للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التدوين في الإسلام

سادتي الكرام:
حقًّا إني حري بالفخر، حقيق بتقديم واجب الشكر على أن تنازلتم بقبولي
هذه المرة خطيبًا في ناديكم الجامع لنوابغ الأمة ونخبة أهل الفضل والعلم منها،
وإني أعترف بأن موقفي بينكم موقف صعب لا يجرؤ على الوقوف فيه ضعيف مثلي
ليس في مرتبتكم السامية في العلم والاطلاع، فألتمس منكم لهذا السبب المعذرة إذا
تلعثم لساني واضطرب جناني، والكريم يعذر على كل حال.
ولقد اخترت موضوعًا لبحثي هذه المرة، أظنه لا يخلو من فائدة تاريخية مع
ما أعتقد في نفسي من العجز عن إعطاء مثل هذا الموضوع أو البحث حقه من
البيان والتدقيق. لكن قاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك كله) ربما سمحت لي بعرض
معلوماتي في هذا الشأن على مسامع سادتي الحاضرين، مهما كانت قيمتها هينة في
نظركم ونظر التاريخ.
الموضوع هو التدوين في الإسلام أو مبدأ الكتابة، وتقييد العلم في الصحف
عند المسلمين.
إن الذي دعاني إلى اختيار هذا البحث على بعده عن أذهان كثير منا لهذا العهد
هو تصدي بعض الباحثين لتطريق الوهن والتجريح إلى العلوم التي وصلت إلينا
من أسلافنا في الصدر الأول: كالحديث وآداب اللغة العربية والتاريخ.
فقد زعموا أن المسلمين لم يدونوا هذه العلوم إلا في القرنين الثاني والثالث،
وأن الأخبار التي تتلقى بالرواية مدة قرنين ثم تكتب بعد ذلك الأمد الطويل، قلما
يوثق بسلامتها من التحريف والتبديل، وذلك قياس لأخبار العرب على غيرها من
أخبار الأمم الأخرى التي لم تكتب صحيحة في حينها، وإنما كتبت بعد مرور زمن
طويل أو قصير عليها مشوهة بآفة التبديل والتحريف، فسقط اعتبارها على ظنهم
في التاريخ، وهذا الزعم بالنسبة إلينا مردود من وجهين:
(الوجه الأول) ما عرف عن العرب من إتقان الحفظ والرواية، وكونهم
مطبوعين على ذلك.
(الوجه الثاني) ثبوت التدوين وكتابة الأخبار في الإسلام من أوائل القرن
الأول؛ أي من عهد صاحب الرسالة وأبي بكر الصديق، وثبوت عناية العرب
المسلمين بالكتب أو العلوم المدونة منذ ذلك القرن.
أما الوجه الأول: فبيانه أن قوى الإنسان ومشاعره خاضعة كلها لحكم
الفطرة؛ إذ المشاهد أن الإنسان إذا فقد أداة من قواه العاقلة أو مشاعره قويت فيه
أداة أخرى. فضعيف الذاكرة يكون قوي التفكر بحكم الحاجة إلى استحضار صور
المعلومات التي تغيب عن حفظه.. وفاقد البصر يكون قوي السمع والحفظ كذلك.
والعرب لما كانوا أمة أمية قليلي العناية بالكتابة التي هي أداة من أدوات
الحضارة، استعاضوا عنها لاستيفاء أخبارهم وتداولها بقوة الحفظ، فمرنوا على هذه
القوة حتى صارت لكثير منهم ملكة لا يحتاج صاحبها إلى تكلف عناء في حفظ ما
يرد على سمعه من الأخبار والأشعار، فقامت عندهم مقام الكتابة وقيد الأخبار
بالصحف؛ لذلك كانت أخبار العرب وأشعارهم التي وصلت إلينا إلى هذا اليوم،
إنما اتصلت بالمسلمين بالرواية؛ ثم قيدها هؤلاء بالكتب في العصر الأول وما بعده.
وكلكم تعلمون أيها السادة مبلغ قوة الحفظ عند العرب؛ بما تقرأونه من أخبار
حماد الراوية الذي كان ينشد عدة قصائد على قافية واحدة لعدة شعراء، وكذا تقرؤون
أخبار غيره التي من هذا القبيل، وقد كان عبد الله بن عباس يحفظ القصيدة الطويلة
بسماعها مرة واحدة، وها أنا ذا أورد لكم خبرًا من أخباره في الحفظ يستدعي
إعجابكم بذلك الرجل الجليل الذي كان يستوعب ذهنه من شرائع الإسلام وأخبار
العرب وغيرهم ما لا تستوعبه مكتبة من المكتبات الضخام.
روى هذا الخبر صاحب الأغاني بسنده، قال: بينما ابن عباس في المسجد
الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه؛ إذ أقبل عمر بن أبي
ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصرين حتى دخل وجلس، فاستنشده ابن
عباس قصيدة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر
حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: الله يا ابن عباس
إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقصى البلاد؛ نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل
ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وإما بالعشي فيخسر
فقال له ابن عباس: ما هكذا قال، وإنما قال:
رأت رجلاً إما الشمس عارضت ... فيضحي وإما بالعشي فيخصر
فقال: ما أراك إلا قد كنت قد حفظت البيت. قال: أجل، وإن شئت أنشدك
القصيدة كلها. قال: فإني أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها.
فانظروا إلى هذا الذكاء العظيم الذي اختص به أولئك القوم، حتى لقد بلغ من
ثقتهم بقوة الحفظ والرواية أن كانوا لا يثقون بخبر مكتوب إلا إذا كان معززًا
بالسند والرواية، ولما أخذ العلماء بتدوين الأخبار النبوية وأخبار الصحابة ثم تاريخ
الخلفاء، دونوا هذه الأخبار مدعومة بالرواية، ولم يكتفوا بقيدها في الصحف مجردة
عن الأسانيد؛ خوف دخول التحريف عليها واطمئنانًا للرواية المعروفة السند
المستوفية لشروط الصحة على الترتيب المعروف عند المحدثين إلى الآن.
وفي اعتقادي أن الذي ذهب بالباحثين إلى الظن بعدم تدوين الأخبار إلا بعد
القرن الثاني هو تقيد المؤلفين في ذلك العصر بنقل الأخبار بالرواية، مع فقد ما دوِّن
قبل ذلك لفقده لحسن التنسيق والجمع وشروط الصحة عند المؤلفين لا سيما من
جهة الترتيب والتخصيص الذي يروق أهل العصر الثاني، ويناسب حالة الرقي في
الحضارة كما سنتكلم عليه بعد.
