للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بغداد في القرن السادس
ومجلس شيخا الشافعية والحنابلة
رضي الدين القزويني وابن الجوزي

قال الكاتب الأديب أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي
البلنسي في رحلته الشهيرة، في الفصل الذي أنشأه للكلام عن بغداد:
(هذه المدنية العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة
الإمامية القرشية الهاشمية قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها،
وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعين النوائب
إليها كالطلل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها
يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين
شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين،
فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقلية لا تصدأ، والحسن الحريمي
بين هوائها ومائها ينشأ، هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن
الهوى منها إلا أن يعصم الله مخوفة.
وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه
عجبًا وكبرياء، يزدرون الغرباء، يظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء،
ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده
أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى
غير مثواهم كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادًا أو عبادًا سواهم، يسحبون أذيالهم أشرًا
وبطرًا، ولا يغيرون في ذات الله منكرًا، يظنون أن أسنى الفخار، في سحب
الإزار، ولا يعلمون أن فضله بمقتضى الحديث المأثور في النار، يتبايعون بينهم
بالذهب قرضًا وما منهم من يحسن لله فرضًا، فلا نفقة فيها إلا من دينار نقرضه،
وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف،
ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا
يبالون في ذلك بعيب، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب، فالغريب فيهم معدوم
الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه
هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح
بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها، يغلب على طبع هوائها ومائها , ويعلل
حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها.
أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لا جرم أنَّ لهم في
طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف
والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم،
ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم.
لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من
أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها
لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة.
فأول من شاهدنا مجلسه منهم، الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس
الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية،
حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر
المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه بالقراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا
وشوقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام
المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين العلوم من تفسير كتاب الله
- عز وجل - وإيراد حديث رسوله صلى الله عليه وسلم والتكلم على معانيه.
ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر
ودفعت إليه عدة رقاع فيها [١] فجمعها جملة في يده، وجعل يجاوب على كل
واحدة منها، وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء، فنزل وافترق الجمع.
فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقورًا هينًا لينًا، ظهرت فيه البركة والسكينة
ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه
سرت حميا وعظه إلى النفوس , حتى أطارتها خشوعًا، وفجرتها دموعًا، وبادر
التائبون إليه سقوطًا على يده ووقوعًا، فكم من ناصية جزَّ [٢] وكم مفصل من
مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحز، فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة
وتتغمد الجناة، وتستدام العصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن
مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه، برحمته
وكرمه إنه المنعم الكريم، لا ربَّ سواه، ولا معبود إلا إياه.
وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من
الشهر المذكور، وحضر مجلسه ذلك اليوم سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة
الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهز عظيم، وتطريف آماق [٣] تشوقت له
النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملاً به، فأتى
بأفانين من العلم على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر
الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد [٤] ، المشتهر المآثر والمكارم، المقدم
بين الأكابر والأعاظم.
ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال
الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي، وفي
آخره على اتصال من قصور الخليفة، وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب
الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا
زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية
والمخصوص في العلوم بالرُّتب العلية إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة
والمشهور له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم
والنثر، والغائص في بحر فك نفائس الدر. فأما نظمه فرضي الطباع، مهياري
الانطباع. وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان.
ومن أكبر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر، ويبتدئ القراء بالقراءة
وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان والثلاثة آية من القرآن يتلونها على
نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا
يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات
مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصيها عددًا، أو يسميها نسقًا. فإذا فرغوا أخذ
هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلاً مبتدرًا، وأفرغ في أصداف
الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فِقرًا،
وأتى بها على نسق القراءة لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية
منها. فلو أن أبدع مَنْ في مجلسه، تكلف تسمية ما قرأ القراء به آية آية على
الترتيب، لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء
بها عجلاً، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: ١٥) {إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الفَضْلُ المُبِينُ} (النمل: ١٦) . فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات، ليس
الخبر عنه كالخُبر.
ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بينات من
الذكر طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا , إلى أن علا الضجيج
وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش
على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده، فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له منهم
من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة،
ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا
لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة , والوجهة المفلحة
الناجحة، والحمد لله على أن منَّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود
عن مثله.
وفي أثناء مجلسه ذلك، يبتدرون المسائل، وتطير إلى الرقاع، فيجاوب
أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل،
والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله سواه.
ثم شاهدنا مجلسًا له ثانيًا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر
في ساحة قصور الخليفة، ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور هو من
حرم الخليفة، وخُصَّ بالوصول إليه، والتكلم فيه؛ ليسمعه من تلك المناظر الخليفة
ووالدته، ومن حضر من الحرم.
ويفتح الباب للعامة، فيدخلون إلى ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر. وجلوسه
بهذا الموضع كل (يوم) خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا
إلى أن وصل هذا الحَبْر المتكلم، فصعد المنبر وأرخى طيلسانه عن رأسه؛
تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا
القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاؤوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون
بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور
مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات،
ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية {اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} (غافر: ٦١) فتمادى على هذا السين، وحسن أي تحسين، فكان يومه أعجب من
أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته , وكنى عنها بالستر
الأشرف، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ كل ذلك بديهة لا روية،
ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها
العيون، وأبدت النفوس سر شرفها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين،
وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس
لا تملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولا تجد للصبر سبيلاً.
ثم في أثناء مجلسه ينشد من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق،
تشعل القلوب وجداً، ويعود موضوعها النسيبي زهدًا، وكان آخر ما أنشده من ذلك
وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام.
