للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بدعة غريبة في مصر

يقولون: إن مصر بلاد العجائب وأي العجائب أغرب مما يحدث في مصر
يقوم شيخ عالم كالشيخ حسن علي الدمياطي ينكر بعض البدع والخرافات التي
فشت في المسلمين، فيقيم عليه النكير العلماء وأنصارهم من العوام، ويعاقب بمنع
رزقه الذي يستحقه شرعًا من الأوقاف، ومنعه من تعليم المسلمين وإرشادهم سنة
كاملة.
ويقوم شيخ آخر كالشيخ عبد الرحمن عليش فيبتدع بدعة جديدة في الإسلام
هي من أغرب البدع وأنكرها، فلا يلقى من العلماء إنكارًا ولا من الأمة نفارًا، وما
أظن أن أحدًا سبق هذا الشيخ إلى وقف المساجد على الأموات من غير المسلمين؛
لأجل الصلاة على أرواحهم. وكيف وإن وقفها على أموات المسلمين أنفسهم من
البدع التي لا يعرفها كتاب الإسلام، ولا تقبلها سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
اسم الشيخ عليش الكبير- رحمه الله - مشهور في مصر وفيما جاورها من
البلاد؛ بما كان عليه من التحمس والتشدد في الدين، على كونه من أشهر علماء
الأزهر المعمرين، وقد بلغ من تحمسه أنه لما بلغه أن السيد محمد السنوسي
- رحمه الله تعالى - يقول بالاجتهاد أخذ حربة وقصد إليه ليطعنه بها لما كان بمصر
وأنه لما وشى إليه أحد أولاده بالشيخ محمد عبده - رحمه الله - عندما كان يقرأ
العقائد النسفية (وهو مجاور بالأزهر) ، قائلا: إنه رجَّح مذهب المعتزلة على
مذهب الأشعري ثار عليه وعلى أستاذه الأفغاني، وكان طول حياته حربًا لحكيم
الإسلام وللأستاذ الإمام وللسيد السنوسي، وإن هؤلاء الثلاثة لأعظم مسلمي هذا
العصر أثرًا في الإسلام.
ما أبعد الفرق بين الشيخ عليش في تحمسه الديني وغيرته على الإسلام في
مذاهبه وتقاليده وبين أولاده وأحفاده الذين لم يرثوا منه علمًا ولا خُلُقًا، فهم أول من
مثَّل الإسلام أمام الإفرنج في معرض الهزء والسخرية؛ إذ جمعوا لهم بعض
الزعانف المنتسبين إلى الطريق، وجعلوا يرقصون ويذكرون؛ ليصورهم الإفرنج
في تلك الحالة، ويثبتون صورهم في الكتب مبينين أن رقصهم على تلك الصفة
الشنيعة من عبادات الإسلام.
ثم بلغنا في العام الماضي أن الشيخ عبد الرحمن عليش قد وقف قطعة أرض
بحارة الجوار القريبة من الأزهر بنى فيها مسجدًا باسم همبرتو الأول ملك إيطاليا لتقام
الصلوات فيه عن روح الملك المتوفى ويكون تذكارًا له، وسلمه لحكومة إيطاليا، وهي بدعة غريبة لا يعرف لها نظير في الإسلام.
وفي تلك السنة رفع الشيخ محمد عبد ربه قضية على الشيخ عبد الرحمن
عليش بأن له حقًّا في الأرض التي بني فيها المسجد، فهي أرض مغصوبة. فكان
مما قدمه المحامي عن الشيخ عبد الرحمن عليش إلى المحكمة من الأوراق التي
يسمونها المستندات ما يأتي بنص الحافظة التي حفظها له المحامي وغلطها اللغوي:
عدد
ترجمة مُوَقَّع عليها بإمضاء مترجم أول الوكالة السياسية الإيتالية بمصر محمد
بيك علي علوي مؤرخه في ١٦ مارس سنة ١٩٠٦ تفيد أن الشيخ عبد الرحمن عليش
المدعى عليه بناء مسجد، وأعطاه للحكومة الإيتالية ورقة باللغة الأجنبية ترجمة
المشروح أعلاه.