هذا بيان الوجه الأول. وأما الوجه الثاني وهو ثبوت التدوين وكتابة الأخبار
في الإسلام في أوائل القرن الأول، فالأدلة عليه كثيرة وتشتتها في ثنايا الكتب
وتفاريق السطور لا يمنعنا أن نجتزئ منها بالقليل المقنع الذي وسعنا جمعه.
ولأقدم بين يدي ذلك مقدمة قصيرة فأقول:
إذا قيل: إن العرب أمة أمية، فليس هذا القول على إطلاقه بل ربما أطلق هذا
الوصف على عرب البادية إطلاقًا أعم من إطلاقه على غيرهم من سكان المدن
وأرباب الدول البائدة؛ كسكان اليمن ومدن نجد والحجاز والعراق والجزيرة
وأطراف الشام الذين عرفت لهم دول ذات حضارة ومجد كالتبابعة في اليمن،
والمناذرة في العراق، والحوارث في أطراف الشام الذين منهم ملوك تدْمُر في شرقي
سوريا الذين تنسب إليهم الزباء (زنوبيا) وزوجها أذينة (أوذينوس) ومنهم ملوك
غسان في جنوب سوريا وتاريخهم مشهور معروف.
فهؤلاء الشعوب لا يجوز أن يطلق عليهم وصف الأمية بالنسبة لحالة كل
عصر كانوا فيه، وإنما غموض تاريخهم وطموس آثارهم أضاف تاريخهم إلى
التاريخ القديم، فكان مجهول الحقيقة إلا قليلاً مما وقف عليه الباحثون من الآثار
الكتابية للحميريين في اليمن، والكتابات النبطية في شمال الحجاز، وسيكشف
دأبهم على البحث وتتبع الآثار أكثر من ذلك.
وحسبكم شاهدًا على أن الأمية لا يجوز إطلاقها على كل العرب ما كان
موجودًا من كتب أهل الحيرة إلى أوائل القرن الثالث الهجري؛ بدليل ما قاله هشام
ابن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأنساب، وهو أني كنت أستخرج أخبار
العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منه لآل كسرى
وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة.
أما عرب الحجاز، فالمعروف عن الكتابة عند سكان المدن منهم قبيل البعثة
أنها كانت موجودة ولو مع الندرة، يدلك عليه كتابة المعلقات السبع التي كانت على
الكعبة، والصحيفة التي تعاقدت فيها قريش على رد الحقوق وإنصاف المظلوم
وعلقوها على الكعبة، والمعروف أنهم كانوا يكتبون العربية تارة بالخط النبطي
وتارة بالخط الحيري الذي عرف بعد ذلك بالكوفي وتارة بالخط العبري، وممن
عرف منهم بكتابة هذا الخط ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم.
ولما جاء الإسلام كان النبي عليه السلام يحض على تعلم الكتابة وتعلم اللغات
الأخرى، فشاعت الكتابة بين الصحابة وأبناء الصحابة، وبها ضبط الوحي وحفظ
القرآن، فكانت كلما نزلت آية كتبها الكاتبون في الحال، ومن هؤلاء الكتاب عثمان
ابن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي
سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلاء الحضرمي وحنظلة بن
الربيع وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن الأرقم الزهري، وهؤلاء
كتاب الوحي والرسائل، كتبوا للنبي عليه السلام، وأما من عداهم من كتاب
الصحابة فكثيرون منهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل
وغيرهم. ومن أبناء الصحابة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص
(وهو صحابي) وعبد الله بن الحارث بن هشام وغيرهم.
إذا علمتم مما تقدم أن الكتابة كانت شائعة على عهد النبي عليه السلام بين
المهاجرين والأنصار، وأن أول ما كتب بها هو القرآن الكريم، وكانوا يكتبونه على
الرقاع والأضلاع وسعف النخل والحجارة الرقاق البيض، ثم جمعه أبو بكر رضي
الله عنه ودونه في الصحف على ما هو معروف مشهور.
أما الحديث وفيه تاريخ الصدر الأول، وهو الذي عليه مدار بحثنا الآن، فإنه
كان يكتب كذلك على عهد النبي عليه السلام على نحو ما كانوا يكتبون عليه القرآن
وقد رخص لهم النبي بكتابته كما أمرهم بكتابة العلم مطلقًا.
فقد أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (قيدوا العلم بالكتاب) وروى بسنده عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، أكتب كل ما أسمع منك؟ قال:
نعم قلت: في الرضا والغضب؟ قال نعم، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقًّا.
وروى بسنده عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة، قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فخطب فقام رجل من اليمن يقال له: أبو شاة، فقال: يار سول الله اكتبوا
لي. فقال رسول الله: (اكتبوا لأبي شاة) يعني الخطبة وروى ابن عبد البر أن
رسول الله كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره،
وأخرج عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: لم يكن أحد من أصحاب محمد
أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كتب ولم أكتب. وروي عن
عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه،
فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله يتكلم في الرضا
والغضب؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه،
وقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) .
وأخرج الذهبي في تذكرة الحفاظ أن أبا بكر كتب أكثر من أربعمائة حديث،
وفي تنوير الحوالك على موطأ مالك وغيره من كتب الحديث: أن عمر حاول مرارًا
أن يكتب السنن ثم عدل؛ خوفًا من انكباب الناس على كتب السنن مع وجود كتاب
الله.
وأخرج ابن عبد البر عن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس، فيسمع
منه الحديث فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه، وأخرج عن معنٍ قال:
أخرج إليَّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا وحلف أنه بخط أبيه بيده.
هذه الأخبار الصحيحة وما ماثلها تدلنا على أن الحديث كتب إن لم يكن كله
فجُلُّه على عهد الرسول وأصحابه الكرام، والحديث يشتمل أكثر تاريخ الخلفاء كما
تعلمون، وكتب فن النحو الذي أملاه علي بن أبي طالب على أبي الأسود الدؤلي.
وكتب عبد الله بن عمرو بن العاص كتابًا في الأحداث وكتابًا فيما قضى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم، سمعهما منه شفي بن مانع الأصبحي. فقد نقل المقريزي
من رواية أبي سعيد بن يونس صاحب تاريخ مصر عن حياة بن شريح قال: دخلت
على الحسين بن شفي بن مانع وهو يقول: فعل الله بفلان. فقلت: ما له؟ فقال:
عمد إلى كتابين، كان شفي (يعني أباه) سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص
ثم ذكر الكتابين، قال: فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب مركبين كبيرين من
سفن الجسر مما يلي الفسطاط.
