للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رزيئة مصر بحسن باشا عاصم

رزئت مصر في ثالث شوال برجل الجد والعمل والثبات والاستقامة والعدل
والنظام، خادم الأمة المخلص نابغة النوابغ نادرة العصر يتيمة العصاميين العصماء
حسن باشا عاصم رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأحسن عزاءنا وعزاء البلاد عنه.
وإننا نكتب في شأنه كلمات لا نقصد بها مجرد الرثاء والتأبين، ولا محض
الترجمة والتأريخ، بل العبرة والموعظة للأمة، عسى أن يكون فيها لأهل الاستعداد
حسن الأسوة.
ومن هو حسن باشا عاصم الذي يحليه المنار بهذه الألقاب والنعوت مخالفًا
عادته في ذكر الناس بأسمائهم؟ من هو حسن باشا عاصم الذي يؤبنه المنار وقد
مات من الأمراء والباشوات وكذا العلماء ولم يذكر خبر موتهم ولا عزى البلاد
عنهم؟
كان حسن عاصم رجلا من الرجال الذي تنهض بأمثالهم الأمم إذا كثروا فيها
ولو كثر أمثاله لأذعنت إنكلترا بأن المصريين قادرون على أن يحكموا أنفسهم كأرقى
أمة أوروبية فقد كان إذًا روحا من أرواح الحياة القومية، وركنا من أركان النهضة
المدنية، وإن كان عمله مما كانت تجهله العامة، وقلما تهتف به ألسنة الخاصة.
كان ربما يزور هذه البلاد السائح المؤرخ فيقرأ جرائدها، ويغشى أنديتها
ومعاهدها، ويتحدث مع الخواص والعوام، والمحكومين والحكام، فيسمع ويقرأ
أخبار الأحزاب ومؤسسيها، والتحزب لها أو عليها، والمحاورات في التفاضل بين
أفراد يقال: إنهم هم الذين ينهضون بالبلاد، ولا يسمع لحسن باشا عاصم في هذه
المواضع ذكرا، ولا يقرأ عنه في هذه الصحف خبرا، فكيف كان لحياة البلاد روحًا
مدبرًا، ولنهضتها ركنا مشيّدًا، والأمة في مجموعها غافلة عنه جاهلة عمله،
ويتنازع زعامة النهضة فيها زيد وعمرو، وخالد وبكر؟
الجواب عن هذا أن الرجل كان فعالا ولم يكن قوالاً، وأمتنا في مثل هذا
الطور تشغلها الأقوال، وتغرها الدعاوى العراض الطوال، ورب قؤول كبير
الدعوى قدير على التغرير، لو كثر أمثاله في الأمة ما زادوها إلا رهقًا، ولكن ما
كان يعرف حسن باشا عاصم أحد - وكل أهل الفضل في البلاد يعرفونه - إلا ويجزم
بأنه لو كان فينا عشرون رجلا مثله في صفاته وأعماله لنهضوا بنا نهضة لا تخطر
في بال الذين يقولون ما لا يفعلون، ولكانوا حجة لنا على الأجانب لا يكابر أحد في
دحضها. ولكن يوجد في البلاد مئات أو ألوف يستطيعون أن يقولوا بألسنتهم
وأقلامهم ما يشتهر بمثله المرء بين العامة قضت عليهم حال المعيشة بأن يكون
كسبهم الذي هو قوام معيشتهم بأعمال أخرى.
صفات حسن باشا عاصم
(استقلال الفكر) من الصفات التي تحلى بها هذا الرجل استقلال الفكر
والرأي، فقد كان لا يقلد أحدًا في رأيه وإنما ينظر في الأمر ويطيل فيه الفكر والتدبر
حتى يظهر له الصواب. وإننا نرى أكثر الرجال قد درجوا على التقليد والتسليم حتى
كأنهم لم يخرجوا من الطفولية، وهم لا يشعرون بذلك لأنهم يظنون أنهم مستقلون فيما
قبلوه بادي الرأي ولا محل هنا لكشف التلبيس في ذلك.
