الشريعة الإسلامية؟
وهل الشريعة الإسلامية خاصة عنده بالمؤمنين بها، أم يحكم بها بين غير
المؤمنين بها؟ وإذا قال بالثاني، فهل أخوة المؤمنين لبعضهم البعض تقتضي
مساواتهم لغيرهم ممن يحكم بها أم لا؟ فإن اعترف بأنها لا تقتضي ذلك فيكف يتم
قوله؟
إن رأيه في ارتقاء الشريعة ووصولها إلى أوج الكمال إنما يصح في
القوانين الوضعية التي ترتقي بارتقاء الواضعين لها في أممهم وفي أنفسهم. وأما
الشريعة الإسلامية فإنها قواعد وأحكام أنزلها الله كاملة؛ لأجل أن يكون ارتقاء
الناس تابعًا لها، فكان كمال المؤمنين باتباعهم لها، ولم يكن كمالها هي تابعًا لكمالهم.
هذا ما رأينا أن ننبه عليه، ونختم الكلام ببيان أن سبب هذا الخطأ وأمثاله
فيما يكتبه محمد فريد أفندي وجدي من المباحث الإسلامية؛ هو عدم تلقيه علوم
الدين عن أحد من العارفين به، فعسى أن يحمله ما يرى من انتقاد كلامه في الدين
على مدارسة المهم من علومه، والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))