للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة إسماعيل بك غصبر نسكي

تلاها باللغة التركية في فندق الكونتننتال بالقاهرة على نحو ثلاث مائة
رجل من جميع الطبقات المتعلمة (ماعدا الأمراء) وقرأ ترجمتها بالعربية الشيخ
عبد الوهاب النجار:
شيء من أحوال المسلمين في البلاد الروسية
نشأت لمسلمي روسيا في الأزمان السالفة دولتان كبيرتان: إحداهما دولة
(ألتون أوردو) وكانت عاصمتها مدينة (سراي) قرب بحر قزوين، والأخرى
الدولة التيمورية. ولما سقطت هاتان الدولتان الكبيرتان، وقامت على أنقاضهما
خانات (إمارات) صغيرة متعددة وهي: إمارة سيبيريا، وإمارة قزان، وإمارة
إستراخان وإمارة قريم وإمارات القافقاس، نشأت في آسيا الوسطى إمارات بخارى
وخيوا وخوقند وعدة جمهوريات صغيرة - إذا صح هذا التعبير - في تخوم الدولة
الإيرانية الشمالية.
ثم دار الزمان دورته، وحمَّ لإمارتي بخارى وخيوا أن تصيرا داخل حدود
الممالك الروسية، وتدخلا تحت حمايتها. وأما بقية الإمارات فقد استولت عليها
الروس استيلاءً كاملاً، وصارت الآن ولايات روسية صرفة.
أول الإمارات سقوطًا هي إمارة قزان وسيبيريا. وأما الجمهوريات التركمانية فلم تخضعها الروس إلا في العهد الأخير.
نزل معظم مسلمي روسيا في آسيا وفي القافقاس، وقسم عظيم منهم يقطنون
الولايات الداخلية والشرقية من أوربا الروسية، وقليل في شبه جزيرة قريم وعدد
المسلمين الساكنين في القافقاس الشرقية وداغستان، وفي تركستان تسعون
في المائة بالنسبة لغيرهم من الشعوب هناك. وأما في سيبيريا فهم الأقلون.
الساكنون منهم في الولايات الشرقية من أوربا الروسية يختلطون بالروس وسائر
الأجناس. وهم الأكثرون في ولاية أوفا، إذ هم هناك سبعون في المائة بالنسبة
لغيرهم.
وأما عدد مجموعهم فهو يناهز - بحسب إحصاء سنة ١٨٩٧ - سبعة عشر
مليون نسمة. وإذا ضممنا إليها أهل بخارى وخيوا جاوز عددهم ٢٠ مليونًا.
ولا ينبغي أن يفوتنا العشرة الملايين من الترك الساكنين في تركستان الصينية
(كشغر) الذين تجمعهم ومسلمي روسيا أواصر اللغة والآداب، وبذلك تألف هناك
(مجتمع جنسي) مؤلف من ثلاثين مليون نسمة.
تسعة وعشرون مليونا من هؤلاء سنيون ومليون واحد شيعيون. وأما من
حيث الجنسية واللغة؛ فكلهم ترك سوى ثمانمائة ألف من قبائل الشراكسة القاطنين
في جبال القافقاس، ولهم مع ذلك إلمام بالغة التركية.
يشتغل مسلمو روسيا بالزراعة وتربية المواشي، وبالتجارة بحسب ما تسمح
لهم مواطنهم. وكانت لهم في سالف الأيام صناعات تذكر. ولكنها أخذت تسقط
رويدًا رويدًا من مكانتها الأولى بمزاحمة مصنوعات المعامل الأوروبية الحديثة،
كما هي الحال في الأقطار الإسلامية قاطبة. والقريميون منهم معروفون بتعهد
البساتين، وإنماء الفواكه المختلفة الطيبة.
والقوقاسيون أو القافقاسيون يشتغلون في الغالب بتربية دود القز، وصنع
البسط والطنافس الجيدة. وقد انتشرت بينهم في العهد الأخير زراعة القطن انتشارًا
عظيمًا.
وأما التركستانيون فيقومون على تربية دود القز، وإنماء الفواكه وزارعة
القطن.
والجهات الشمالية من آسيا الوسطى عبارة عن القفار والأراضي القاحلة،
ويندر فيها الماء العذب السائغ، وتتقلب في أرجائها قبائل رحالة بمواشيها وأنعامها.
في ولايات أوربا الروسية والقوقاس أربع مشيخات إسلامية. ثلاث منها
للسنيين وواحدة للشيعة. ولدى كل مشيخة مفتٍ (أو شيخ إسلام) وثلاثة قضاة أو
أعضاء، وتنظر هذه المشيخات في الأمور الدينية البحتة: كالنكاح والطلاق،
والمواريث والنسب، وتقسيم التركات. وتوزع السجلات على أئمة المساجد كي
يثبتوا فيها المواليد والوفيات، وعدد الطلاق والنكاح، وما إليها مما يقع في أحيائهم
وتقسم التركات الإسلامية في روسيا على وفق الشريعة الإسلامية وكذلك الوصايا
الإسلامية، لا يمسها القانون الروسي بسوء.