وأما في عصر التابعين وتابعيهم، فقد كانت العناية بكتابة الأخبار أكثر،
وأقبل الناس على اقتناء الكتب وجمع المكتبات، ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن
هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرَّة، وكان يقول: وددت لو أن
عندي كتبي بأهلي ومالي، وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين في خلافة يزيد
ابن معاوية. وكان ابن شهاب الزهري من علماء المائة الأولى، ومولده في سنة
إحدى وخمسين ووفاته بعد المائة؛ إذا جلس في بيته وضع الكتب حوله فشغلته عن
كل شيء كما ذكر ذلك ابن خلكان والزهري. هذا هو الذي كتب السُنَّة في دفاتر أو
كتب وزعت على الأمصار بأمر عمر بن عبد العزيز.
ولم يأت القرن الثاني من الهجرة حتى كثرت الكتب في فنون شتى خصوصًا
فنون العربية والأدب، فكان منها مكتبات لبعض الأفراد ما أظنها توجد عند أحد منا
الآن، فقد ذكر ابن خلكان وغيره في ترجمة أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة
المولود بين سنة خمس وستين وسبعين للهجرة، والمتوفى في منتصف القرن الثاني
أنه كان أعلم الناس بالقرآن والأدب والعربية والشعر، وكانت كتبه التي كتبت عن
العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تنسك فأخرجها
كلها، فلما رجع إلى علمه لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه.
هؤلاء الأشخاص أيها السادة هم الذين ظفرت بأسمائهم وكانوا ممن اقتنوا
الكتب من منتصف القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني، فما بالكم بما لم أظفر بهم
وبمن لم يأت ذكرهم في التاريخ؟ لا جرم أنهم كثيرون جدًّا وربما لم يخل منهم
مصر من الأمصار الإسلامية في ذلك العصر.
ما هي هذه الكتب وما هي كتب عروة التي احترقت سنة ثلاث وستين؟ أليست
في علوم شتى من العلوم التي دونها العرب واشتغلوا بها؟ وهل احترقت كتب عروة
في اليوم الذي دونت فيه؟ كلا بل كتبت هي وغيرها من الكتب في غضون القرن
الأول أو على مدى هذا القرن. فإذا كان ذلك كذلك فهل يبقى مجال للريب في أن
العرب دونوا علومهم في الصحف من ابتداء القرن الأول؟ وهل يستراب في صحة
هذه العلوم مع ما ثبت معنا من أنها كتبت مدعومة بالرواية لتكون أبعد من سهو الكاتبين وتحريف الناسخين.
لا جرم أن القوم الذين يوجد فيهم من ينصرف عن الملك إلى علوم الطب
والكيمياء التي ندر من (كان) يشتغل بها من الأمم الراقية في ذلك العصر ويؤلف
في هذين العلمين حريون بتدوين أخبارهم والعناية بآدابهم. فقد ذكر المؤرخون في
ترجمة خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى في سنة خمس وثمانين للهجرة أنه كان من
أعلم قريش بفنون العلم وله كلام في صنعة الكيمياء والطب، وكان بصيرا بهذين
العلمين متقنًا لهما وله مسائل دالة على معرفته وبراعته، وأخذ الصنعة عن رجل من
الرهبان يقال له مريانس وله فيها ثلاث رسائل تضمنت إحداهن ما جرى له مع
مريانس المذكور وصورة تعلمه منه والرموز التي أشار إليها وله فيها أشعار كثيرة
مطولات ومقاطيع دالة على حسن تصرفه وسعة علمه، وكانوا يعيبونه على اشتغاله
بهذه العلوم وتركه حبل الملك والخلافة على الغارب حتى تمكن من سلبه منهم بنو
مروان.
ومن المؤلفين في ذلك العصر - أي العصر الأول - غير خالد بن يزيد، زيادة
ابن سمية الذي ألحقه معاوية في أولاد أبي سفيان فجعل الناس يطعنون عليه فألف
كتابًا في علم الأنساب في مثالب العرب وطعن فيه في أنسابهم، فكفوا عنه كما ذكر
ذلك ابن النديم.
ومنهم زائدة بن قدامة الثقفي أبو الصلت الكوفي قال ابن النديم: مات سنة إحدى
وستين أو ستين وله من الكتب كتاب السنن وكتاب القراءات، وكتاب الزهد وكتاب
المناقب. ومنهم عبيد بن شرية الجرهمي وكان في زمن معاوية وأدرك النبي ووفد
على معاوية من اليمن فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وغير ذلك
من المسائل فأجابه عما سأل، وله من الكتب كتاب (الأمثال) وكتاب (الملوك) أخبار الماضين.
ومنهم سليم بن قيس الهلالي أحد أصحاب علي بن أبي طالب، وله كتاب في
الحديث ويوجد هذا الكتاب إلى الآن في مكتبة السيد ناصر حسين الموسوي إمام
الشيعة في مدينة لكناؤ في الهند، كما ذكر ذلك صاحب مجلة البيان الهندية في العدد
السادس من سنته الرابعة وذكر غير ذلك عدة كتب لأصحاب علي موجودة عند
الشيعة الإمامية يضيق المقام عن ذكرها.
وأظن أن في هذا كله بيانًا كافيًا يقنع الذاهبين إلى أن المسلمين لم يدونوا
الحديث والعلوم إلا في القرن الثاني للهجرة أو بعده وأن رواية الأخبار والآثار التي
التزمها المسلمون في كتبهم المكتوبة بعد القرن الثاني إنما كانت شرطًا في صحة
الأخبار التي نقلوها عمن كتب قبلهم ولوثوقهم برواية الرواة الكثيرين أكثر من
وثوقهم بخبر الكاتب الواحد.
إذ الخبر الذي يكتب في صحيفة ثم يترك لأيدي النساخ والمحرفين والدساسين
ليس في الصحة بمنزلة الخبر الذي يكتب ثم يتناقله الرواة قراءة ورواية، بحيث يأخذه الواحد عن الآخر كما كتب بحرفه أو معناه إلى ما شاء الله.
وأظنكم أيها السادة تسلمون معي أن هذه الطريقة في النقل لا تعد ثلمة في
تاريخ الإسلام يتطرق منها إليه الوهن والتجريح، بل تعد تحقيقًا للأخبار بالغًا حد
الأمانة والتمحيص لم تسبق إليه أمة من الأمم غير المسلمين.
