للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بحث في المؤتمر الإسلامي لتعارف المسلمين
والبحث عن أسباب ضعفهم
وطريق علاجه وتاريخ الدعوة إليه

أول صوت سمعناه في هذا العصر يدعو المسلمين إلى التعارف والاتحاد
والتعاون في الرأي، والسعي على تدارك ما حل بالمسلمين من الرزايا الاجتماعية
التي هبطت بهم من ذلك الأوج الذي كانوا فيه إلى الحضيض الذي صاروا إليه
حتى سبقهم أهل الملل من الكتابيين والوثنيين في المدنية - هو صوت الحكيمين
الغيورين المجاهدين في سبيل الله، الجهاد الذي لا يفضله جهاد في هذا العصر:
السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده. رحمهما الله تعالى وجزاهما عن نفسهما،
وعن الأمة والملة خير الجزاء.
للسيد جمال الدين مقالات كثيرة في تنبيه المسلمين من رقدتهم، وإعلامهم
بأسباب تمزيق قوتهم، ودعوتهم إلى الوحدة، ودلالتهم على وسائل القوة، وله من
الدروس والخطب والمحاورات في ذلك ما هو مشهور بين العارفين، وإن لم يقيد
بالتدوين، ولما اجتمع الشيخان في باريس وأصدرا جريدة (العروة الوثقى) كان قطب
سياستهما دعوة علماء المسلمين وعقلائهم إلى النظر في أحوال المسلمين العامة
وإرشادهم إلى ما ينهض بهم إلى مجاراة الأمم العزيزة وكان من رأيهما أن يشتغل
بذلك أهل كل قطر في قطرهم بالتعاون بينهم، وأن يكون لهم مجتمع عام في الحجاز
يأتمر فيه من يحضر الموسم من أعضاء جمعية العروة الوثقي فيما بينهم، وما كانا
يكتفيان في هذا الإرشاد بما ينشر في جريدة العروة الوثقى، بل كانا يكاتبان من
يرونه أهلاً لذلك في أقطار المسلمين. وفي الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام
نموذج من كتبه لبعض أولئك الأعضاء (راجع ص ٤٨٨ - ٥١٢) .
وقد جاء في فاتحة العدد الأول من جريدة العروة الوثقي بعد ذكر تنبه عقلاء
المسلمين، وسعيهم في معالجة عللهم ما نصه:
(وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج
العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل
والحقير والغني والفقير، كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم ثم تنبثُّ إلى سائر
الجهات. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل) .
وجاء في خاتمة مقالة نشرت في العدد الخامس عنوانها {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) إرشاد إلى كيفية الوحدة في الإصلاح
الديني، ومنه (ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة، يرجعون إليها في شؤون
وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر،
ويجمعون أطراف الوشائج إلى معقد واحد، يكون مركزه الأقطار المقدسة، وأشرفها
معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع
العدوان) ... إلخ (فراجعه في ص ٢٥٤ من الجزء الثاني تاريخ الأستاذ الإمام) .
وجاء في آخر مقالة منها نشرت في العدد العاشر، عنوانها حديث (المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ما يأتي (كما في ص ٢٩ من الجزء الثاني من
تاريخ الأستاذ الإمام) .
(وأرى أن العلماء العاملين، لو وجهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض
المسلمين إلي بعض، لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير
عليهم ذلك بعد ما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام، وفرض على
كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع أجيال
المسلمين وعشائرهم وأجناسهم) ... إلخ.
هذه إشارة مما كتبه الأستاذ الإمام، باتفاق الرأي بينه وبين حكيم الإسلام، منذ
ربع قرن. فإن العدد الأول من العروة الوثقي قد صدر في ٥ جمادى الأولى سنة
١٣٠١.
***
ثم إننا لما أنشأنا المنار في أو أخر سنة ١٣١٥، كتبنا في العدد الثلاثين
والأربعين من السنة الأولى مقالاً في (الإصلاح الديني) اقترحنا فيه على مقام
الخلافة تأليف جمعية إسلامية في مكة المكرمة، يكون لها شُعَب في كل قطر
إسلامي، وفصلنا ما يجب أن تقوم به هذه الجمعية من الإصلاح في العقائد والتعاليم
الأدبية والأحكام القضائية والمدنية، واللغة، ومن تلافي البدع والتعاليم الفاسدة [*] .
