للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على محمد فريد وجدي في كتبه
(٣)

كنز العلوم واللغة
نكتفي في هذا الجزء بالانتقاد على مادة واحدة من مواد كتاب كنز العلوم واللغة؛
لأن باب المناظرة لا يتسع فيه لأكثر من ذلك.
أخطأ فريد أفندي وجدي فيما كتبه في لفظ (حديث) أنواعًا من الخطأ، تدل
على أنه لا ثقة بنقله وروايته، كما أنه لا ثقة بفهمه ورأيه.
(الخطأ الأول) تعريفه الحديث في الاصطلاح، بقوله: (والحديث في
الاصطلاح، أطلق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام)
وهذا غير صحيح، وهو يدل على أنه لم يتلق، ولم يقرأ شيئًا من كتب الحديث
مطلقًا، أو قرأ شيئًا قليلاً لم يفهمه، والصواب أن الحديث في اصطلاحهم ما أضيف
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريرًا أو صفة. ويطلق كما في
النخبة على كل من: المرفوع والموقوف والمقطوع.
(الثاني) قوله: إنه لم يصح عند أبي حنيفة إلا سبعة عشر حديثًا فقط، فإن
من يعرف غير هذا العدد من الصحاح لا يعترف له أحد بالإمامة والاجتهاد المطلق
نعم، إن الرواية عن أبي حنيفة قليلة، وفرق بين ما يروى عنه، وما يصح
عنده.
(الثالث) قوله: (إنه لم يصح عند الإمام مالك إلا ثلاث مائة حديث) ،
وهذا خطأ كبير، فقد قال الحافظ ابن حجر: كتاب مالك صحيح عنده، وعند من
يقلده، على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما.
وقد نقل عن الإمام الشافعي أن الموطأ أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. نعم،
إن الشافعي قال ذلك قبل وجود صحيحي البخاري ومسلم، اللذين قدمهما العلماء بعده
على الموطأ. ولكن ذلك لم يخرج الموطأ عن كونه صحيحًا. وقد نقل السيوطي في
تنوير الحوالك عن القاضي أبي بكر بن العربي أن الموطأ هو الأصل الأول،
والبخاري هو الأصل الثاني. وأنَّ مالكًا روى مائة ألف حديث، جمع منها في
الموطأ عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة (أي العملية) ، حتى
رجعت إلى خمس مائة وعن إلكيا الهراسي كان تسعة آلاف، فرجع إلى سبع مائة.
أقول: والظاهر أن الخلاف في العدد خاص بالأحاديث المسندة، وهي كما نقل
عن الأبهري ست مائة، وعن ابن حزم خمس مائة ونيف. ومجموع الأحاديث والآثار
فيه ألف وسبع مائة وعشرون. قال الأبهري: المرسل منها ٢٢٢، والموقوف
٦١٣، ومن أقوال التابعين ٢٨٥، وكل ما فيه قد صح عند مالك. وإن قال بعض
المحدثين بعده بضعف قليل من رواياته، وقد نقل عنه أنه قال: (عرضت كتابي هذا
على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته الموطأ) ، فلينظر
الناظر على مبلغ علم فريد أفندي بالآثار، وجرأته على كتابة ما ليس له به علم.
(الثالث) قوله: (ولم يصح عند البخاري إلا ٦٢٠٠ حديثا (كذا) من أكثر
من ٦٠٠.٠٠ سمعها من الناس) .
أقول: لا ندري، أيخترع فريد أفندي وجدي هذه الأقوال اختراعًا أم سأل بعض
من يظن فيه العلم أن يكتب له ذلك، ليفتخر بعلم غيره، فكان افتخاره بالجهل.
أما المعروف المشهور في كتب الحديث، فهو أن ما في الجامع الصحيح
للبخاري هو بعض ما صح عنده، وهو بالمكرر يزيد عما قال، وبدونه ينقص،
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: جميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات
والمتابعات سبعة آلاف وثلاثة مائة وسبعة وتسعون حديثًا، والخالص من ذلك بلا
تكرار ألفا حديث وست مائة وحديثان. ثم تكلم في إحصاء المتون المعلقة المرفوعة
بغير وصل.
ولا يتفق زعم فريد أفندي وجدي مع عد المكرر ولا مع تركه. هذا إذا فرضنا
أنه لم يصح عند البخاري إلا أحاديث الجامع، والصواب أنه قد صح عنده غيرها،
وقد صح عنه أنه قال: (لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من
الصحيح أكثر حتى لا يطول) .
(الرابع) قوله: أول من ألف في الحديث مالك في الموطأ (كذا) توفي سنة
١٧٩، وقيل: ابن جريج.