بقي هنا اعتراض ربما يرد على ما تقدم من الكلام وهو قولهم: أين هي تلك
الكتب التي دونت في القرن الأول إلى منتصف القرن الثاني، مع أنه لم يصل إلينا
منها إلا ما ذكرت من الكتب الموجودة عند الإمامية وهي في الحديث وفيما روي عن
عليّ من بعض الخطب والأخبار، وأن أقدم ما وصل إلينا في التاريخ كتاب فتوح
الشام لأبي إسماعيل الأزدي البصري من علماء النصف الثاني من القرن الثاني
للهجرة؟ وأين هي كتب الزهري التي جمع فيها الحديث ووزعها عمر بن عبد
العزيز على الأمصار؟
فالجواب على هذا سهل وهو: إن المسلمين كانوا يتلقون كتب الأخبار قراءة
ورواية كما تقدم بيانه فلما استبحر العمران وترقت وسائل الحضارة واقتضى أن
يترقى فن التأليف تنسيقًا وترتيبًا وكتبت في ذلك الكتب الجامعة لأصول كل فن أو
فروعه أدمجت تلك الروايات أو الصحف المشتملة على مسائل متفرقة في تلك الكتب
الجامعة مع محافظة المؤلفين على أسانيدها، وفاء بحق الأمانة وتصحيحًا للأخبار،
كما ترون ذلك في كل كتب الفنون التي اشتغل بها العرب، ودونت بعد القرن الثاني
مدعومة بالرواية على طريقتهم السابقة البيان كالتاريخ والحديث وآداب
اللغة العربية ولما انتفت الحاجة إلى تلك الكتب القديمة قضت على أعيانها سنة بقاء
الأنسب بالدثور بضرورة الحال، وأما ما كتب فيها فهو هو بعينه ما كتب في الكتب
الجامعة بعد ذلك العصر فإذا دثرت تلك الصحف التي خطتها أنامل العرب في
العصر الأول فإن ما كان فيها لم يزل باقيًا يشهد بصحة تاريخ الإسلام. والسلام
اهـ.
(المنار)
نشرنا هذه الخطبة النفيسة بنصها لفائدتها وإجابة لاقتراح من اقترح علينا
نشرها مع كتابة شيء في الموضوع استداركًا أو انتقادًا، وقد اقترح علينا من قبل غير
واحد بأن نكتب شيئًا في مسألة كتابة الحديث منهم الدكتور صدقي ومنهم الشيخ
صالح اليافعي في حيدر أباد، فإنه أرسل إلينا رسالة مطولة في الرد على ما كتبه
الدكتور صدقي في السنة الماضية بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) ولكن
سقط منها ورقات طلبناها منه فأجابنا بأنه لا يوجد عنده أصل لما فقد واقترح علينا
أن نكتب في الموضوع.
أما الانتقاد على خطبة رفيق بك فلا أرى فيها شيئًا يهم انتقاده إلا قوله بصحة
الأخبار التي نقلها في تدوين الصحابة للحديث، وستعلم ما فيه. وأما الاستدراك فبابه
واسع حتى يمكن وضع مؤلف خاص في هذا الموضوع من فصوله كون تعلم
الكتابة لإخراج العرب من حجر الأمية الغالبة عليهم إلى بحبوحة العلم من مقاصد
الإسلام وبعثه النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) الآية، فالكتاب مصدر كتب (كالكتابة) ولكنه
في الصدر الأول أكثر مصادر (كتب) استعمالاً كما ترى في المأثور، وهذا التفسير
هو المختار جرينا عليه وبينا ترجيحه في التفسير عن الأستاذ الإمام. ويدخل في ذلك
ما ورد في تعليم الكتابة في الأخبار النبوية وآثار الصحابة وذلك كثير.
ومن فصوله مسألة كون أهل البدو أحسن حفظًا من أهل الحضر لاسيما العرب
منهم وقد انتقد اليونانيون وأنكروا تعلم الكتابة لأول عهدها بحجة أن الناس يتكلون
على ما يكتب فيضعف حفظهم وذاكرتهم، ومنها بحث الاحتجاج بالكتب وشروط
الوثوق بها عند المحدثين، ولابن الصلاح فى ذلك كلام حسن.
وقد كتب السيد عبد الحميد أفندي الزهري مقالة موضوعها الكتابة والتدوين
والحفظ عند العرب نشرها في الجريدة (عدد ١٢٥ الصادر في ٢٤ جمادى ٢٥) بَيَّن
فيها أن من يختبر عرب البادية اليوم وما لهم من قوة الحفظ وكثرة المحفوظ
لقصائدهم ووقائعهم وخطبهم وأنسابهم لا يعجب مما نقل في حفظ سلفهم. وذكر من
كتابتهم في الجاهلية المعلقات وقصص أبطال الفرس كرستم، واستشهد على كتابتهم
المعاهدات والمحالفات بقول الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته:
واذكروا حلف ذي المجاز ... وما قدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور أو تعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء
فالمهارق جمع مهرق: وهي الصحائف، وقيل المهرق ثوب حرير أبيض
يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه. وذكر أيضا منها قول هشام بن الكلبي: كنت
أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي
منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة.
وذكر من شواهد تدوينهم بعد الإسلام مسألة أمر عمر بن عبد العزيز بكتابة
السنن نقلاً عن ابن عبد البر، وما جاء في (أعلام الموقعين) عن سفيان ابن
عيينة عن إدريس بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسل عمر بن
الخطاب التي كان يكتب بها إلي أبي موسى الأشعري وكان أبو موسى قد أوصى إلى
ابن أبي بردة فأخرج إليه كتبًا منها قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري (أما بعد
فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة) ... إلخ.
أقول: لعل أول من كتب الحديث وغيره من التابعين في القرن الأول،
وجعل ما كتبه مصنفًا مجموعًا خالد بن معدان الحمصي روي عنه أنه لقي ٧٠ صحابيًّا
قال في تذكرة الحفاظ: وقال بحير: ما رأيت أحدا ألزم للعلم منه وكان علمه في
مصحف له أزرار وعرى، المراد بالمصحف الصحف المكتوبة المجموعة ولا
يوجد في العربية لفظ كهذا يدل على هذا المعنى بالنص، فإن لفظ (الكتاب)
المستعمل للدلالة على الصحف المجموعة في نحو جلد يطلق على الورقة أو
الصحيفة الواحدة ولذلك اتفقوا على تسمية القرآن المكتوب عند جمعه بالمصحف،
وكان قبل ذلك يسمي كتابًا ولا يسمى مصحفًا، فخالد بن معدان جمع علمه في
مصنف واحد جعل له وقاية لها أزرار وعرى تمسكها لئلا يقع شيء من تلك الصحف
وكان ذلك في القرن الأول طبعًا؛ فإنه مات سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة.
ولكن المشهور أن أول من كتب الحديث مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن
شهاب الزهري القرشي، ولعل ذلك سبب أخذ أمراء بني أمية عنه.
قال أبو الزناد: كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه الألواح والصحف
يكتب كل ما سمع، يعني من الحديث وغيره. فقد روى أبو صالح عن الليث قال: ما
رأيت عالمًا قط أجمع من الزهري يحدث في الترغيب فنقول: لا يحسن إلا هذا وإن
حدث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حَدَّث عن القرآن
والسنة فكذلك. وقال عبد الرزاق: سمعت معمرًا يقول كنا نرى أنَّا قد أكثرنا عن
الزهري حتى قتل الوليد بن يزيد؛ فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه
من علم الزهري. اهـ من تذكرة الحفاظ.