خطاب باسم الشيخ عبد الرحمن عليش مؤرخ في ٢١ فبراير سنة ١٩٠٦، يفيد
تشكر قنصل إيتالية بالنيابة عن الوزارة الخارجية الإيتالية لحضرة الشيخ عبد
الرحمن عليش؛ نظير تبرعه بقطعة أرض من أملاكه للحكومة الإيتالية؛ ليقام
عليها مسجد تقام فيه الصلوات الخمس على روح الملك.
(٣)
فقط ثلاثة أوراق لا غير تقدموا لمحكمة السيدة زينب بحافظه بإمضاء محمد
زكي عبد المجيد المحامي بمصر ٢٢ -٣ سنة ١٩٠٦
ترجمة نمرة ١ حافظة
الوكالة السياسية الإيتاليه تعترف: أن الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير بَنَى
في حارة الجوار بخط الأزهر جامعًا باسم جلالة الملك همبرترالأول وتذكارًا له،
والجامع المذكور أعطاه للحكومة الإيتالية هذه الترجمة طبق الأصل.
١٦ - ٢ سنة ٨٩٩ - قنصل جنرال دولة ... ... مترجم السياسة بمصر
... ... ... إيتالية والوكيل السياسي ... محمد علي علوي
... ... ... بمصر المستر سلفاخس
... ... ... ... راحي
... ... ... ... ختم القنصلية

(المنار)
ويلي هذا صورة كتاب شكر من عميد دولة إيطاليا بمصر للشيخ عبد الرحمن
عليش. وكتبت جريدة الأخبار في هذا الشهر شيئًا في هذه المسألة، علم منه أن
حكومة إيطاليا مغبوطة بموالاة الشيخ عبد الرحمن عليش لها وموادته إياها، وأنهم
أخذوا عنه صورة شمسية عرضوها في بعض جرائدهم. وعظَّمت شأنه جريدة
الأخبار تبعًا لهم، فجعلته من العلماء الذين لهم الشأن والنفوذ وما هو منهم في
شيء ولا نفوذ له، بل لا يكاد يعرف.
وقد نمى إلينا أن إيطاليا تستعين بموالاة هذا الشيخ لها، وبما تعظِّم من شأنه
بالباطل على تأييد نفوذها فيمن استولت عليهم من المسلمين، وفيمن تطمع
بالاستيلاء عليهم كأهل طرابلس الغرب وأهل اليمن، فإن لها يدًا خفية في فتنة
اليمن، ولها طمع في تلك الولاية تغذيه وتنميه في نفسها إنكلترا فيما يقال.
ولكن أجهل المسلمين لا يعتد بشيخ يقف مسجدًا؛ لتصلى فيه الصلوات الخمس
على روح ميت غير مسلم، بل ولا ميت مسلم، بل ولا نبي من الأنبياء، فإن
الصلوات الخمس عند المسلمين لا تكون إلا خالصة لله وحده. وأما الصلاة على
الأنبياء التي يخصون بها الأنبياء فهي الدعاء بمثل: اللهم صل على محمد، أو صلى
الله عليه وسلم عند ذكره. فهل يعتد به أهل اليمن أو طرابلس وفيهم العلماء
والعارفون؟؟
ليس ما فعله عبد الرحمن عليش من التساهل الديني الذي يجعلونه التعصب
الذميم، بل هو من تساهل الجهل والتهاون والعبث بالدين. وقد يفهم جهلة العوام
ولو بعد حين أن نسبة المسجد إلى همبرتو، كنسبة غيره إلى بعض الأولياء
كالدسوقي والبدوي والحنفي، ولا يبعد أن يبنى له فيه قبر للملك يزار، ويضمه
إليه عباد القبور.