وإنما جعلنا هذا الإصلاح مقترحًا على سلطان آل عثمان لبيان أنه واجب عليه؛
لأنه هو القادر على تنفيذ ذلك، ويمنع من يتصدى له هناك من دونه.
ثم إن السيد عبد الرحمن الكواكبي (رحمه الله تعالى) قدم إلى مصر في سنة
١٣١٨، ونشر فيها كتاب (سجل جمعية أم القرى) الذي صور فيه انعقاد تلك
الجمعية المقترحة خفية بدون علم الحكومة العثمانية وأمير مكة المكرمة (الشريف)
وإن ذلك كان في موسم سنة ١٣١٦.
كل ذلك كان الإصلاح الديني فيه ممزوجًا بالإصلاح السياسي على النهج الذي
جرى عليه المسلمون من اشتمال الدين على كل شيء. وكذلك كانت فكرة المقترح
الأول السيد جمال الدين رحمه الله تعالى.
ثم إن الأستاذ الإمام وجه ذهنه بعد مفارقة السيد جمال الدين في أوربا،
وعودته هو إلى سوريا ثم إلى مصر، يحاول الوصول إلى إصلاح حال المسلمين
بإقناع الحكومة بسلوك الطريقة المثلى لتربية المسلمين وتعليمهم، فكتب ثلاث
لوائح [١] : أحداهما لإصلاح المملكة العثمانية عامة، وقدمها إلى شيخ الإسلام في
الآستانة سنة ١٣٠٤ ليقدمها إلى السلطان. والثانية - لإصلاح سوريا وقدمها إلى
واليها بعد إرسال الأولى إلى الآستانة. والثالثة - لإصلاح التربية الدينية والتعليم
في مصر، ولم تعمل الحكومة العثمانية ولا المصرية بما اقترحه عليهما، ولو عملت
إحداهما به لعملت ما يعجز عن كل مثله جمعية ومؤتمر لإصلاح الدين.
ثم رأينا الأستاذ الإمام في السنين الأخيرة من عمره، قد استقر رأيه على
اليأس من حكام المسلمين، وحصر الرجاء في عقلاء أهل العلم والفضل يدعون إلى
الإصلاح حيث يجدون حرية مع تجنب السياسة ظاهرًا وباطنًا، ومسالمة أهل
السلطة سرًّا وجهرًا، والرضا منهم بعدم معارضة الإصلاح في العقائد والأخلاق
والآداب وروابط الاجتماع الأهلية والقومية. فإن عارضوا فالرأي أن يبذل الجهد في
إقناعهم، وكان يرى أن هذا متيسر للمصلحين العقلاء مع حكام المسلمين
الأوربيين، إذا ظهر لهؤلاء أن الأمر لا سياسية فيه. ومن الأمثال المأثورة عنه (ما
دخلت السياسة في عمل إلا وأفسدته) وإننا نرى عقلاء المسلمين يكادون يجمعون
على هذا الرأي.
جاء مصر في هذه الأيام (إسماعيل بك غصبرنسكي) صاحب جريدة
(ترجمان) التركية التي تصدر في (بغجه سراي) من بلاد القريم التابعة
لروسيا، وتلا على جمهور عظيم من سكان مصر الخطبة التي نشرنا ترجمتها قبل
هذه المقالة، واقترح في آخرها تأليف مؤتمر إسلامي ينعقد في مصر؛ للبحث عن
الأسباب التي كان بها المسلمون متأخرون عن غيرهم من الأمم، واشترط أن لا
تطرق مباحثه باب السياسة بل تحصر في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية. وما
هى هذه الأسباب الاجتماعية والاقتصادية؟
نحن نقول: إن المسلمين كغيرهم من البشر، مستعدون لكل ارتقاء وحضارة
وإن المانع لهم من ذلك أمران: استبداد السياسية، والجمود على التقاليد الدينية التي
قيدتهم في كل شيء، حتى في تصرفهم في بيوتهم وأموالهم. وأضرب لهم مثلاً
علماء الأزهر الذين يستنكرون أشد الاستنكار لبس الأحذية السوداء المعروفة هنا
بالجزم (جمع جزمة) وقضاة الشرع الذين يأبون أن يكون في المحكمة الشرعية
أجراس كهربائية لطلب الكتاب والمحضرين والخدم؛ لأن هذا وذاك مما لايليق بأهل
الدين؛ أو لأنه لا يخلو من كراهة شرعية. فهذا المثل الصغير ينبئ عن أمر كبير
وإن هزئ به الجهلاء، أو اشتغل به عن الموضوع أهل الأهواء، فهو كمثل البعوضة والذباب في القرآن.