وجاء في ترجمته فيها أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يملي على
بعض ولده شيئًا فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم لقي هشامًا بعد شهرًا أو نحوه فقال
الزهري: إن ذلك الكتاب ضاع فدعا بكتاب فأملاها عليه ثم قابل بالكتاب الأول فما
غادر حرفًا واحدًا.
(قال) ومن حفظ الزهري أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة.
وفي هذا دليل على أن كتابة الحديث كانت شائعة في عصره، أي أواخر القرن
الأول وأوائل الثاني، فقد ولد الزهري سنة خمسين للهجرة وتوفي سنة أربع وعشرين
ومائة، ولا تنس ما كتبناه آنفا عن خالد بن معدان.
وقال الحافظ في ترجمة عمرو بن دينار: إنه كان يُحدِّث على المعنى ويقول: لا
أتحرج على مَنْ يكتب عني. وهو قد ولد ست وأربعين.
ومن أراد تتبع تراجمهم في كتب المحدثين يجد من هذه المسائل شيئًا كثيرًا وما
رأينا أحدًا وفَّى البحث في تدوين الصحابة والتابعين للحديث حقه، مثل الحافظ أبي
عمر يوسف بن عبد البر، وإننا ننقل ما كتبه في ذلك برمته ثم نستدرك عليه ما رواه
غيره أو شايعه على ما رواه ثم نُبَيِّن رأينا فيه.
قال في جامع بيان العلم (نقلا عن مختصره) .

باب ذكر كراهية كتاب العلم
وتخليده في الصحف
عن أبي سعيد الخدري [١] رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن فمن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه)
ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانًا أن يكتبه فقال له
زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه، فمحاه.
وعن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًّا يخطب يقول: أعزم على كل من عنده
كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب
ربهم. وعن أبي نضرة [٢] قال: قلت لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع
منك؟ قال: تريدون أن تجعلوها مصاحف! إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان
يحدثنا فنحفظ فاحفظوا كما كنا نحفظ. وعن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يحدث أن
عمر بن الخطاب [٣] أراد أن يكتب هذه الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع
كتاب الله. قال مالك لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه. قال:
ولم يكن القوم يكتبون؛ إنما كانوا يحفظون فمن كتب منهم الشيء فإنما كان يكتبه
ليحفظه؛ فإذا حفظه محاه. وعن عروة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن
فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله
فيها شهرًا ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له. فقال: إنني كنت أريد أن أكتب السنن
وأنني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنني والله لا
أشوب (وفي نسخة لا أنسي) كتاب الله بشيء أبدًا. وعن ابن عباس أنه قال: إنَّا لا
نكتب العلم ولا نكتبه، وعن الشعبي [٤] أن مروان دعا زيد بن ثابت وقومًا يكتبون
وهو لا يدري فأعلموه، فقال: أتدرون لعل كل شيء حدثكم به ليس كما حدثكم. وعن
ابن سيرين [٥] قال: إنما ضلت بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن آبائهم.
وعن الأسود بن هلال [٦] قال: (أتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث
فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت، ثم قال: أذكر الله رجلاً يعلمها عند
أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها؛ بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم
حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) . وعن الضحاك قال:
(يأتي على الناس زمان يكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا ينظر فيه) .
وعن ابن عباس أنه كان ينهى عن كتابة العلم، وقال: إنما ضل من قبلكم بالكتب،
وعن أيوب قال: سمعت سعيد بن جبير [٧] قال: (كنا نختلف في أشياء فنكتبها في
كتاب ثم أتيت بها ابن عمر أسأله عنها خفيًّا فلو علم بها لكانت الفيصل بيني وبينه،
وعن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة صحيفة فانطلق
معي إلى ابن مسعود فيها وقد زالت الشمس أو كادت تزول، فجلسنا بالباب ثم قال
للجارية: انظري مَنْ بالباب، فقالت: علقمة والأسود، فقال: ائذني لهما؛ فدخلنا
فقال: كأنكما قد أطلتما الجلوس، قلنا: أجل، قال: فما منعكما أن تستأذنا، قالا:
خشينا أن تكون نائمًا، قال: ما أحب أن تظناني هذا إن هذه ساعة كنا نقيسها
بصلاة الليل، فقلنا هذه صحيفة فيها حديث حسن، قال: هاتها يا جارية هاتي
الطست، واسكبي فيه ماء؛ فجعل يمحوها بيده ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ} (يوسف: ٣) قلنا: انظر فيها فإن فيها حديثًا عجيبًا. فجعل يمحوها
ويقول: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره، قال أبو عبيد (
أحد رواة هذه القصة) يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد
الله رحمه الله النظر فيها.
وقال مسروق لعلقمة: اكتب لي النظائر، قال: أما علمت أن الكتاب يكره،
قال: بلى، أريد أن أحفظها ثم أحرقها. وعن القاسم أنه كان لا يكتب الحديث. وعن
ابن شبرمة [٨] قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوادًا في بياض قط ولا استعدت
حديثًا من إنسان مرتين. وعن إسحاق بن إسماعيل الطالقاني [٩] قال: قلت لجرير-
يعني ابن عبد الحميد - أكان منصور - يعني ابن المعتمر - يكره كتاب الحديث،
قال: نعم منصور ومنيرة والأعمش كانوا يكرهون كتاب الحديث، وعن الوليد
بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي يقول: كان هذا العلم شيئًا شريفًا؛ إذ كان من أفواه
الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه فلما صار في الكتب ذهب نوره، وصار إلى غير أهله
وعن الفضيل بن عمرو [١٠] قال: قلت لإبراهيم: إني آتيك وقد جمعت المسائل؛
فإذا رأيتك كأنما تختلس مني، وأنت تكره الكتاب، قال: لا عليك فإنه قلما طلب
إنسان علمًا إلا آتاه الله منه ما يكفيه، وقلما كتب رجل كتابًا إلا إتكل عليه.
قال أبو عمر: من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين: أحدهما: أن لا يتخذ
مع القرآن كتاب يضاهي به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ فيقل
الحفظ. كما قال الخليل [١١] :
ليس بعلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
وأنشدني بعض شيوخي لمحمد بن بشير بإسناد لا أحفظه:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل فن ... من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا ... فجمعك للكتب لا ينفع
أأحضر بالجهل في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
وقال أبو العتاهية [١٢] :
من مُنِع الحفظ وعى ... من ضيع العلم وهِم
وقال أعرابي: حرف في تامورك خير من عشر في كتبك. وقال أبو عمر:
التامور: علقة القلب.