في كل قرية إسلامية - في أوربا الروسية وفى القريم - مسجد وكُتَّاب. وأما
القرى الكبرى ففيها عدة مساجد وعدة كتاتيب.
وفي أوربا الروسية والقوقاس سبعة آلاف مسجد وثمانية آلاف كُتَّاب، وما
ينيف على مائة مدرسة دينية، وأكثر مسلمي روسيا عناية بأمور التعليم
والمدارس، المسلمون الساكنون في الولايات الداخلية الروسية.
وعدد المتعلمات من البنات في الكتاتيب يساوي ثلث المتعلمين من الذكور.
ومما يحسن ذكره هنا أن جماعة من الفتيات المسلمات يتعلمن في مدارس البنات
التجهيزية الرسمية. وكذلك تتعلم اليوم في القسم الطبي من جامعة بطرسبورغ أربع
عشرة فتاة مسلمة. وقد كانت أكملت دروس الطب فيها فتاتان مسلمتان، وهما
تمارسان اليوم صناعة الطب. وكان دخول السيدة (رضية) إحدى تينك الطبيبتين
في الجامعة بسعي المرحوم شاكر باشا السفير السابق للدولة العثمانية في بطرسبورغ.
وليس لدي الآن تفصيل بشأن الكتاتيب والمدارس الإسلامية في آسيا الروسية.
ولكني أعلم أن المدارس الدينية كثيرة، ملأى بطلاب العلوم في مدينة بخارى
وخوقند وسمرقند وغيرها من حواضر البلاد التركستانية.
وإني لا أتمالك أن أذكر هنا بكل أسف أن تلك المدارس، لا تبرح تسود فيها
الفوضى والخلل في طرق التعليم. ومن أجل ذلك لا تأتي بفوائد يقتضيها هذا الزمان
ونطاق برجراماتها أضيق من أفكار الأساتذة القائمين فيها بالتعليم والتدريس،
وليست بيننا إلى الآن مدارس للمعلمين والمعلمات. ولكن فكرة إنشاء المدارس من
هذا القبيل قد حدثت في العهد الأخير.
انتشرت بين مسلمي الروس فكرة الارتقاء والتمدن منذ رُبْع قرن انتشارًا يذكر
ومن ثمرات هذه الفكرة أنهم جعلوا في العهد الأخير، يصلحون كتاتيبهم ومدارسهم
وينشرون المؤلفات المفيدة في العلوم العصرية والأدبيات التركية، وطفقوا ينشئون
المعاهد العامية على الطراز الحديث، ويرسلون التلاميذ إلى المدارس الروسية
والأوروبية، وإلى الآستانة ومصر؛ لتلقي العلوم الحديثة العصرية والعلوم
العربية والدينية. ويناهز عدد الكتب المنتشرة بين مسلمي روسيا في العلوم
العصرية والأدبية نحو خمس مائة كتاب.
وعدد المطابع الإسلامية الموجودة في روسيا كما يأتي:
ثلاث في بطرسبورغ، وثلاث في قزان، واثنتان في تفليس، وثنتان في باكو
وواحدة في باغجة سراي وفي قزان ثلاث مطابع روسية ذات حروف عربية،
فيكون المجموع ثلاث عشرة مطبعة. وأما الصحف المنتشرة الإسلامية في البلاد
الروسية فهي: صحيفتان في بطرسبورغ، وأربع في قزان، وثلاث في أورنبورغ
وثلاث في باكو، وواحدة في طاشقند قاعدة تركستان اليوم، وواحدة في تفليس،
وواحدة في باغجه سراي، واحدة من هذه الصحف تصدر باللغة العربية والبقية
بالتركية. وإحدى الصحف التركية تكتب بلهجة تقرب من لهجة الترك العثمانيين،
والبقية تكتب الآن بلغات تركية مختلفة باختلاف الأقاليم. والرجاء أن تتحد لغات
هذه الصحف أو تتقارب كل التقارب في مستقبل قريب أو بعيد. وهذا الاتحاد
اللغوي غاية ما يرمي إليه المصلحون والمنورون منا. وثلاث صحف من تلك
الصحف علمية أدبية والبقية سياسية أيضًا. وأما من جهة الخطة فثلاث عشرة
صحيفة منها وطنية معتدلة، وثنتان ترميان إلي غاية (اشتراكية ديمقراطية) .
وفي روسيا اثنتا عشرة جمعية خيرية إسلامية، غرضها إسعاف المعوزين،
والأخذ بأيدي البائسين والمساكين، ولها قوانين مصدق عليها من الحكومة.
ويتجاوز عدد الكتاتيب التي أصلح أمرها ألف كتاب، تعلم فيها القراءة التركية
والكتابة، والقرآن والعقائد الدينية، ومبادئ الحساب والجغرافية والتاريخ الإسلامي
وشيء من علم حفظ الصحة.
وأما المدارس الدينية فقد أصلحت منها مدرسة في قزان، وأخرى في
أورنبورغ، وثالثة في أوفا. وفي تلك المدارس تدرس اليوم العلوم الرياضية
والطبيعية، وتقويم البلدان والتاريخ. دع عنك العلوم العربية والدينية بأنواعها.