فالمسلمون لا يقدرون على مجاراة أمة مطلقة من القيود التي تقيد الفكر أن
يأخذ مداه في كل علم ورأي، وتقيد الإرادة أن تنفذ كل عمل يظهر للمفكرين أنه نافع
وهم مقيدون فكرًا وإرادة؛ إما بالتقاليد الدينية، وإما بالسياسية الاستبدادية. فعمل
المؤتمر محصور بالطبع في فك القيود التي تقيد المسلمين، حتى يكونوا أحرارًا
مستقلين، فإذا حظر أهله على أنفسهم البحث فيما هو سياسي منها، بقي لهم ما هو
ديني فقط، ومنه ما يتعلق بحكامهم ومنه ما لا يتعلق بهم.
مثال ذلك الشركات المالية التي هي أعظم أركان الثروة في هذا العصر، ولا
أذكر فيها مسألة فرضية، بل مسألة واقعة هي في تاريخ مصر الحديث أصل
الانقلاب السياسي والعمراني، ولا أفتات على المسلمين فيما أقوله فيها افتياتا، أو
أستنبط خلافهم فيها استنباطًا، وإنما أروي فيها رواية تنبئ عما عليه المسلمون
من القيود التي تمنعهم من مجاراة غيرهم في تحصيل الثروة التي هي أساس
العمران.
زرت وزير مصر الأكبر رياض باشا، فألفيت في حضرته جماعة من أكابر
المسلمين؛ منهم العالم الأزهري، والمهندس، والمؤرخ، والطبيب، ومن كان
ناظرًا لبعض المدارس العليا، وكل واحد منهم يعد من أكبر رجال طبقته وأعلمهم،
وهم يتذاكرون في مسألة شركة ترعة السويس، وأن شراء أسهمها غير جائز شرعًا
لأن عملها غير مشروع. وكان أشدهم عارضة في ذلك العلامة الأزهري (طبعًا)
ولا أحب أن أذكر شيئًا من أدلتهم، المبني بعضها على أن الماء لا يملك وأن أوراق
السهام لا قيمة لها في نفسها ... إلخ، وما عجبت لقول أحد كعجبي من
موافقة واحد منهم لهم في ذلك، أعهد منه الميل إلى كسر مقاطر التقليد، ورأيته في
هذه السنة يسعى في تأسيس بنك أهلي، وهو أشد من أعرف اهتمامًا بمشروع
المؤتمر الإسلامي. وقد جهرت هنالك باستغراب جعل هذه المسألة موضعًا للبحث
وجزمت بجواز عمل الشركة وشراء سهامها، مصرحًا بأن أوراق السهام ليست
هي التي تقابل الثمن، وإنما هي مثل أوراق الصكوك والحجج التي تكتب لمن
يشتري عقارًا أو يقرض آخر مالاً. جهرت بهذا ولكنني لم أسمع من أحد كلمة
موافقة. ولكنني أظن أنه أعجب بعض الحاضرين، ورأيت الوزير هش له.
فإذا كان أرقى مسلمي مصر الذين يعدون الآن في مقدمة شعوب المسلمين علمًا
وقربًا من المدنية، يتباحثون حتى اليوم في أعلى محافلهم الاجتماعية في شركة
ترعة السويس، ويقولون بعدم جواز شراء سهامها، وهي هي السهام التي براها
وراشها أميرهم إسماعيل، وأعطاها لأوربا، فحاربتهم بها واحتلت بلادهم،
وملكت عليهم أمرها، فهل يلام مسلمو مراكش إذا قال عالمهم الكتاني: إن شر عمل
عمله محمد علي باشا هو بناء القناطر الخيرية، وكان ينبغي أن ينفق المال الذي
أضاعه في بنائها على بناء المساجد؟ ؟ كلا، إن علل المسلمين واحدة، ولو كان
محمد علي مقيدًا بالتقاليد الدينية، لما أنشأ القناطر الخيرية.