وسمع يونس بن حبيب رجلاً ينشد:
استودع العلم قرطاسًا فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس
فقال يونس: قاتله الله ما أشد صيانته للعلم وصيانته للحفظ، إن عملك من
روحك، وإن مالك من بدنك، فصن علمك صيانتك روحك، وصن مالك صيانتك
بدنك.
قال أبو عمر: من ذكرنا قوله في هذا الباب فإنما ذهب في ذلك مذهب العرب
لأنهم كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك. والذين كرهوا الكتاب كابن
عباس والشعبي وابن شهاب والنخعي وقتادة ومن ذهب مذهبهم وجبل جبلتهم
كانوا قد طبعوا على الحفظ فكان أحدهم يجتزي بالسمعة، ألا ترى ما جاء عن ابن
شهاب أنه كان يقول: (إني لأمر بالبقيع فأسد آذاني مخافة أن يدخل فيها شيء من
الخنا، فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته) وجاء عن الشعبي نحوه وهؤلاء
كلهم عرب وقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) ،
وهذا مشهور أن العرب قد خُصَّتْ بالحفظ، كان بعضهم يحفظ أشعار بعض في
سمعة واحدة، وقد جاء عن ابن عباس أنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة (أمن
آل نعم أنت غاد فمبكر) في سمعة واحدة فيما ذكروا، وليس أحد اليوم على هذا
ولولا الكتاب لضاع كثير من العلم، وقد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في
كتاب العلم ورخص فيه جماعة من العلماء وحمدوا ذلك، ونحن ذاكروه بعد هذا
بعون الله إن شاء الله. وقد دخل على إبراهيم النخعي [١٣] شيء في حفظه لتركه
الكتاب، وعن منصور قال: كان إبراهيم يحذف الحديث فقلت له: إن سالم بن الجعد
يتم الحديث، قال إن سالمًا كتب، وأنا لم أكتب (قال أبو عمر) فهذا النخعي مع
كراهته لكتاب الحديث قد أقر بفضل الكتاب.
باب الرخصة
في كتاب العلم
عن أبي هريرة قال: (لما فتحت مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكر الخطبة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقام رجل من اليمن يقال
له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله اكتبوا لي. فقال رسول الله صلى عليه وسلم:
(اكتبوا لأبي شاه) يعني: الخطبة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله أكتب كل ما
أسمع منك قال: (نعم) . قلت: في الرضا والغضب قال: (نعم فإني لا أقول في
ذلك كله إلا حقًا) ، وعن همام بن منبه [١٤] أنه سمع أبا هريرة يقول: (لم يكن أحد
من أصحاب محمد أكثر حديثًا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كتب ولم
أكتب) .
وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب فأمسكت عن الكتاب
فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومى بإصبعه إلى فِيهِ وقال:
(اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) .
وعن مطرف بن طريف [١٥] قال: سمعت الشعبي يقول أخبرني أبو جحيفة
قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء
سوى القرآن؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يُعطى الله عبدًا فهمًا في
كتابه، وما في هذه الصحيفة قلت وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير
وأن لا يقتل مسلم بكافر. وقد روي عن علي رضي الله عنه في هذه الصحيفة
وجهان: أحدهما تحريم المدينة، ولعن من انتسب إلى غير مواليه في حديث فيه
طول وفيه (المسلمون تنكافأ دماؤهم) الحديث رواه عن علي يزيد التميمي
وحلاس.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض
والسنن لعمرو بن حزم وغيره وعن أبي جعفر بن علي قال: وجد في قائم سيف
رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها: (ملعون من أضل أعمى عن
سبيل، ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير مواليه، أو قال
ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه) .
وعن عبد الله بن عمرو قال: ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان: الصادقة
والوهط [١٦] فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما
الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها. وعن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قيدوا العلم بالكتاب) وعن عبد الملك بن سفيان
عن عمه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: (قيدوا العلم بالكتاب) وعن معن قال:
أخرج إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا وحلف لي أنه خط
أبيه بيده، وعن أبي كبران قال سمعت الضحاك يقول: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو في
حائط. وعن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث
فيكتبه في واسطة الرحل فإذا نزل نسخه. وعن أبي قلابة قال: الكتاب أحب إلينا من
النسيان، وعن أبي المليج قال: يعيبون علينا الكتاب وقد قال الله تعالى {قَالَ عِلْمُهَا
عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} (طه: ٥٢) .
وعن عطاء عن عبد الله بن عمرو قلت يا رسول الله أقيد العلم قال (قيد العلم)
قال عطاء: قلت وما تقييد العلم؟ قال الكتاب. وعن عبد العزيز بن محمد
الداوردي [١٧] قال أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب. وعن عبد الرحمن بن أبي
الزناد عن أبيه قال كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع
فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس. وعن سوارة بن حيان قال: سمعت
معاوية بن قرة يقول: من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالمًا. وعن محمد بن علي
قال: سمعت خالد بن خداش البغدادي [١٨] قال: ودعت مالك بن أنس، فقلت: يا أبا
عبد الله أوصني، قال: عليك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم،
وكتابة العلم من عند أهله. وعن الحسن: أنه كان لا يرى بكتاب العلم بأسًا وقد
كان أملى التفسير فكتب.
وعن الأعمش قال: قال الحسن: إن لنا كتبا نتعاهدها. وقال الخليل بن
أحمد: اجعل ما تكتب بيت مال وما في صدرك للنفقة. وعن هشام بن عروة عن
أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة [١٩] وكان يقول وددت لو أن عندي كتبي بأهلي
ومالي. وعن سليمان بن موسى قال: يجلس إلى العالم ثلاثة رجل يأخذ كل ما
سمع، فذلك حاطب ليل، ورجل لا يكتب [٢٠] ويسمع فذلك يقال له جليس العالم،
ورجل ينتقي وهو خيرهم وهذا هو العالم. وعن إسحاق بن منصور قال: قلت
لأحمد بن حنبل من كره كتابة العلم؟ قال كرهه قوم ورخص فيه آخرون، قلت له:
لو لم يكتب العلم لذهب، قال: نعم لولا كتابة العلم أي شيء كنا.