ولقد نشأ لمسلمي روسيا أفراد جادوا بأموالهم وأنفس أملاكهم؛ في سبيل
ترقية المعارف وإعلاء قدر الأمة والملة. وأخص بالذكر من بينهم المرحوم الحاج
نعمة الله قراميشف السيبيري الذي بذل أموالاً طائلة في سبيل إنشاء مائة كتاب
ومائة مسجد، وأنفق مبلغًا عظيمًا لتأسيس مكتبة عامة، أودعها أنفس الكتب
وأندر الآثار أكرم الله مثواه وأحله مقامًا كريمًا.
وأنفق التاجر القزاني المرحوم أحمد الحسيني في إنشاء معاهد العلم وترقية
المعارف ثلاثمائة ألف روبل. وأنشأ شقيقه عبد الغني الحسيني مائتي كُتَّاب على
نسق حديث، وقد نشر بهمته الشمَّاء فكرة إصلاح الكتاتيب، وكذلك الأصول الحديثة
المعروفة بالأصول الصوتية التدريجية إلى تخوم الصين؛ وذلك بإنشاء الكتاتيب في
تلك الديار النائية، كما أنشأها في الولايات الروسية المتوسطة، جزاهم الله عنا
وعن العلم والفقراء جزاء حسنا.
وممن تقضي علينا الإنسانية أن نذكر اسمه مقرونًا بالإجلال والاحترام الحاج
زين العابدين تاغييف الباكوي؛ لأن خدمة هذا المثري الكريم في سبيل نشر العلم
وإسعاد الفقراء، أكثر وأجزل.
أنشأ هذا الرجل في داغستان مائة مسجد ومائة كتاب. وأنشأ في ضواحي
مدنية باكو حقلاً أنموذجيًّا. وأنشأ للدفاع عن الحقوق الوطنية جرائد متعددة باللغة
الروسية والتركية.
وبذل ملايين من الروبلات لتعليم أناس كثيرين في الجامعات الروسية
والأوروبية. وما معظم الأطباء والمحامين والمهندسين المسلمين الذين نفتخر بهم،
إلا من آثار همة هذا الرجل الكريم. ولم ينس هذا الرجل العظيم المسلمات أيضًا،
فقد أنشأ في مدينة باكو مدرسة شامخة للبنات، أنفق على بنائها فقط عشرين ألف
جنيه. ووقف عليها وقفًا يأتي بإيراد قدره ثلاثون ألف جنيه سنويًّا، ولا يبعد أن
تصبح هذه المدرسة ذات يوم (المدرسة الجامعة) للإناث.
ولم يجتزئ هذا الرجل بمساعدة من في روسيا فقط، بل مد يد المعونة إلى
إيران أيضًا. وقد طبعت هناك كتب جمة على نفقة هذا الرجل الكريم. ويقدر ما
ساعد به المنكوبين والبائسين في البلاد الفارسية بمليون روبل وزيادة.
أيها السادة: شاركوني في الدعاء لهذا الرجل الناصح للإنسانية، والخادم
للفضيلة. أطال الله بقاءه وحفظه من كوارث الزمان.
وأما الأغنياء الذين أنشأوا كتابًا أو كتابين، ومدرسة أو مدرستين فهم كثيرون
جدًّا، يتعذر عليَّ الآن إحصاؤهم، وما الخطوة التي خطوناها إلى الأمام في ميدان
التقدم، إلا بفضل هذه الكتاتيب والمدارس التي أسست، ووصلت بهمة أمثال من
ذكرنا أسماءهم من أولي الهمم العالية، إلى ما وصلت.
وها قد آن لنا أن نوجه وجه الكلام إلى الأمور التجارية والاقتصادية.
إن لدى المسلمين الساكنين في آسيا الوسطى وأوروبا الروسية قوة تذكر في
هذا الشأن. ولكنه لابد من إعدادها وتنميتها بنشر العلوم والمعارف بينهم؛ لأن
الأقوام الذين يتفق للمسلمين أن يباروهم في ساحة الأعمال التجارية، أشداء أقوياء
فيما يمارسون. فلمسلمي روسيا - عدا من يسكنون منهم الولايات الداخلية - من
الأراضي ما يكفيهم للاستغلال. وقد تولدت بينهم فكرة الحرص عليها، وعدم تمكين
الآخرين منها، تولدًا يبشر بحسن المغبة إن شاء الله. وأهل تركستان بارعون جدًّا في
أمور الفلاحة والزراعة. لا يقدر على نزع الأرض الغالة من أيديهم - من الوجهة
الاقتصادية - لا الروس، ولا مهاجرو الألمان.
وهم يكدحون في أمر الزراعة كدحًا، لا يعرفون فيه الملل والسآمة. فهم
يشبهون المصريين من هذه الوجهة كل الشبه. ولكن أراضيهم الغالة أكثر وأفسح من
أراضي القطر المصري. ونصف القطن الذي تحتاج إليها معامل المنسوجات
الروسية يرد من الخارج. وأما النصف الآخر فهو ثمرة كدح أهل تركستان وحدهم
فزراع القطن في تركستان يجلبون من روسيا الأوروبية إلى بلادهم مبالغ طائلة.
