للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أثارة من التاريخ

قطعة من مكتوب شهاب الدين بن مري تلميذ ابن تيمية يعزي إخوانه تلاميذ
شيخ الإسلام عنه، ويحثهم على جمع مصنفاته.
أيها الإخوان:
لا تنسوا تقريرات شيخنا الحاذق الناقد الصادق - قدس الله روحه - لمعاني قوله
تبارك وتعالى في بيان الحِكَم الأربع التي أودعها الله سبحانه في ضمن انكسار
عسكر الرسول في يوم أحد، وهي قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ} (آل عمران: ١٤١-١٤٢) ، فلا تهملوا أمر الفكرة الصالحة في هذه
المعاني الشريفة وغيرها، ولا تجزعوا لما حصل فإن الله حي لا يموت، وهو
المتكفل سبحانه بنصر الدين وأهله، والمختبر لعباده فيما يبتليهم به، والخبير
بجملة مصالحهم والرؤوف بهم، والهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم، ولا يهلك
على الله إلا هالك، والسعيد من قام بما عليه إلى وفاته، ومن أراد عظيم الأجر
التام ونصيحة الأنام ونشر علم هذا الإمام الذي اختطفه من بيننا محتوم الحمام،
ويُخْشَى دُرُوسُ كثير من علومه المتفرقة الفائقة مع تكرر مرور الليالي والأيام
- فالطريق في حقه هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار والكبار، على
جليتها من غير تصرف فيها ولا اختصار، ولو وجد كثيرًا من التكرار، ومقابلتها،
وتكثير النسخ بها وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباه في مكان واحد، واغتنام حياة
من بقي من أكابر الإخوان، فكأننا جميعًا بكمال الفوت وقد حان، ويكفينا ما عندنا
على ما فرطنا من عظيم الأسف، فلوجه الله معشر الإخوان لا تعاملوا الوقت
الحاضر بما عاملتم به الوقت الذي قد سلف، فإن حياته (رحمه الله ورضي عنه)
كانت مأمولة لاستدراك الفارطات الفائتات، وتكميل الغايات والنهايات، فاغتنموا
تحصيل كل مهمة في وقتها بلا كسل ولا ملل، ولا تشاغل ولا بخل؛ لأن هذا المهم
الكبير أحق شيء يبذل في تحصيله المال الكثير، وقد علمتم مضرة التعليل
والتسويف، وذلك من أكبر القواطع عن مصالح الدنيا والآخرة، فاحتفظوا بالشيخ
أبي عبد الله [١] أيده الله، وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم
الجليل، بأكثر ما تقدرون عليه ولو تألمتم أحيانا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه
فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق. وكل أحوال الوجود
لابد فيها من العوارض والإنكار، فاحتسبوا مساعدته عند الله -تعالى - وأنهضوا
بمجموع كلفته، فإن الشدائد تزول والخيرات تغتنم، فاكتبوا ما عنده وليكتب ما
عندكم، وأنا أستودع الله دينه وما عنده، وأوصيه بالصبر أيضًا، وبمعاملة الله
سبحانه فيما هو فيه وإن قصَّر الإخوان في حقه، وليطلب نصيبه من الله تعالى متكلاً
عليه في رزقه المضمون، ومجملاً في الطلب؛ لأن ما قسم لابد أن يكون، وإنما
أحث هممكم الصالحة عليه تحصيل كراريس الرد على عقائد الفلاسفة؛ لأنه
ليس في الوجود لهذا المؤلف نسخة كاملة غير النسخة التي بخطي، وكانت في
الخرستان الشمالي من مدرسة شيخنا، وأخبرني الشيخ شرف الدين - رحمه الله
تعالى - أنه أودع المجموع في مكان حريز، ولقد شح علي بإنفاذ هذه الكراريس
وقت الذهاب من الشام، ولا قوة إلا بالله، والكراس الرابع منها أخذه أبو عبد الله من
يدي وهو عنده، ونسخة الأصل التي بخط الشيخ هي في القطع في الكبير، وكانت
هناك أيضًا، وقد بقي من آخر نسختي أقل من ورقة فأوصلوا ذلك إلى أبي عبد الله؛
ليكمل النسخة إلى عند قوله (فهذا باب وذاك باب والله أعلم بالصواب) وللطولسي
نسخة بخط كيس وكملوها؛ لأنه مؤلف لا نظير له ولا يكسر الفلاسفة مثله، ومن الله