إن شركة ترعة السويس وأمثالها من أمور العمران التي لم تكن معروفة في
عصر التنزيل، فيرد فيها كتاب أو تمضي بها سنة. ولكن الفقهاء المستقدمين، قد
وضعوا أحكامًا للشركات وغيرها من المعاملات المتعارف عليها في عصرهم، فجمد
المستأخرون عليها؛ إذ عدوها دينًا يجب اتباعه في كل زمان ومكان، فهل يسهل
على المسلمين الذين يريدون مجاراة الأوربيين في الكسب، أن يدرسوا قبل كل
عمل هذه الكتب الفقهية الضيقة الواسعة، ويتقيدوا بها ثم يجروا وراء المطلقين من
القيود، فيلحقوا بهم ويطمعوا في مسابقتهم؟ لا يسهل الجواب عن هذا على فقيه
يعرف الأحكام المدونة في هذه الكتب، ولا يعرف حال العصر في الأعمال المالية
والاجتماعية، ولا على رجل مالي أو متمدن كما يقال لم يقرأ كتب الفقه، وإنما
يسهل على من عرف الأمرين أن يجيب عنه بحق. ولكن جوابه لا يكون إلا سلبًا.
أعرف بمصر كثيرًا من المسلمين المتمدنين، يرون أنه لا علاج لتأخر
المسلمين عامة إلا نشر العلوم العصرية، ومحاولة تعميمها بقدر الطاقة، وترك
الدين وشأنه، بحيث لا يتعلم ولا يدافع عنه، ولا يعترض عليه، حتى يحكم العلم
والزمان فيه حكمهما. ومن هؤلاء من هو مسلم جنسية فقط، يرى أن الدين عقبة
يزيلها العلم. ومنهم من يؤمن بالله ورسوله وكتابه، ويرى أن الدين قد اصطبغ بغير
الصبغة التي أنزلها الله - تعالى - وأن العلم العصري ينزعه من سلطان
المحافظين على الصيغة الحادثة ويساعد على إعادته إلى أصله، فإذا قام مصلح
ديني يمكنه أن يهدي المتعلمين للعلوم العصرية إلى حقيقية الإسلام، ولا يمكنه أن
يهدي غيرهم من علماء الصبغة الحديثة للدين والمقلدين لهم وهم جماهير العوام، إلا
أن يتعلموا على الطريقة الحديثة.
ونحن نقول: إنه يمكن الجمع ابتداء بين حقيقة الإسلام وصبغته الإلهية،
وبين جميع العلوم والفنون والأعمال التي عليها مدار المدنية العصرية، وإن إصلاح
المسلمين بغير هذه الطريقة متعذر. ونحن مستعدون بعون الله - تعالى- وتوفيقه
لمناظرة كل من يخالفنا في هذا الرأي.
وجملة القول: إن المسلمين لا يجارون غيرهم من الأمم في ميدان المدنية
والعمران إلا إذا أُطلقوا من القيود السياسية والدينية التي قيدت استعدادهم الفطري.
وليس في نصوص كتاب الله المنزل، ولا في سنة رسوله المتبعة القطعية، شيء من
هذه القيود الدينية، بل فيهما الإطلاق المكمل للفطرة. وإنما القيود قسمان: بدع
محدثة، وتقاليد مستنبطة من أقوال البشر وقواعدهم، تعرف بالأحكام الاجتهادية.
فإذا حظر المؤتمر على نفسه البحث في القيود السياسية، انحصر عمله في
القيود الدينية؛ أي: التقاليد والبدع التي فشت في المسلمين باسم الدين، إلا أن يكون
غرض أهله الرقي الدنيوي بدون دين.
وإذا انحصر عمله في حل القيود الدينية دون السياسية؛ خشية أن تقاوم
المسلمين حكومات أوربا المستعمرة لبلادهم، فيجب أن لا يدخل في أعضائه أحد
من المشتغلين بالسياسة لتأييد ملك أو أمير؛ لأن ذلك يجعل المؤتمر في موضع
الريبة والظنة عند تلك الحكومات؛ ولذلك صرح الشيخ على يوسف صاحب جريدة
المؤيد على مسمع من نحو خمسين رجلاً ممن دُعوا للبحث في المؤتمر بأن من
مصلحة المشروع أن يخرج هو وحافظ أفندي عوض أحد صاحبي جريدة المنبر،
ونفر آخرون من لجنة المؤتمر، فلا يكونوا من الأعضاء العاملين فيه.
ثم إنه ينبغي أن تكون القاعدة الأساسية الأولى للإصلاح الديني في المؤتمر
هي المحافظة على المُجمع عليه من المسلمين، لا سيما ما كان منه معلومًا من الدين
بالضرورة، وذلك هو القرآن وما استفيد منه بالنص القطعي، وبعض السنن المتبعة
ونعني بالسنة معناها اللغوي الذي كان يفهمه الصحابة، ومنه ما هو فرض أو
واجب؛ ككون الصلوات المفروضة خمسًا، ركعات كل صلاة منها كذا، يقرأ فيها
كذا، ويركع في كل ركعة مرة، ويسجد مرتين. ومنها ما هو مندوب في اصطلاح
الفقهاء كما هو معروف.