وأما المسلمون القاطنون في مدينة قزان وما يتاخمها من البلدان، فلهم كثير من
معامل الصابون والجلد. ومن معامل الجوخ ما فيه ثلاثة آلاف عامل. ومن جملتها
معامل (آقجورين) المثري المسلم الشهير. وتبيع هذه المعامل سنويًّا إلى الجيش
الروسي من الجوخ، ما يناهز مليون متر، وللمثري الشهير الحاج زين العابدين
تاغييف الذي تقدم ذكره معمل للمنسوجات القطنية فيه أربعة آلاف عامل. وأكثرهم
من المسلمين. وكذلك المهندسون وزعماء العمال فيها. وأما مديرها فكان من قبل
إنكليزيا، ولم تبق اليوم حاجة إلى الإنكليزي؛ إذ صاحبها يديرها بنفسه. وهناك
بيوت تجارية إسلامية كبيرة تشتغل باستخراج النفط والبترول، يبلغ ما يتعامل به
أحدهم عشرة ملايين روبل.
وأكثر السفن التي تسير في بحر قزوين ملك للمسلمين.
والفواكه الطيبة التي تتفكه بها روسيا كافة، تؤتي أكلها في بساتين المسلمين
في القريم. لا يظن ظان أن ذلك ارتقاء عظيم وتقدم عميم لأن كل ما ذكرناه عن
مسلمي روسيا هو شيء طفيف تافه جدًّا بالنسبة إلى الأمم الراقية الحية، التي تخطو
في مهيع التقدم والارتقاء بخطا العفاريت، وتهتدي إلى أسباب النجاح والفلاح اهتداء
الخريت، وتمضى في سبيل الخير والصلاح مضاء الاصليت.
ولكنه لا ينبغي لنا أن نيأس ونتقاعد عن النظر فيما يرقى شؤوننا ويصلح حالنا
إذ كل من سار على الدرب وصل.
ولا شك أن مسلمي روسيا يستفيدون ويفيدون من الانقلاب الذي حدث في
روسيا، ومن دستورها الذي هو ثمرة ذلك الانقلاب استفادة كبيرة. وقد تنبهت أفكار
الأمة في السنين الثلاث الأخيرة تنبهًا عظيمًا، واتسع نطاق الآمال اتساعًا جسيمًا،
حقًا إن انقلاب روسيا أثر تأثيرًا يذكر في مسلمي روسيا، وأتاهم بفوائد جمة.
ولست الآن بمكتف بتعداد تلك الفوائد جملة، بل أحب أن أذكر هنا أهمها وأعودها
عليهم برادة.
أيها السادة: إن مسلمي روسيا أنشأوا لأنفسهم حزبًا سياسيًّا دستوريًّا ديمقراطيًّا
باسم (اتفاق مسلمي روسيا) فاجتمع مندوبو المسلمين في الولايات المختلفة في
أغسطس سنة ١٩٠٥ في مدينة (نيجني نوفغورد) غير أن الوالي لم يسمح بعقد
الاجتماع رسميًّا. ولم يكن الوقت ليتسع لتحصيل الإذن من العاصمة. فعقد
المندوبون اجتماعهم على ظهر باخرة استأجروها للتنزه عليها في نهر (فولجا) .
فقررت الآراء في ذلك الاجتماع إنشاء (حزب اتفاق المسلمين) وإنشاء فروع
له في الولايات للذب عن حقوق المسلمين السياسية والاقتصادية والأدبية.
وقد أنشئت لهذا الحزب الذي يتقوى يومًا فيومًا، فروع في بعض الولايات
بالفعل، ورفعت قوانينها إلى الحكومة لتصادق عليها. وكذلك عقد المسلمون سنة
١٩٠٦ اجتماعًا غير رسمي في بطرسبورغ، وآخر رسميًّا في نجني نوفغورد
وبلغ عدد الحاضرين في الاجتماع الثالث سبع مائة رجل، وامتدت مدة المفاوضة
والمناقشة خمسة أيام.
وبفضل هذه الاجتماعات انتشرت الأفكار السياسية بين المسلمين انتشارًا
زائدًا، فتسنى لهم أن ينتخبوا منهم أربعة وعشرين نائبًا للدوما الأولى، و ٣٦ نائبًا
للدوما الثانية، ولا يسعنا هنا إلا الاعتراف بأن هذا النجاح الباهر في الانتخاب في
تينك المرتين لم يحصل بهمتنا فقط، بل كان فيه للقوانين العادلة ومعاملة أحرار
الروس لنا معاملة شريفة، تأثير كبير لا ينكر.
نعم، إن أحزاب التقهقر من الروس ينظرون إلى (اتفاق المسلمين) نظر
المغتاظ المستشيط. ولكنه غير خارج عن دائرة القانون حتى تكرهه الحكومة،
وليس حزبًا يسعى لإيقاع التفرقة بين الرعايا الروسيين، حتى ينفر منه الأحرار من
الروس. ومما يحسن ذكره هنا؛ أن المسلمين يعيشون مع الروس على غاية من
الوفاق والوئام. وأمة الروس كثيرة الجنوح إلى الائتلاف والسلام. وهم لا ينظرون
إلى المسلمين نظر الممتهن المزدري، بل يعاملونهم معاملة القرين لقرينة، وأبواب
الجمعيات العلمية والأدبية والأندية والمدارس كلها مفتحة في وجوه المسلمين، إذا هم
رغبوا في اللحاق بأهلها.