(استقلال الإرادة) كان رحمه الله تعالى مستقل الإرادة قوي العزيمة، أعني
أنه كان يعمل دائما ما يعتقد أنه الصواب والخير والموافق للمصلحة في الواقع ونفس
الأمر بحسب اعتقاده، وإن كان مما يخشى أن يعود عليه بالضرر. وهذا الخلق فينا
أضعف من سابقه. ولو كان عندنا كثير من الحكام والعاملين الذين يعملون بما يعتقدون
أنه الخير والمصلحة للبلاد لكنا من أرقى الشعوب، فإن فينا عددًا كثيرًا من العارفين
بما يجب ولكنهم ضعفاء العزائم فلا يعملون بما يعلمون.
(الثبات والاستقامة) كان رحمه الله تعالى كالجبل الراسخ في ثباته على
رأيه وعلمه واستقامته في سيرته، وبهذا كان نافعا في استقلاله وقوة إرادته. فإن
العزيمة تكون في الخير والشر وفي المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وتكون
للرجل الثابت وللرجل القلّب؛ فإن الإمعة الذي ليس له رأي مستقر قد يكون ضعيفًا
في العمل بالرأي قبل أن يتحول عنه وقد يكون قويا. وكان رحمه الله لا يشكو من
شيء شكواه من التقلب والتحول في الناس، فقد اقترحت عليه غير مرة مشروعات
نافعة للأمة مما يكون بالاجتماع والتعاون وكان يجيبني في كل مرة: إنك حسن الظن
في الأمة أكثر مما يجب لأنك لما تختبرها. وقال لي مرة أو غير مرة ما معناه: إننا
إذا دعونا إلى هذا العمل نجد المجيبين إليه كثيرين في أول الأمر ثم يتسللون لواذًا
حتى لا يبقى منهم من يمكن أن يستمر به العمل.
(الصبر والاحتمال) كان على نحافة بدنه آية في الصبر على العمل واحتمال
المشقة، لا يمل ولا يسأم. ولولا الصبر والاحتمال ما كان ثبات ولا استقامة. كان
في كل عمل دخل فيه يعمل ما لا يعمله عدة رجال حتى كان يمل ويتململ كل من
يشتغل معه - لا سيما إذا كان هو رئيسه - ولكنه لا يستطيع أن يشكو من كثرة
العمل مع من يراه يعمل أضعاف عمله، وقد كان يشتغل أخيرًا في أربع إدارات
كبيرة في كل يوم فيعجب كل عمالها من صبره وجلده، وهي إدارة القصر العالي
وإدارة تركة الأمير محمد إبراهيم وإدارة الجمعية الخيرية ومدارسها وإدارة الشركة
الإنكليزية المصرية، هذا وهو غير مهمل لإدارة منزله بل مقيم لها على أكمل
نظام.
(النظام والإتقان) كان عاشقًا للنظام كَلِفًا بإتقان كل أمر يشتغل به، فكان كل
عمله مرتبا منظما متقنا حتى قال فيه سعد باشا زغلول: إنه خلق منظما بالطبع. ومن
يخطر بباله أن صاحب تلك الأعمال الكثيرة كان يشغل ساعات من ليله ونهاره
ويشغل معه فيها بعض أصحابه في البحث عن صحة كلمة أو عبارة فيما يطبعه
لمدارس الجمعية الخيرية أو لشركة إحياء العلوم العربية؟ خطر له أن يطبع أجزاء
القرآن الكريم لأجل التعليم في مدارس الجمعية بحسب قواعد الرسم لا برسم
المصحف المتبع عن الصحابة عليهم الرضوان، فبدأ أولا بالبحث عن جواز ذلك
واستفتى فيه الأستاذ الإمام فأفتى ووجد نصا عن الإمام مالك بجوازه في مصاحف
التعليم، ثم كان يستنسخ الأجزاء ويبحث بنفسه مع أهل العلم في الكلم الذي يشتبه
رسمه بكلمة (الضحى) تكتب ألفها بصورة الياء أم ملساء؟ والكلمات التي في آخرها
ياء تحذف في قراءة حفص لأجل الوقف. فكنا نسهر معه الليالي ذوات العدد نتباحث
في هذه الكلمات. ثم ناط ضبط ذلك كله وتصحيح الأصل بالشيخ حسين والي مؤلف
كتاب الإملاء ليطبقه على قواعد الرسم بعد مراجعة كتب القراءات لكي لا يخرج
الرسم عن أداء المتواتر منها ثم إنه كان يراجع بنفسه كل ما يصححه الشيخ حسين.