ذلك أن المؤتمر عام لجميع المسلمين، وفيهم السني السلفي وغير السلفي،
والشيعي والإباضي، ومن السنية الحنفي والمالكي ... إلخ، ومن الشيعة الجعفري
والزيدي، فالذي يجمع بين هؤلاء ويوحد كلمتهم؛ هو كتاب الله والسنن العملية
المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي عن آله وأصحابه - رضي الله
عنهم -، وبذلك يكون المؤتمر غير مقيد بالتقاليد الاجتهادية التي تثير النزاع،
وتفرق الكلمة، فلا يمنع أعضاءه مانع من الاعتصام بحبل الله، ودعوة سائر
المسلمين إلى الاعتصام به. (راجع التفسير من هذا الجزء وما قبله) .
ثم يعرض ما يقرره من الإصلاح الاجتماعي الموافق للإجماع على شعوب
المسلمين، مبينًا لهم أن من عمل به لم يكن عمله منافيًا لأصل الإسلام الذي لا خلاف
فيه، فمن اكتفى بذلك وعمل به فبها ونعمت، ومن حاول تطبيقه على
المسائل الاجتهادية في مذهبه وتقيد بها فهو وشأنه.
بهذه الطريقة يفيد المؤتمر المسلمين أكبر فائدة دينية، بما يعلمهم من الأصول
المتفق عليها بين المسلمين، التي بها يكون المسلم مسلمًا أخًا في الدين لثلاث مائة
مليون يوافقونه في اعتقاده، وأكثر المسلمين يجهل ذلك بالتفصيل، ولا يكون جانيًا
على مذهب أحد، ولا حائلاً بينه وبين عالم يتقلد رأيه. ولكنه يعلمه إذا كان متبعًا
لمذهب، أن ما ينفرد به في مذهبه لا ينافي أخوة الإسلام بينه وبين من لا يتبع
مذهبه.
لن يتيسر هذا المسلك لأعضاء المؤتمرإلا إذا كان فيهم العلماء بالكتاب والسنة،
وتاريخ الإسلام، والعلماء بشؤون العصر وما تقتضيه المدنية من العلوم والفنون
والأعمال، بحيث يكون عند علماء الدين من علوم الدنيا، وعند علماء الدنيا من
العلم بالدين ما يمكِّن الفريقين من الاتفاق على الجمع بين الدنيا والدين، كما
تقتضيه مزية الإسلام الذي هو الدين الموافق لمصلحة البشر في كل زمان ومكان.
يقول بعض الباحثين في مسألة المؤتمر: إنه يجب أن يكون في أعضائه
بعض الشيوخ من علماء الرسوم المقلدين للمذاهب الأربعة؛ ليثق بما يقرره عوام
المسلمين. ويرد عليهم آخرون قائلين: إن الإصلاح لا يأتي من العوام، وإنما يأتي
من خواص العقلاء، وإن هؤلاء المقلدين إذا وجدوا في المؤتمر محافظين على
تقاليدهم فهم الذين يحولون دون الاستفادة منه، ومن يهتم بمداراة العوام لا يأتي منه
إصلاح؛ إذ يكون العوام حينئذ أئمة له في الحقيقة، وإن كان يتوهم أنه سيؤمهم
بالحيلة. فالمصلح الحقيقي هو الذي لا يخاف في بيان الحق لومة لائم ولا نفور
عامي ولا مقاومة خاصي، بل يقرر الحق ويدعو أمثاله من العارفين إلى مؤازرته
وموالاته، والحق يعلو ولا يعلى. وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه.
لذلك قال عاقل من العظماء: إنني لا أفهم معنى (مؤتمر إسلامي) يتصدى
للقيام به مَنْ لم يبحث في عمره يومًا واحدًا عن الإصلاح الديني، ولا عن أسباب ما
ألم بالمسلمين. وإنما يكون إنشاء المؤتمر معقولاً، إذا تصدى للدعوة إليه من جعلوا
جُلَّ همهم البحث عن أحوال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم، وأسباب ما عرض
لهم في دينهم مما ليس منه؛ كفلان وفلان فهم الذين يجب أن يختاروا من يرونه أهلاً
لأمثال هذه المباحث.