نعم قد حدث في الأيام الغابرة بتأثير الكنيسة وجماعة المبشرين بعض الحوادث
المؤلمة. ولكنها قد زالت أسبابها بعد أن أعلنت الحرية كل الزوال،
ونؤمل أن تتحسن أحوالنا في المستقبل أكثر مما تحسنت. رأينا كثيرين ممن أكرهوا
زمن الاستبداد على التنصر، قد عادوا إلى الإسلام، وكذلك انتحل الإسلام أناس من
الروس الأصليين رجالاً ونساء. والفضل في ذلك كله للحرية التي ترقى بها الأمم،
وتكمل الإنسانية.
مسألة التعليم العام
إذا أرادت معظم أمم الأرض أن تدخل في دور التمدن والرقي، يكفيها النظر
في مستقبلها فقط. وعلى العكس من ذلك الأمة الإسلامية، فإنها مطالبة بأن تمد
بنظرها إلى الماضي أيضًا، فليس في الأمم الأخرى في غابر أزمانها ما يستدعي
الالتفات نحوه.
أما الأمة الإسلامية فإن أعوامها السالفة كلها عبر وحسنات ورقي ونجاح.
ولما كانت الأمة الإسلامية الحاضرة تمتاز على غيرها في هذا المبدأ، فلا بأس من
أن تعيد نظرة إلى الوراء، خصوصًا في مسألة التعليم وإنشاء المدارس.
إن مصر هذه التي تعد منبعًا للمعارف ومهدًا للمدنية، وإن كانت في سالف
أيامها - أي منذ ٤٠ قرنًا - اشتهرت بارتقائها في العلوم، إلا أن هذه النعمة ما نفعت إذ ذاك غير كونها آلة لتوسيع نفوذ طائفة الكهنة، وواسطة لتقوية أهوائهم.
ثم انتقلت القراءة والكتابة إلى ديار اليونان، فظهرت فيها عدة مجامع
علمية كمدارس سقراط وأفلاطون وأرسطاطليس، إلا أن هذه المجامع لم تكن على شكل مدارسنا اليوم، بل كانت أشبه بمجالس المذاكرة خاصة، يختلف إليها المولعون
بالبحث والمناظرة، وأعني بذلك أنها لم تكن عامة للتدريس، يهرع إليها كل طالب.
انتقلت المدنية اليونانية بعد ذلك إلى الرومانيين، ثم ظهرت النصرانية بظهور
الدولة القسطنطينية، فتقدمت معها قوانين إدارة الملك وعلم الحقوق تقدمًا عظيما،
ولم تنتبه فيهم أيضًا فكرة تعميم التعليم، فبقيت هذه المسألة غامضة غريبة عن
الأفكار، إلى أن قيض الله تعالى للعالم الإنساني الأمة الإسلامية التي اهتدت إلى هذه
الفكرة لأول وهلة، فأخذت مسألة التعليم العام - بسبب عنايتها - حظها من التوسع
والانتشار.
ومنشأ ذلك الإسلام نفسه لأنه كما أتى بالتوحيد، أتى بما يدعو إلى وجوب
تعليم العالم. فلقد كان من مقتضى ذلك أن المسلمين بنوا عند كل معبد تقام فيه
الشعائر الإسلامية كُتَّابًا، أو مدرسة للتعليم العام مجانًا. فأصبح التعليم العام المجاني
من جملة الخيرات التي أنتجتها المدنية الإسلامية في العالم الإنساني. ثم لم تلبث
هذه النعمة العظمى في أيدي المسلمين زمنًا طويلاً حتى انتقلت منهم إلى الأمم
الغربية، وهناك نالت ما نالته من الحفاوة والإجلال، فتقدمت تقدمًا باهرًا،
وانتشرت انتشارًا عظيمًا.
فوا أسفاه على هذه الخسارة التي لحقت بنا، ووا أسفاه على ذلك الإهمال الذي
أفضى بنا إلى ضياع هذه النعمة من أيدينا بعد أن ورثناها عن آبائنا. لقد قصرنا
في حفظها تقصيرًا لا مزيد عليه.
فالمعارف التي تركها لنا الأسلاف بقيت طفلة في مهدها، ولم نعمل على
إنمائها، بل المدارس والمعاهد العلمية التي هي تذكار المتقدمين لِمَا لم نسع في
ترقيتها، فبدل أن نعمرها ونرفع أعلام مجدها السابق، سعينا في تخريبها أو
هدمها.
إن تلك المعاهد العلمية التي نشأ منها أمثال: ابن سينا والفارابي وابن رشد
والغزالي ومحيي الدين ابن العربي، أصبحت منذ عدة قرون دورًا للعجزة والضعفاء
ومسكنًا للمعطلين.
ولم يكن السبب في حالتنا هذه إلا التكاسل والإهمال الذي أسبل ستار الغفلة
علينا، وحال دون تنبهنا إلى حالة الأمم الأخرى.