وقد عزم منذ أكثر من سنتين على طبع كتاب (العمدة في الأدب) لابن رشيق
بنفقة جمعية إحياء العلوم العربية، فلما أرسلت إليه المطبعة الأميرية نموذج الملزمة
الأولى بعد تصحيح مصححيها لها ومراجعتها مقابلة على النسخ - قرأها فتوقف في
فهم بعض عباراتها والأحاديث وأبيات من الشعر فيها فراجع كاتب هذه السطور في
ذلك في مكتب المنار. وغير مرة كنا نراجع فيه الأحاديث في كتبها والأشعار في
مظانها من كتب الأدب واشترى هو ديوان حسان بن ثابت (رضي الله عنه) لأن
فيها شيئًا من شعره وراجع أيضًا غير واحد من أصحابه أهل العلم والأدب.
وبعد هذا كله لم يأذن بالطبع لأنه بقي في الملزمة عبارة غامضة يرجح أنها
محرفة! وطفق يسأل ويبحث عن نسخة أخرى من العمدة ليجلبها أو يستنسخها من
القطر الذي يعلم أنها فيه. وأبى عليه خلق الإتقان وأمانة العلم أن يطبعها وهو يعتقد
أن فيها تحريفًا فتبارك من أنعم عليه بهذه الأخلاق، ويا ليت الذين يتَّجرون بطبع
الكتب الدينية والعلمية وغيرها يعنون بعض هذه العناية بالضبط والإتقان.
(الجد والرصانة) كنا نرى كثيرا من الناس ينتقدون منه رصانته وجده في
كل وقت وحال، وتجنبه الهزل والدعابة وتحاميه المزاح والمفاكهة في الحديث إلا
قليلا وهذا هو الواجب على من يريد أن يخدم شعبا يعتقد أنه يكثر فيه الطيش والخفة
ويغلب على أكثر أفراده الهزل واللهو واللعب في زمن يزاحمه فيه أهل الجد والعمل
من الشعوب الأخرى على بلاده وينازعونه جميع مقومات حياته، فلولا هذان الخلقان
لما قدر على كل ما عمل. ولكننا لا ننكر مع هذا أن استغراق جميع الأوقات في
الجد والتزام الرصانة في جميع الأحوال من المبالغة المنتقدة في الفضيلة ولكن لا
يُقبل انتقادها إلا ممن يصرف أكثر أوقاته في الجد ويفرغ أقلها للأهل والصحب
يفاكههم ويمازحهم وينبسط إليهم في الحديث، وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا.
(الاقتصاد والوفاء) اشتهر فقيدنا المبكي بأعين الفضلاء بالمبالغة في
الاقتصاد حتى كان بعض الناس يظن فيه البخل والتقتير وهو لم يكن بخيلاً ولا مقترًا
في النفقة؛ بل كان في الإنفاق على ما أمر الله تعالى في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن
سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: ٧) كان يكتب لبيته
ميزانية السنة قبل دخولها، فيجعل الخرج غير مستغرق للدخل كله ويحصي كل أنواع
النفقات ويضيف إليها مبلغًا احتياطيًّا ثم يؤدي كل شيء في وقته، فكان يدفع اشتراكات
الصحف العربية والإفرنجية في أواخر شهر ديسمبر من كل سنة واشتراك الجمعية
الخيرية في غرة المحرم، فيأخذ أول وصل من وصولات التحصيل وأجور الخدم في
أول يوم من كل شهر وثمن كل شيء يشتريه في وقته. ولولا هذا الاقتصاد لما قدر
على الوفاء الكامل في المعاملة بأداء كل حق قي وقته ولا على الاستغناء عن
الاقتراض والاستدانة بالربا.
نعم، إن اقتصاده المبني على قواعد العلم الحديث والتزامه النظام فيه ومن كل
عمل كان يستلزم مخالفة أهل البلاد في بعض الأمور مخالفة يستنكرونها
فيسمونها بغير اسمها. فمن ذلك أنه كان إذا دعا إلى طعامه نفرًا من أصحابه وزاره
عند وقت الطعام أو قبيله صاحب آخر فإنه لا يدعوه معهم، بل كان بعض أصدقائه
ربما يتعمد أن يقول: بلغني أن فلانا وفلانا سيأكلان العشاء عندك وأحب أن أكون
معهم ليجيبه بحريته المعهودة: إنه ليس لك كرسي على المائدة في هذه الليلة.