ويقول بعض أهل البحث والرأي: إن الشعوب لما تستعد لمثل هذا المؤتمر،
فهو غير ممكن الآن من حيث طبيعة الاجتماع، وإن كان ممكنًا في نظر العقل،
يعني أن الإصلاح المطلوب يرجع إلى مسائل يَقِل العارفون بها في بعض الأقطار،
ويعز اجتماعهم، واجتماع غيرهم لا يفيد المطلوب. وإذا اتفق أن اجتمعوا،
فلا بد أن يمتزجوا بغيرهم ممن لا يوافقهم على رأيهم، فإذا كان لديهم من الشجاعة
ما يحملهم على الجهر بالحق الذي يعلمونه غير مبالين بطعن الطاعنين،
فلا يرجى أن يتقرر ما يرتؤونه، وربما تقرر رفضه وإعلان مخالفته
للدين، فيكون ذلك مبعدًا للإصلاح وعقبة في طريقه يقيمها المؤتمر،
فينعكس الأمر ويتبدل الوضع، ويكون المؤتمر ضارًّا لا نافعًا.
ويقول آخرون: إن أقل فائدة يجنيها المسلمون من المؤتمر وراء تعارف أهل
الفضل والرأي منهم، هو أن ما يتفقون عليه يكون جديرًا بالقبول، ولا يمكن أن
يتفقوا كلهم أو أكثرهم على شيء ضار، فإذا لم يهتدوا إلى كل المطلوب من
الإصلاح، فلابد أن يهتدوا إلى بعضه، وما يفوتهم منه في الاجتماع الأول يرجى
أن يهتدوا إليه في الاجتماعات التي تليه، وأمور الإصلاح لا تكون إلا بالتدريج.
ولكن هذا يتوقف على أن يقوم بالأمر أهله.
ومن الناس من يرى أن اجتماع المؤتمر يتوقف على إذن الحكومة ومساعدتها
ولذلك اقترح داعيته إسماعيل بك فيما اقترح استئذانها، وما ضمنه من إجابة طائفة
من الروسيين والإيرانيين يبين ذلك، والحكومة المصرية لا تأذن بهذا المؤتمر ولا
تساعد القائمين به، لا سيما إذا كان فيهم من يشتغل بالسياسة ومن يتهم بالغرض؛
لأنه ممن لم يعرف عنه قط البحث في أمور الدين وطرق إصلاح المسلمين؛
كبعض المعزولين والمتقاعدين (المحالين على المعاش) . وإذا لم تأذن به الحكومة
إذنًا رسميًّا، فإن سائر الحكومات لا تأذن لمن يدعون إليه بالسفر لحضروه، وأهل
الرأي والفضل لا يسافرون لمثل هذا الأمر بدون إذن حكوماتهم؛ لئلا يكونوا عندها في
موضع التهمة.
ويقول آخرون: إن هذا مؤتمر حر لا يتوقف على إذن الحكومة ولا على
مساعدتها، وإنما إذنها ومساعدتها مزيد كمال فيه. أما إذا أرادت منعه فلا شك في
قدرتها على ذلك. ولكنه مما لا يظن فيها، اللهم إلا إذا حصل في الاجتماع شغب أو
فتن، مما تمنع مثله كل حكومة، مهما كانت عريقة في الحرية.
أما سلطان المسلمين الأعظم، فلم أر أحدًا من أهل الرأي يشك في استيائه من
هذا المؤتمر وحرصه على منعه إذا أمكن. وقد جاء من أخبار الآستانة في بعض
الجرائد ما يؤيد هذه الآراء، وأن السلطان سيكتب إلى الأمير والمعتمد الخاص
(مختار باشا الغازي) بتلافي ذلك. وأنه أمر بمنع الحجاج بالتعريج على مصر.
يزعم بعض الناس أن الأمير كوتب في ذلك بالفعل. وكراهة السلطان للمؤتمر - مما
يجعله عند كثير من المسلمين مكروهًا - يخشى ضره ولا يرجى نفعه، ويحول دون
نشر الجرائد العثمانية شيئًا من أخباره قبل انعقاده، بل ما يقرره إن هو انعقد. فلا
معنى لجعله تحت حمايته.
هذا أهم ما خطر لنا بيانه الآن من فكرة الدعوة إلى مؤتمر إسلامي وتاريخها،
وما يجب أن يكون أساسًا للمؤتمر المقترح الآن والآراء التي تستحق الاعتبار فيه.