أما الآن فقد أقبل - ولله الحمد والثناء - على الأمة الإسلامية دور التيقظ،
فأخذت الرغبة في التعليم تتولد في كل جهة من الممالك الإسلامية، فأصبحنا نسمع
صدى بعض الأفراد والحكومات للتفكير في شؤون التعليم والمدارس. ولكن ذلك من
سوء الحظ لم يبلغ الخطة المطلوبة، نحن معشر المسلمين منذ ثمانية قرون قد تركنا
لأوربا غنائم مثيرة وخزائن من المعارف، ولم نطالبهم أثناء هذه المدة بردها
إلينا. ولكن قد حان الآن وقت الإعادة، فعلينا أن نستردها منهم استردادًا يحمل ما
توفر لديهم حتى الآن من إنمائها. ولا يقال هنا: إن الشرق غريم للغرب؛ إذ لا
يقصد منه إلا الذهب الذي لا يساوي شيئًا إذا قيس بالعلوم والمعارف التي هي
حقوق الشرق على الغرب، فغرامة الغرب لنا هي أعظم بكثير من غرامتنا له،
فعلى الدائن أن يطالب المدين.
وليست هذه الكلمات من بنات أفكاري الخاصة، كلا، بل يقولها (فولب)
المتفنن الألماني و (داربر) العالم الأمريكي، وما سأعرضه أيضًا مما يثبته تاريخ
التعليم.
لا ينكر اليوم أحد من العقلاء المستنيرين ضرورة التعليم العام للنوع البشري
وخصوصًا للأمة الإسلامية؛ فإن ديننا القويم يقضي علينا بتصديق هذا الأمر
وقبوله وإبرامه، ووضعه موضع الإجراء. وفي نظري أن هذا الأمر ليس من قبيل
المسائل حتى يتناقش فيه، بل هو أمر ديني قطعي، فما علينا إلا أن نتناقش في
كيفية إجرائه وإيجاد الطريق القويمة الموصلة إلى هذا المقصد لتعجيله فقط.
ولقد أثبتت تجارب أعظم الأمم المتمدنة في هذا العصر أنه لا يمكن تعميم
التعليم ونشره؛ إلا بوجود كتاب واحد لكل ستين أسرة من الأمة.
وأما طريقة إجراء العمل فتكون بحسب الميزان الآتي:
لو فرضت مملكة من الممالك يسكنها نحو عشرة ملايين نسمة، فمقدار ما
يلزمها من الكتاتيب هكذا: يتعين أن نقسم هذه العشرة الملايين على خمسة (أنفار)
ثم نقسم الحاصل وهو مليونان على ستين، فيبلغ عدد الكتاتيب على هذا الحساب
نحو ثلاثة وثلاثين ألفا، وهذا هو المقدار المعين الكافي لعشرة ملايين نفس.
فلو بلغت مصاريف كل كُتَّاب مع نفقات الأدوات ومرتبات المعلمين نحو ٤٠
جنيها، يكون المجموع ١.٣٣٠.٠٠٠ جنيه. فإذا أضفنا إليه مبلغ ٢٠٠.٠٠٠
جنيه، وهو ما يلزم للإنفاق على إدارة تلك الكتاتيب وغيرها من مدارس المعلمين،
نحتاج في إيجاد التعليم العام الابتدائي إلى ميزانية قدرها ١.٥٠٠.٠٠٠ جنيه.
وهذا لا شك مبلغ جسيم، إلا أنه لا ينبغي أن يروعنا بجسامته؛ لأن الفائدة
التي نستفيدها من هذا المشروع مادية كانت أو معنوية أعظم وأرقى بكثير من ذلك
المبلغ. فما نسبة مبلغ ١.٥٠٠.٠٠٠ جنيه لعشرة ملايين نسمة إلا نسبة جزئية
جدًّا، تقضي بدفع ١٥ قرشًا على كل نفر في السنة، و٧٥ قرشًا عن كل أسرة.
وربما يقال هنا: إن طائفة العمال لا يستطيعون دفع ذلك. فنقول: كلا؛
لأننا لو فرضنا أن عاملاً يشتغل في السنة ٣٠٠ يوم، فيكون حاصل قسمة ٧٥ قرشًا
عليها مليمين ونصفا فقط، وهو ما يطالب باقتصاده من مكسبه اليومي الذي لو بلغ
خمسة قروش مثلاً لا يكلفه إخراج ذلك منه إلا أن يتنازل عن فنجان من القهوة
يتناوله يوميًّا، وعن سيجارتين على الأكثر.
فبقي علينا أن نبحث في النفقة اللازمة لبنائها، فإذا فرضنا أن كل كتاب على
حدته هو ١٥٠ جنيهًا، تبلغ نفقات ٣٣ ألف كتاب ٥ ملايين من الجنيهات. وحينئذ
نقع في مشكلة عظمى أيضًا وهي خلو اليد من النقود. فما الحيلة؟ الجواب سهل
وهو أن الأمة مادامت حية فالنقود توجد ألبتة، أو لابد من وجودها.