نسأل المعونة على جمع شمل هذه المصالح الجليلة بعد شتاتها، ونعوذ به من
عوارض القواطع وآفاتها؛ لأن الفوت صعب وغائلة التفريط ردية، وانتهاز الفرص
من أهم الأمور وأجمعها لمصالح الدنيا والآخرة، وما يعقلها إلا العالمون، وسيندم
المفرطون في استدراك بقايا هذه الأمور الكاملة والمقصرون، كما ندم المتخيلون
بطول حياة الشيخ والمفترون، وهذه الأمور التي قد أشرت إليها في هذه الأوراق
الخفيفة هي أعلى أبواب النصيحة وأتمها فيما أعلم؛ لأن الذاهب مضى والوقت سيف
منتضى، وكل من ذهب بعده من أكابر الإخوان ما عنه عوض. والدهر في إدبار،
والشرور في زيادة، وإذا جمعت هذه المؤلفات العزيزة الكثيرة، ونقل من المسودات
ما لم ينقل، وقبل رأي أبي عبد الله في ذلك كله؛ لأنه على بصيرة من أمره، وهو
أخبر الجماعة بمظان المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها، وقوبل كل ما يكتب مع
أصلح الجماعة أوعلى نسخة الأصل، وروجع شيخنا الحافظ جمال الدين الذي هو بقية
الخير؛ لثقته وخبرته وشفقته وتحرقه على ظهور هذه المواد الصالحة في الوجود؛
ولسعة علمه وإحاطته بكثير من مقاصد شيخنا المؤلف، وروجع الشيخان العالمان
الفاضلان المحققان (القاضي شرف الدين وشمس الدين بن أبي بكر) فإنهما أحذق
الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذكرهم للمباحث الأصولية
فيما يشتبه من المقاصد؛ خوفًا من التصحيف وتغيير بعض المعاني، وروجع
غيرهم من أكابر الجماعة أيضًا - كان في ذلك خير كثير، واستدراك كبير إن شاء الله
تعالى.
(والشيخ أبو عبد الله) سلَّمه الله، هو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر
العظيم، فساعدوه وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته،
واقبلوا نصيحتي فيما أتحققه من هذا كله كما كنت أتحقق. إن اغتنام أوقات الشيخ
وجمعها على التآليف والإتقان والمقابلة خير من صرفها في مجرد المفاكهة
اللذيذة والمنادمة، والنفوس فرطت كثيرًا في ذلك الحال، والله المسؤول بأن يكفيها
مضرة كمال الفوت الذي لا عوض عنه بحال، إنه رؤوف رحيم جواد كريم، فإن
يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة، صارت إن شاء الله تعالى مؤلفات
شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل
وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء
الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا،
يستعملهم فيه بطاعة الله) ، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا
يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة) والله سبحانه وتعالى يقول في
كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٨) ، وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله،
فكذلك ينتفع بكلامه من بعده إن شاء الله تعالى، فاتبعوا أمر الله، واقصدوا رضا الله
بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفات الكبار، وأشتات المسائل الصغار،
ومعها نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد ملئ - ولله الحمد - من الفوائد
والفرائد والشوارد، فأيقظوا الهمم، وابذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب
العظيم الذي لا نصير له، فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب. والتمام على رب
الأرباب ومسبب الأسباب وفاتح الأبواب الذي يقيم دينه وينصر كتابه وسنة نبيه على
الدوام، ويثبت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام، وكلٌّ مجزي في القيامة
بعمله {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) .