أين فؤادي إذا به الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد
يا سعد زدني جوى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد
ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من
فِيْه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام، ونزل عن المغير دهشًا عجلاً، وقد أطار
القلوب وجلاً، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن
معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب، فياله من مشهد ما أهول مَرْآه، وما أسعد
من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز بنصيب من رحمته، بمنه وفضله. ثم
ذكر أنه حضر له مجلسًا ثالثًا، وأثنى عليه، وفضله على كل من رأى في الحجاز
والعراق. وفَضَّل وعَّاظ الشرق على وعاظ الغرب أهل بلاده (الأندلس) .
العِبرة في هذه الإثارة
التاريخية من وجوه
أحدها: أن بغداد لما ضعفت مدنيتها، وتضاءلت العلوم والمعارف فيها، أعقب
ذلك أهلها فسادًا في الأخلاق، وشرها في الارتزاق، وعجبًا بما كان على عهد الآباء
واحتقارًا للغرباء، وقد كانت في أيام حياتها العلمية تقدر كل أحدٍ قدره حتى كان
يجيئها الغريب، فيكون رئيس العلماء فيها، فيذعنون له، ويعترفون بإمامته.
وهذه سيرة الغزالي حجة الإسلام، حجة على ذلك، فليعتبر بذلك دعاة
العصبة الجاهلية بمصر؛ ليعلموا أن هذه العصبة من علامات الموت، لا من
آيات الحياة، ولو كان عند أسلافنا شيء من هذه العصبة، لما أصابوا من العلم
والمدنية مما أصابوا.
ثانيها: أن الزمن الذي زار فيه بغداد ابن جبير، ووصفها فيه بالانحطاط
والتأخر عما كانت، حتى تمثل فيها بقول أبي تمام: لا أنت أنت ولا الديار ديار،
هو الزمن الذي كان فيه من بقايا العلماء فيها مثل؛ رضي الدين القزويني وابن
الجوزي فمن لنا الآن بمثلها، وقد مر بك التنويه بشيء من فضلهما.
ثالثها: أن أكابر العلماء وأئمتهم، كانوا لا يزالون يعقدون مجلس الوعظ للعامة
وقد صار كبار علمائنا في أكثر البلاد يستنكفون عن الوعظ، ويعدونه مزريًّا بهم،
حتى عم الفساد، وعز تلافيه. وقد بذل الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - جهده في
إحياء هذه السنة الحسنة سنة الوعظ، والتذكير بترغب العلماء فيها بالقول، وبما
سعى من ترتيب المرتبات لها من الأوقاف. ولكن لا تكاد تجد في العلماء من له قلب
يبعثه إلى العمل، وإنا لنعلم أنه يشعرون من أنفسهم بالعجز عن الوعظ النافع،
ولو وجد الباعث النفسي، لأتقن ذلك كثيرون.
رابعها: أن وعاظ ذلك العصر، كانوا يعظون الناس بالكلام الفصيح، المشتمل
على الإشارات إلى الآيات والأحاديث ووقائع التاريخ، (وسننشر في المنار نموذجًا
من وعظ ابن الجوزي) ، وكان العوام يفهمون كلامهم ويتعظون به، وقد سمعت
خبر كثرة التائبين في مجالس الوعظ. أما الآن فقد جَهِلَت اللغة، حتى إنك لتجد
أكثر المتعلمين، لا يفهمون الكلام البليغ والأساليب العالية حق الفهم، فما بالك
بالأميين.
فوا لهفي على تلك القلوب الرقيقة، والفطر السليمة، والسير القويمة، على أن
ضعف الفاعل، قد صار أشد من ضعف القابل، فالعوام لا يزالون يفهمون بالإجمال
من الواعظ الحسن الذي يتحرى السهولة، ويراعي درجة استعدادهم ما يتعظون به
ويتذكرون.
ولكن لا نكاد نجد هذا الواعظ في الخاصة، لا لسبب؛ إلا عدم الاهتمام
بأمر العامة وغيرتهم على الدين. وقد جَرَّبْنَا وعظ العامة وتذكيرها، فرأينا من
الاستعداد ما تجزم معه؛ بأن إحياء سنة الوعظ، تحبي الدنيا، وتصلح الأخلاق في
زمن قليل.
خامسها: أن الخليفة ونساءه، كانوا في ذلك العصر يعنون بسماع الوعظ الذي
يلقى على العامة، مع شدة ما أحدثوا من التحجب الذي كان من أسباب زوال سلطتهم
واختلال أمر الأمة بكثرة السلاطين المستبدين، فأين ذلك من ملوكنا وأمرائنا اليوم
وسلطان المغرب الأقصى يعتقد كما يعتقد الجمهور من خاصته: أنه إذا قرئ
تفسير القرآن يموت السلطان، أفيرجى بقاء مملكة، يعتقد خواصها هذه الخرافة،
وما هي إلا واحدة من ألوف خرافاتهم.
وأما الأمراء المتفرنجون، فلهم أعمال من دون ذلك، هم لها عاملون،
وبها مشغولون، فماذا تقول في نساء الملوك والأمراء وعدم سماعهم شيئًا من
أمر الدين؟
وقد يقول قارئ تلك الإثارة: إن ابن جبير ذكر من فساد أخلاق أهل بغداد ما
ذكر، ثم ما عتم أن ذكر؛ أن الذين يتوبون منهم في كل مجلس وعظ كثيرون، فقد
ناقض نفسه. ونجيب عن ذلك؛ بأن الذين كانوا يسمعون الوعظ، لم يكونوا كلهم
من أهل بغداد نفسها، بل كان فيهم كثيرون من الضواحي والقرى القريبة، بل
كانت الرواحل تشد إلى أمثال هؤلاء الوعاظ من الأماكن البعيدة، كما يعلم من التاريخ
على أن كثرة التائبين والصالحين في بلد عظيم كبغداد، لا ينافي كون العصاة فيها
أكثر، أو كون المعاصي فاشية فيها.