قال إسحاق: وسألت إسحاق بن راهويه فقال كما قال أحمد سواء. وعن حاتم
الفاخر وكان ثقة قال: سمعت سفيان الثوري يقول: (إني أحب أن أكتب الحديث
على ثلاثة أوجه: حديث رجل أكتبه أريد أن أتخذه دينًا، وحديث رجل أكتبه فأوقفه
لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به) . وقال
الأوزاعي: (تعلم ما لا يؤخذ به كما تتعلم ما يؤخذ به) . وعن سعد بن إبراهيم قال:
أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل
أرض له عليها سلطان دفترا. وعن أبي زرعة قال: سمعت أحمد بن حنبل ويحيى
ابن معين يقولان: كل من لا يكتب العلم لا يؤمن عليه الغلط. وعن الزهري
قال: (كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه
أحدًا من المسلمين) ، وذكر المبرد قال: قال الخليل بن أحمد: (ما سمعت شيئًا إلا
كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته إلا نفعني) اهـ كلام ابن عبد البر.
استدراك على ابن عبد البر
في الإذن بكتابة العلم والمنع منها
ومن خرج أحاديثه
روى ابن النجار في تاريخه من حديث حذيفة (اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء
وإنما ذهاب العلم بموت العلماء) والحديث لا يصح وهو عام في كل علم.
روى الديلمي من حديث علي (اكتبوا هذا العلم فإنكم تنتفعون به إما في دنياكم
وإما في آخرتكم وإن العلم لا يضع صاحبه) وفي سنده محمد بن علي بن الأشعث
كذبوه، فالحديث موضوع.
وروى الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر من حديث علي (إذا كتبتم الحديث
عني فاكتبوه بإسناده فإن يك حقًّا كنتم شركاء في الأجر، وإن يك باطلاً كان وزره
عليه) وهو ينادي على نفسه بالوضع، وإن واضعه جاهل بالعربية الصحيحة بل
الفصيحة؛ فإن الإسناد من اصطلاح المحدثين والكتابة عنه صلى الله عليه وسلم
تنافي الإسناد.
وروي ابن عساكر في تاريخه من حديث أبي بكر (من كتب عني علمًا أو
حديثًا لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم أو الحديث) وهو ضعيف وفيه عطف
الحديث على العلم وذلك يقتضي المغايرة بينهما، ولو بالعموم والخصوص.
وروى الحكيم الترمذي والطبراني وسمويه والخطيب في تقييد العلم عن
رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نسمع منك أشياء فنكتبها قال (اكتبوا
ولا حرج) وهو حديث ضعيف كما علم من إيراد السيوطي له في الجامع الكبير.
وروى الحكيم الترمذي وسمويه من حديث أنس (قيدوا العلم بالكتاب) وهو
ضعيف أيضًا. أما سنده عند ابن عبد البر ففيه عبد الحميد بن سليمان عن عبد الله
ابن المثنى، وقد أورده الذهبي في الميزان. وقال: عبد الحميد وأخوه فليح ضعيفان.
وذكر قبل ذلك تضعيف غير واحد لعبد الحميد. والحديث مروي عن عبد الله بن
عمرو كما تقدم عن ابن عبد البر.
ومن الآثار ما رواه ابن عساكر عن الحسن بن جابر قال: سألت أبا أمامة عن
كتاب العلم فلم ير به بأسا. وهو عام في كل علم، وسنده ضعيف. وروى الحاكم
والدارمي عن عمر أنه قال (قيدوا العلم بالكتاب) وهو عام، وأما رأيه في الحديث
خاصة أو السنن وهي أهم من الأحاديث فقد تقدم فيما رواه عنه ابن عبد البر أنه ما
كان يرى ذلك. وروى عنه ابن سعد مثل هذا أيضًا.
ومن الاستدراك عليه في النهي عن كتابة الحديث خاصة ما جاء في كنز
العمال نقلا عن الجامع الكبير للسيوطي وهو:
(قال الحافظ عماد الدين بن كثير في مسند الصديق قال الحاكم أبو عبد الله
النيسابوري: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو حدثنا موسى بن حماد حدثنا
الفضل بن غسان حدثنا علي بن صالح حدثنا موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن
عن إبراهيم بن عمرو بن عبيد الله التيمي حدثنا القاسم بن محمد قال: قالت عائشة
جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث فبات
ليلة يتقلب كثيرًا، قالت: فغمني، فقلت تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح
قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فأحرقها وقال: (خشيت
أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن حدثني
فأكون قد تقلدت ذلك) . وقد رواه القاضي أبو أمية الأحوص بن المفضل بن غسان
الغلابي عن أبيه عن علي بن صالح عن أبي موسى بن عبد الله بن الحسن بن علي
ابن أبي طالب وعن إبراهيم بن عمر بن عبد الله التيمي حدثني القاسم بن محمد أو
ابنه عبد الرحمن بن القاسم - شك موسى فيهما - قال: قالت عائشة فذكره وزاد
بعد قوله فأكون قد تقلدت ذلك: (ويكون قد بقي حديث لم أجده فيقال لو كان قاله
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر إني حدثتكم الحديث ولا
أدري لعلي لم أسمعه حرفًا حرفًا) قال ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًّا
وعلي بن صالح لا يعرف، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر
من هذا المقدار بألوف ولعله إنما اتفق له جمع تلك فقط ثم رأى ما رأى لما ذكر.
قال السيوطي: (قلت ولعله جمع ما فاته سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم
وحدثه به عنه بعض الصحابة كحديث الجدة ونحوه، والظاهر أن ذلك لا يزيد على
هذا المقدار لأنه كان أحفظ الصحابة وعنده من الأحاديث ما لم يكن عند أحد منهم
كحديث (ما دفن نبي إلا حيث يقبض) ثم خشي أن يكون الذي حدثه وهم فِكْره
تقلده ذلك وذلك صريح في كلامه.
التعادل والترجيح بين
روايات المنع وروايات الرخصة
الأحاديث في باب الرخصة بكتابة الحديث أو العلم مروية عن نفر من
الصحابة:
(١) حديث أبي هريرة (اكتبوا لأبي شاة) وهو في الصحيحين وموضوعه
خاص، وروى عنه البخاري قوله: إن عبد الله بن عمرو كان يكتب وأنه هو لم
يكن يكتب.
وله حديث عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لرجل سيئ
الحفظ بأن يستعين بيمينه.
(٢) حديث أنس (قيدوا العلم بالكتاب) تقدم أنه ضعيف.
(٣) حديث أبي بكر (من كتب عني علمًا أو حديثًا) تقدم أنه ضعيف
أيضًا.
(٤) حديث رافع بن خديج (اكتبوا ولا حرج) تقدم أنه ضعيف أيضًا.
(٥) حديث حذيفة (اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء) ضعيف أيضًا كما
تقدم بل يشم منه رائحة الوضع.