وقد علم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهي في حال حياته عن كتابة كلامه؛
ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر
الكبير فنقلوا علمه، وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت
آثاره لأجل ذلك، والوجود هو على هذه الصفة قديمًا وحديثًا، فلا تيأسوا من قبول
القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه - ولله الحمد - مقبول طوعًا أو كرهًا،
وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته؟
ووالله - إن شاء الله - ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه
واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالا هم إلى الآن في أصلاب
آبائهم. وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في
الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى، ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره
أُخرِج طريدًا ثم مات بعد ذلك غريبًا، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في
باله، ولا مر في خياله من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها
له على جميع كتب السنن؛ وذلك لكمال صحته وعظمة قدره، وحسن ترتيبه
وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب. ونحن نرجو أن يكون
لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير- إن شاء الله
تعالى - لأنه كان بنى جملة أمور على الكتاب والسنة ونصوص أئمة سلف الأمة،
وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب
مخافة أحد من الناس في نصر هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وقد علم أن
لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة والبسط والتحقيق والإتقان والكمال وتسهيل
العبارات وجمع أشتات المتفرقات والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب
ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين؛
لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد
بالعقليات الصريحة التي توافق ذلك وبغيرها، ويجتهد إلى دفع كل ما يعارض ذلك من
شبه المعقولات، ويلتزم حل كل شبهة كلامية وفلسفية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك،
ويلتزم أيضًا الجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ويجزم بأن فرض دليلين
قطعيين متعارضين من المحال، إن كانا عقليين أو عقليًّا ونقليًّا، قال: لأن الدليل
هو الذي يجب ثبوت مدلوله. فإما أن لا يكونا قطعيين. وإما أن لا يكون مدلولاهما
متناقضين، وعلى هذا المقصد الجليل بنى كلامه المتين، وتقاسيمه العجيبة في أول
قاعدته الكبيرة الباهرة التي ألفها فى دفع تعارض العقل والنقل، فكانت مقاصده
وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجبًا من عجائب الوجود، وكان يقول: لا يتصور
أن يتعارض حديثان صحيحان قط؛ إلا أن يكون الثاني ناسخًا للأول. قال: والإمام
أحمد بن حنبل كان في زمنه يصرح به ويلتزم تحقيقه، وأنا في زمني ألتزم حكم هذه
القاعدة أيضًا، والنهوض بالجواب عن كل ما يعارضها، وكان رحمه الله ورضي
عنه يذب عن الشريعة، ويحمي حوزة الدين بكل ما يقدر عليه، وكان كما علم من
حاله لا يخاف في هذا الباب لومة لائم، ولا ينثني عما يتحقق عنده، ولم يزل على
ذلك إلى أن قضى نحبه ولقي ربه فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ونصر مقاصده،
وأيَّد قواعده. والله سبحانه يعلم حسن قصده وصحة علومه ورجحان دليله، وهو
ناصر الحق وأهله ولو بعد حين.
وجميع ما وقع من هذه الأمور فيه من الدلالة - إن شاء الله -على شمول أمره
وظهور كلمة هذه العلوم الباهرة أكثر مما فيه من الدلالة على خلاف ذلك (ولا
قوة إلا بالله) غير أن الأشياء المقدورة تفتقر إلى أسبابها المعلومة، ولهذا كان
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في العريش يوم بدر، يجتهد على الاستغاثة بالله
التي كانت أكبر أسباب النصرة في ذلك اليوم، بعد أن عرفه الله تعالى قبل ذلك
جلية مصارع القوم، ولما التزمه أبو بكر من ورائه قائلاً له: يا رسول الله، أهكذا
مناشدتك ربك؟ فإنه واف لك بما وعدك. لم يترك استغاثته بربه لعلمه أن الأمور
المقدورة لا بد أن تقع بأسبابها اللازمة لها المعروفة بها، ومصداق ذلك ما أنزله
سبحانه في تقرير هذا الأمر وتحقيق هذه القاعدة، وهو قوله تعالى: {إذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: ٩ -١٠) لأنه سبحانه بين حكم الأسباب المتقدمة والمتأخرة، ورد الأمر
إلى حقائق التوحيد بقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (الأنفال: ١٠) ، وهذا
هو نهاية مطالب هذا الباب، واتباع هذه الأحكام الثابتة على هذه الصفة المؤيدة، هو
بلا شك أعلى مراتب العبودية، وأنفعها وأرفعها في حق مجموع البرية فأكثروا من
استعمال هذا الأمر الجليل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحمد لله وحده، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وسلام على جميع
الصالحين.