النقود التي وجدت عند تأسيس الأهرام الجسيمة، لم لا توجد لبناء مدارس؟
وإذا كان يجوز للأمم الحية اقتراض المال لإنشاء السكك الحديدية والبرازخ
والترع، فلماذا لا يجوز اقتراضها لإنشاء المدارس؟
هذا وهناك طريقة أخرى لسهولة إجراء هذا المشروع؛ وهي تجزئة مدة
الاكتتاب إلى عشر سنين؛ لأنه من البديهي أن مثل هذه المشروعات المهمة لاتتم
دفعة واحدة، كما أنها لاتتم إلا باكتساب ثقة الأمة ورغبتها في المشروع.
الحاجة إلى مؤتمر إسلامي عام
نرى المسلمين اليوم تنبهوا بعض التنبه في الأقطار الإسلامية كافة. وهب
فضلاؤهم لإنشاء الصحف والجرائد التي لها أثر عظيم في تنبيه الأفكار والإرشاد
إلى الخير والصلاح، ونسمع أن مسلمي بعض البلاد ينشئون جمعيات خيرية
وعلمية. هذه علائم خير تقر بها عين كل ناصح للإنسانية. ولكن لا يجوز لنا ألبتة
أن نجتزئ بهذه العلائم الحسنة، ثم نخلد إلى أرض الدعة والكسل. فالمستقبل
الحسن لمن يدأب ويعمل. لا جرم أن المرء يرى إذا أجال طرفه في الأقطار
الإسلامية، من مدينة قزان الشمالية إلى مصر الجنوبية، ومن مراكش المغربية إلى
جاوا المشرقية - علائم الانحطاط أكثر من علائم الارتقاء.
فقد عادت معظم المدارس مثابة للعاجزين والبطالين. ودثرت الصناعات
الوطنية أو أشرفت على الدثور. أصبح حظنا قليلاً من تجارة العالم، ويدنا ضئيلة
في الصرف والشؤون المالية، ونصيبنا عدمًا في التجارة البحرية. وليس لهذه الأمة
التي ينيف عددها على ثلاث مئة مليون شركة مؤلفة من ثلاثين سفينة، كما أنها لا
تملك مصرفًا رأس ماله خمسة ملايين جنيه مثلاً.
ليس في أيدينا ما نعيش به غير الأراضي الخصبة التي ورثناها عن آبائنا.
تأتي لنا هذه الأراضي بالقمح والفلفل والبن، والقطن والقز والفواكه وغيرها.
ولكننا نجهل أساليب بيع هذه الغلات بيعًا رابحًا. ويذهب جزء عظيم من ربح تلك
الحاصلات من أيدينا إلى أيدي التجار الأجانب، وجزء عظيم إلى شركات تسيير
السفن الأجنبية.
ولا تكاد تجد تاجرًا مسلمًا في جميع البلدان الأميركية والأوروبية إلا في النادر
وإذا رأيت هناك تاجرًا شرقيًّا فهو إما أرمني أو بوذي هندي أوصيني. إذا صرفنا
النظر عن التجارة الخارجية، فما بالنا لا نعمل في بلادنا أيضًا. هانحن أولاء
نرى معظم التجارات المهمة في البلاد العثمانية والإيرانية ومصر والمغرب
الأقصى والهند بأيدي النزلاء، الذين يتقاطرون إلى البلاد الإسلامية من أقطار العالم المختلفة.
نحن لا نفتأ نقول: أمطرت السماء فشربنا، وأنبتت الأرض فأكلنا، ولكن
ينبغي لنا أن نعرف أننا إذا عشنا على العمل بهذه القضية في الأيام الغابرة، يستحيل
أن نبقى بها فيما نستقبله من الأيام.
إذا فقدت أمة من الأمم استقلالها ووقعت تحت حكم الأجنبي، فإنها تخسر
خسرانًا مبينًا. بيد أن هذا الخسران لا يقام له وزن - في مذهبي - في جانب
الخسارة التي تخسرها الأمة التي تقاعدت وتواكلت ثم سقطت من مكانتها في ميدان
العمل والاقتصاد.
وما هو السبب في هذه الحالة الأليمة التي وقعت فيها الأمة الإسلامية؟ ليس
لنا أن نقول: إن السبب هو الجهل، ثم نسكت. إذ يرد عليه سؤال آخر وهو: وما
هو سبب الجهل؟
إذا أغضي عن ترقي الأمم الإفرنجية، ألا يجب على كل مسلم ناصح لأمته أن
يسأل: كيف ارتقى الأرمن والروم والكرج والبلغار واليهود والهندوس؛ الذين كانوا
قبل اليوم بنصف قرن يعيشون بيننا، ويشاركوننا في معظم عاداتنا وآدابنا، ونحن
بقينا وراءهم ننظر إليهم بعين الإعجاب؟
حالتنا أيها السادة مما يرثي له. ولكن لا يجوز لنا ألبتة أن نكتمها؛ لأن ذلك
الكتمان هو عين الخطأ، بل هو جناية عظيمة على نفوسنا.
بل يحق لنا أن نجاهر بها في كل ناد ونسعى لتشخيص الداء، حتى نصف له
الدواء، هل من الرأي أن يكتم الإنسان مرضه إذا لم يكن عدو نفسه، وليست مغبة
من يكتم مرضه إلا الهلاك.