(٦) حديث علي في الصحيفة وهو صحيح رواه أحمد والبخاري والثلاثة
وموضوعه خاص ومنسوب إلى الوحي وحديثه (إذا كتبتم عني الحديث) إلخ
تقدم ما فيه وكذلك حديثه (اكتبوا هذا العلم) .. إلخ
(٧) كتاب الصدقات والديات والفرائض لعمرو بن حزم، رواه أبو داود
والنسائي وابن حبان والدارمي وموضوعه خاص. وإنما كتب له ذلك ليحكم به
إذ ولي عمل نجران.
(٨) حديث عبد الله بن عمرو هو أكثر ما ورد في الباب وقد جاء
بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم الآن عند أحمد وأبي داود والحاكم؛
فالطريق الأول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أي عبد الله بن عمرو
ابن العاص فهو جده. وهذا الطريق فيه مقال مشهور للمحدثين لم يمنع بعض
المتأخرين من الاحتجاج به وهو تساهل منهم. وأما المتقدمون فقد قال في
الميزان: قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل الحديث إذا شاءوا
احتجوا بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإذا شاءوا تركوه. يعني لترددهم
في شأنه، وقال عبد الملك الميموني سمعت أحمد بن حنبل يقول: (عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده له أشياء مناكير، وإنما نكتب حديثه لنعتبر به فأما أن
يكون حجة فلا) ، وقال أبو عبيد الآجري قيل لأبي داود: عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده حجة؟ قال: لا، ولا نصف حجة. وقال ابن أبي شيبة:
سألت ابن المديني عن عمرو بن شعيب فقال: ما روى عنه أيوب وابن جريج
فذلك كله صحيح، وما روى عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده فهو
ضعيف. فهذا قد ضعفه لأنه اعتمد على ما رآه مكتوبًا وهو لم يروه رواية.
والطريق الثاني عن عبد الله بن المؤمل عن ابن جريج عن عطاء عنه بلفظ
(قيدوا العلم) وعبد الله بن المؤمل قال أحمد: أحاديثه مناكير وقال النسائي
والدارقطني ضعيف. ولا حاجة إلى مراجعة طريق ابن عساكر فقد جزم السيوطي
بضعفها، أما ما رواه عنه ابن عبد البر من قوله (ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان)
إلخ ففي سنده ليث عن مجاهد. وليث هذا هو ابن أبي سليم ضعفه يحيى والنسائي
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال: ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ
رأيًا في أحد منه في ليث ومحمد بن إسحاق، وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه
فيهم. ذكره في الميزان وذكروا أنه اختلط في آخر عمره.
وأما ما ورد في المنع فأقواه حديث أبي سعيد الخدري المتقدم عن كتاب العلم
لابن عبد البر (لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه)
وهو في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد، وهو أصح ما ورد في باب النهي عن
كتابة الحديث والسُّنة. ولا يعارضه حديث (اكتبوا لأبي شاة) وما في معناه من
الأمر على تقدير صحته. ولا يقوم حجة على من يقول: إن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن كتابة حديثه لأنه لا يريد أن يكون دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن.
ولذلك وجوه:
أحدها: أن ما أمر بكتابته لأبي شاة - وهو خطبته ثاني يوم فتح مكة يحتمل
أن يكون خاصًّا.
ثانيها: أنه كان مما قال فيه (فليبلغ الشاهد الغائب) كخطبته يوم حجة
الوداع. فلما طلب أبو شاة أن يكتب له ما قاله فهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه
لا يتيسر له هذا التبليغ إلا إذا كتبه، ولعله كان سيئ الحفظ فأمر أن يكتب له كما
طلب.
ثالثها: أن حديث النهي عن الكتابة مقيد بإبقاء المكتوب وفيه الرخصة
الصريحة لمن يكتب مؤفتًا أن يمحوه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن عبد البر عن
زيد بن ثابت، وابن مسعود، وعلي، في محو المكتوب وما رواه من قول مالك:
(فمن كتب منهم الشيء فإنما كان يكتبه ليحفظه فإذا حفظه محاه) .
وهذا الوجه يصلح جوابًا عن حديث الإذن لعبد الله بن عمرو بالكتابة ويؤيده
قول عبد الله: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أريد حفظه) فصرح بأنه كان يكتب ليحفظ. وقد علمت ما قال أئمة الحديث في
رواية حفيده عن النسخة المكتوبة. ويصلح أيضًا جوابًا عن صحيفة علي وكتاب
عمرو بن حزم.
ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضًا يصح أن
يكون أحدهما ناسخًا للآخر لكان لنا أن نستدل على كون المنهي هو المتأخر بأمرين
أحدهما: استدلال من روي عنهم عن الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي
عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما عدم تدوين الصحابة
الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوه.
فعزيمة عليّ على من عنده كتاب أن يمحوه - وقول أبي سعيد الخدري
(تريدون أن تجعلوها مصاحف) وقول عمر بن الخطاب عند الفكر في كتابة
الأحاديث أو بعد الكتابة (لا كتاب مع كتاب الله) في الرواية الأولى - وقوله في
الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابها (والله إني لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا)
وقول ابن عباس (كنا نكتب العلم ولا نُكتبه) أي لا نأذن لأحد أن يكتبه عنا -
ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة وقوله الذي تقدم في ذلك - ومحو زيد بن
ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أن يوجد صحيفة أخرى في موضع
آخر - ولو بعيد - أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها. وقوله الذي تقدم في ذلك -
وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه لو كان يعلم بأنه يكتب عنه لكان ذلك فاصلاً
بينهما - ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاء بها عبد الرحمن بن الأسود
وعلقمة، وقوله عند ذلك (إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها
بغيره) كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما رواه غيره كإحراق أبي بكر
لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى التابعين وكون التابعين لم
يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء يؤيد ما ورد من أنهم كانوا يكتبون الشيء
لأجل حفظه ثم يمحونه.
وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث، بل
في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا
الأحاديث دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن. ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا
به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة
المعروفة للجمهور بجريان العمل بها، وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا
يكتفون في نشر الحديث بالرواية.
وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما
يخالف بعض تلك الأحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول
والثاني من اكتفاء الواحد منهم، كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن
قل، وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه قوي عندك
ذلك الترجيح.
بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام
الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به لم
يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب
المتبعة لا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة
للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منها مخالفًا لأصول الدين.
وقد أورد ابن القيم في (أعلام الموقعين) شواهد كثيرة جدًّا من رد
الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض
الحديث الواحد دون باقيه. وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا (فلتراجع في
ج١٤ و١٥ و ١٦ من مجلد المنار السادس) ، وسنورد في الجزء الآتي شيئًا مما
ورد في نهي الصحابة عن الرواية وفي عملهم بالحديث كيف كان، فقد أطلنا
الآن.