والصواب أن أول من دون الحديث ابن شهاب الزهري بأمر عمر بن عبد
العزيز كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ورواه أبو نعيم في الحلية عن مالك نفسه
وفي باب اكتتاب العلم من الموطأ رواية محمد بن الحسن، وعلقه البخاري
(أخبرنا مالك أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر
عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته
أو حديث عمر أو نحو هذا، فاكتبه لي؛ فإني قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء) .
نعم، إنهم ذكروا أن مالكا وابن جريج من أول من صنف الحديث مرتبًا على
الأبواب، وهذا أخص من مطلق التأليف والتدوين، فإن الذين كتبوا الحديث
على أقسام: منهم من كتب ما اجتمع له كيفما اتفق، ومنهم من رتبه على
الأبواب، ومنهم أصحاب المساند الذين ذكروا ما أسنده كل صحابي على حدة بحسب
رواياتهم، ومنهم أصحاب المعاجم الذين رتبوه على حروف المعجم.
وقد كان ممن ألف الحديث مرتبًا على الأبواب في القرن الثاني مالك بالمدينة،
وابن جريج بمكة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والربيع بن صبيح
أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن،
وجرير بن عبد بن حميد بالري، وابن المبارك بخراسان. قال الحافظان ابن حجر
والعراقي: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا يدرى أيهم أسبق، كذلك كتب المسند
غير واحد في عصر واحد، فاختلفوا في الأول منهم.
فلو كان فريد أفندي وجدي مطلعًا على أقوال المحدثين في ذلك، لقال: إن
مالكًا وابن جريج هما أول، بل من أول من صنف الحديث مبوبًا، كما يقال أول أو
من أول من كتب المسند نعيم بن حماد وأسد بن موسى وعبد الله بن موسى. وأنَّى
لمثل فريد أفندي وجدي أن يعرف شيئًا من هذه الفروق والدقائق، أو مثل من وصفه
بالتدقيق والتحقيق في كل ما يكتب، كبعض محرري المؤيد. على أن القول بسبق
ابن جريج لمالك أقوى من عكسه، كما أطلق ذلك غير واحد، ومنه ما في التذكرة
للحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد أنَّ ابن جريج وابن أبي عروبة أول من صنف
الكتب.
(الخامس) قال فريد أفندي وجدي: (ثم توالت بعد ذلك المجموعات السبع
الشهيرة بكتب السنة الصحيحة وهي: مجموعة البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ هـ،
ومسلم المتوفى سنة ٢٦١ هـ، وأبو داود (كذا) المتوفى سنة ٢٧٥ هـ وابن ماجه
المتوفى سنة ٢٨٢ هـ، والنسائي المتوفى سنة ٣٣٣ هـ والدارقطني
المتوفى سنة ٣٨٥ هـ) .
أقول: إنه ذكر أن المجموعات سبع وعد ستًّا فقط، فلا نعد هذا عليه، وإنما
نعد عليه أنه ترك من الكتب الستة كتاب الترمذي، واستبدل هو به الدارقطني،
وهذا يدل على الجهل المطلق بهذا العلم، ولو ترك ابن ماجه لقلنا: إنه تركه
للخلاف فيه، وإن جرى جميع المتأخرين على عده السادس من الستة. ولكن أنَّى
لمثله، ولمن يقرظ له كتبه، فيصفها بالتحقيق والتدقيق أن يعرف هذا.
(السادس) زعمه أن ابن ماجه توفي سنة ٢٨٢، والصواب أنه توفي سنة
٢٧٢، وقيل ٢٧٥.
(السابع) زعمه أن النسائي توفي سنة ٣٣٣، والصواب أنه توفي سنة
ثلاث وثلاث مائة. فبأي شيء مما يكتب فريد أفندي يوثق.
إن كل ما كتبه في هذه المادة لا يزيد إلا قليلاً عن الصفحة، وقد رأيت أن
معظم ما هو نقلي من ذلك فهو خطأ؛ لأن منه الكلام في النسخ والوضع، وله في
ذلك عبارات لو تتبعناها وانتقدناها لفظًا ومعنى؛ لأطلنا في إحصاء ما يتعذر
إحصاؤه.
ومن قرأ قوله في آخر هذه المادة: (هذا وإننا في عصر كثر فيه النبهاء،
وأخذ كثير منا في احتذاء مثال أئمتنا في مسألة الأحاديث من الاكتفاء بالصحيح
السليم، وإن كان قليلاً، وترك المشكوك فيه، مهما كان كثيرًا) .
من قرأ قوله هذا يظن أنه هو في مقدمة هؤلاء النبهاء الذين ذكرهم. ولكنه إذا
تتبع الأحاديث التي يحتج بها فيما يكتب، يرى أنه يشكك في أصح الروايات؛
كأحاديث الشفاعة. ويعتمد في الأكثر على الأحاديث المشكوك فيها، أو المقطوع
بضعفها أو وضعها، وهو لا يعلم. وسنبين ذلك في فصل مستقل إن شاء الله.