إذا كنتم تنتظرون الجواب عن الأسئلة السابقة من الخطيب؛ فهو يبادر إلى
القول بأنه أعجز من أن يجيب على أمثال هذه الأسئلة العظيمة؛ لأنه يبحث عن
الجواب ولا يجده.
أيها السادة: إن استعداد الأمة العربية للمدنية قد ثبت عندنا بتاريخها المتلألئ
اللامع.
ويرشدنا إلى استعداد الأمة التركية للمدنية ما تركه لنا علماؤهم من المؤلفات
النافعة. وأطلال مرصد سمرقند تشهد بشغف هذه الأمة بالعلم والعرفان، ثم ألا
نرى الفنلنديين والمجر يبارون الأقوام المتمدنة ويجارونهم في كل شؤونهم. ونحن
نعرف أن هاتين الأمتين والترك يتفرعون من أصل واحد [١] .
القصد أيها السادة من سرد جميع هذه الأدلة التاريخية، إثبات أنه ليس سبب
انحطاط العرب والترك اليوم هو نقص في فطرتهم، وضعف في استعدادهم. وأما
الدين الإسلامي الذي ندين به فهو دين يخاطب العقل ويحث على العمل الدءوب،
وينوط نجاح الإنسان بعمله. ولكن سيرتنا تخالف هذه الأصول الكريمة الدينية
مخالفة ظاهرة. وما السبب في هذه المخالفة أيضًا؟
إني أرى أيها السادة أن الجواب على تلك الأسئلة المهمة، وكشف النقاب
عن أسباب انحطاط الأمة الإسلامية، لا يتيسرا كاملاً لفرد أو فردين، بل لا مندوحة
للبحث في ذلك عن عقد مؤتمر إسلامي عام يجتمع فيه علماؤنا وفضلاؤنا، ثم
يتفاوضون في الشؤون الإسلامية.
لا يفهمن أحد أني أرمي باقتراح عقد مؤتمر على هذه الصورة إلى غاية
(بانسلاميزم) أي الجامعة الإسلامية التي يتشاءم منها الأوربيون. وإنما غرضي
الوحيد من عقد هذا المؤتمر هو البحث عن أسباب انحطاط الأمة الإسلامية،
وفتح أبواب النجاح في الأمور الاقتصادية والاجتماعية، واختيار السبل القويمة التي
تصل بنا إلى أخذ نصيبنا من المدنية الغربية الحاضرة.
ولا ننكر أنه كان لاكتشاف أميركا ورقي الصناعات والميكانيكات في
الغرب، تأثير يذكر في افتقار الشعوب الإسلامية وفقدان وجوه الكسب. بيد أن
العامل القوي في انحطاطنا - على ما أظن - هو الجمود على بعض العادات والقواعد
الواهية، والأوهام والخرافات التي ورثناها عن آبائنا، أو تسربت إلينا من الأمم
الأخرى بحكم الزمان. ومن أجل ذلك أبدي وأعيد أن حاجتنا شديدة إلى المؤتمر العام لكشف الحجب عن الحقائق.
فاسمحوا لي أيها السادة - والأمر على ما ذكر - أن أقترح عليكم عقد مؤتمر
إسلامي عام، لا يتطرف قط إلى البحث في الأمور السياسية، وتكون باب
داره مفتوحة لكل أحد ممن يحبون استماع المذاكرات، وتُنْشر خلاصات
المناقشات في الصحف المنتشرة، وأرى أن يعقد المؤتمر في عيد الفطر من السنة
القادمة أو بعده.
ويحسن أن ينعقد هذا المؤتمر في الآستانة العلية، أو في مصر المركز الثاني. ولا
أري سببًا يحملنا على عقد هذا المؤتمر الذي يتفاوض فيه بالمسائل المدنية [٢]
والعلمية في جنيف مثلاً.
أيها السادة: إذا وافقتموني على هذا الاقتراح، فلابد من التمهيد لهذا الأمر
الخطير منذ الآن. فيتحتم علينا من اليوم تأليف لجنة من العلماء والمتنورين تشتغل
بهذا التمهيد، مثلاً: تخبر هذه اللجنة الحكومة المحلية بجلية الأمر، وتضع للمؤتمر
برنامجًا إجماليًّا، وتُعيِّن زمن انعقاد زمن المؤتمر، وتتولى مراسلة من يرجعون
إليها من سائر الأقطار.
ولا ريب أن هذه اللجنة تفتقر إلى قدر من النقود ولكنى لا أظن مطلقًا أن
المانع يكون من الوجهة المالية.
ومن منَّا يمتنع أيها السادة أن يتفضل على هذه اللجنة بما في استطاعته من
المال؟ هل يجيب المسلمون داعي هذا المؤتمر؟ هذا سؤال أنا أجيب عن جزء منه
قائلاً: إني على ثقة من أن خمسة عشر أو عشرين مندوبًا من روسيا، ومن إيران
يجيبون الطلب.
أيها السادة: هذا ما أردت عرضه على حضراتكم في هذا الاجتماع. وقد
استوقفتكم زمنًا طويلاً. فأسألكم أن تصفحوا عن هذا العاجز صفحًا جميلاً اهـ.