وذلك أنه رحمه الله تعالى كان يهيئ الطعام على قدر حاجة الآكلين المعلومين بلا
تقتير ولا تبذير. وكيف يوصف بالتقتير من كان خدمه يأكلون من جميع ما يأكل
منه أهل البيت وضيوفهم من الألوان والحلوى حتى الفاكهة في الشتاء.
وبلغ من اقتصاده في مال الجمعية الخيرية أنه كان لا يرمي ورقة مكتوبة من
الأوراق التي لم تبق من حاجة إليها إلا بعد أن يقص منها ما عدا المكتوب إن كان
ينتفع به بإمكان كتابة شيء عليه. ووقع لي معه دقيقة من هذه الدقائق أذكرها مثالا،
وهي أنني جئت مرة قصر عابدين أبغي لقاء الأمير، وكان هو رئيس التشريفات
فأرسلت إليه بطاقة الزيارة للاستئذان، ولما هممت بالخروج من حجرته قال لي: خذ
هذه البطاقة - وكانت لا تزال في يده - فإنها أدت وظيفتها الآن ويمكن أن تؤديها
مرة أخرى. فقلت له: ذكرتني هذه الدقة في الاقتصاد كلمة للإمام الغزالي وهي أن
الميزان الذي لا يرجح بالحبة لا يرجح بالقنطار لأن القنطار مؤلف من الحب، فإذا
ألقي في الميزان حبة بعد حبة لم يكن الرجحان إلا بحبة، فأعجبه هذا القول وكان
يتمثل به.
ومن الناس من يهزأ بهذه الدقائق ويعدّها من الصغائر التي لا تنبغي لأهل
النفوس العالية. وهذا خطأ وجهل يزينه لصاحبه الإسراف والخرق واعتياد الخلل
والحرمان من النظام فإن الكاتب (الخطاط) الذي لا يعنى بكل حرف من الكلمة لا
يكون مجموع خطه كامل الحسن، والبناء الذي لا يعنى بضبط كل حجر ينحته لا
يكون بناؤه رصينا محكما، والمصور الذي لا يدقق في إحكام تصوير كل عضو لا
تأتي صوره مطابقة لما صوره، وهكذا يضيع المال الكثير في غير فائدة بسبب من
يفرط حفظ القليل بوضعه في غير موضعه.
إن كثيرًا من المسرفين الذين يسميهم الحمقى أسخياء وأجوادا يمطلون أصحاب
الحقوق ويلوونهم وهم واجدون ما يفون به، ولا يكادون يبذلون شيئا في سبيل الله.
وإذا خرج منهم الحق لا يخرج إلا نكدا ولكنهم يراؤون الناس بإضاعة المال في أمور
لا يحمد فاعلها عند العقلاء ولا يؤجر عند الله. ومنهم الذين يضيعون ما ورثوا من
الثروة الواسعة أو غير الواسعة فيقعون في الذل الموجع والفقر المدقع، وما
أكثرهم في هذه البلاد ولكن أكثر الناس لا يعتبرون.
قال الفقهاء يكره في الوضوء أن يغسل المتوضئ العضو أكثر من ثلاث مرات
لأن ذلك من الإسراف ولو كان يتوضأ من البحر، إلا أن يكون له حاجة أخرى في
الزيادة كالتبرد، ولكن لا ينوي بها العبادة. وقالوا: إن حكم الشرع في ذلك هو أن
تتعلم الأمة الاقتصاد في الأمور كلها فلا تفرط في شيء وتضيعه في غير منفعة وإن
لم يكن في إضاعته ضرر.
أي ضرر يتصور أن يصيب الأمة لو جرى جميع أفرادها على طريق حسن
باشا عاصم في الاقتصاد. لا يضيعون شيئا بوضعه في غير موضعه ولا يؤخرون
حقًّا عن مستحقة ويجتهدون في السبق إلى مساعدة الجمعيات الخيرية؟ أما والله إن
أمة يكثر فيها أهل هذا الخلق لجديرة بأن تكون أسعد الأمم.
(للترجمة بقية)
(يصدر هذا الجزء من المنار في سلخ رمضان)
((يتبع بمقال تالٍ))