للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق

حق لمصر اليوم أن تتمثل بقول الشاعر:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
يحق لمصر ذلك وقد رزئت بفقد الرجل العظيم حسن باشا عبد الرازق، ولم
يمض على فقدها لصديقه الكريم حسن باشا عاصم إلا شهر ونصف، وعلى فقدها
لصديقهما الأستاذ الإمام إلا سنتان وأشهر.
أولئك هم الرجال العاقلون العالمون العاملون المخلصون في مصالح ومواطن
لا خلف لهم فيها تتعزى البلاد بأداء ما كانوا يؤدون كما كانوا يؤدون. ولا نكفر
نعمة الله على البلاد بمن بقي من أصدقائهم العاملين الصادقين الذي نجيل أبصارنا
فلا نرى للواحد منهم كفؤًا ولا ندًّا يضارعه في عمله أو يفي غناءه فيه، بل يجب أن
نشكر له تعالى هذه النعمة، مع الصبر على ما أصابنا من المصيبة، عسى أن
يبارك لنا في أعمارهم، وينفعنا بأعمالهم، فإن الصبر مجلبة الرحمة، والشكر
مدعاة المزيد، ولكن (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) كما ورد في الحديث
الشريف.
ليس المنار شاعرًا يرثي ولا خطيبًا يؤبن، ولا مؤرخًا يدون، وإنما هو واعظ
ومذكر، يستخرج العبر من حيث يجدها ويسوقها إلى من غفل عنها أو جهلها، ولا
عبرة أنفع بعد هداية الله من التذكير بفضل العاملين الغابرين، على الوجه الذي يزيد
الناس معرفة بفضل العاملين الحاضرين، وينهض بهمم المستعدين للتأسي بأولئك
ونصر هؤلاء.
إنما كان حسن باشا عبد الرازق رجلاً - والرجال قليل - باستعداده الفطري
ونشأته الدينية. فأما الاستعداد فهو الأصل في نبوغ كل رجل في الشرق حتى اليوم
إلا ما عساه يكون في اليابان من حسن التعليم والتربية النظامية التي تنهض
بضعيف الاستعداد حتى يبذ من هو أعلى منه استعدادا إذا لم يصادف هذا من يربيه كتربيته.
نشأ من فقدنا اليوم نشأة دينية حتى أن الحكام المستبدين عجزوا عن حمله على
السكر ونحوه وهو في ريعان شبابه وغضاضة إهابة، وقد كان مرة مع إسماعيل باشا
المفتش وأعوانه فأرادوه على الشرب معهم فتمنع، فألحوا فاستعصم، فأعطوه كأسا
من الجعة (البيرة) باسم (أفندينا إسماعيل باشا) وحلفوا عليه به ليشربن، فأصر
على التمنع فاستكبروا ذلك منه وطفقوا يرجعون إليه القول ويسر إليه بعضهم ما يراه
وراء هذا التمنع من عاقبة إهانة الاسم الكريم (اسم الخديوي) فسنحت له حيلة
للتخلص، فأخذ الكأس فأدناها من شفتيه فألقاها متقززا مكفهرا وهو يتفل ويقول:
قطعت البيرة وشاربوها! ! كيف تشربون هذا الشيء المر البشع الطعم وكيف
تطيقونه؟ فقابلوا ذلك بالضحك والسرور، ولم يعودوا إلى عرضه عليه.
مثل هذه الواقعة يعدها بعض النابتة المتفرنجة خشونة وحشية (وقلة ذوق
أيضا) ولكن من أوتي نصيبا من الحكمة يعدها آية النبوغ الكبرى، لا لأن شرب
كأس الجعة يهدم الدين فحفظ الرجل دينه بالامتناع عنه، بل بدلالتها على قوة الإرادة
وعدم المبالاة بلوم اللائمين في العمل بما يعتقد وإن كانوا كبارا. فهذه هي دعامة
الفضائل وأصل الكمالات التي يكون بها الرجال رجالا. ولولا هذه المزية لما كان
حسن باشا عبد الرازق ذلك الرجل الذي أحسن القول فيه أصحاب الجرائد التي
تناهض حزبه السياسي الوطني وعدوه من أفراد الأمة العاملين الذي يقل نظيرهم،
وما يقولونه هم وغيرهم من العارفين بأقدار الرجال بألسنتهم أبلغ مما كتب وأكبر.
بموت هذا الرجل تكررت العبر التي ترشد الأمة والنابتة الجديدة منها خاصة
إلى أن الشرف الحقيقي والمجد الصحيح لا يكونان للإنسان إلا بأخلاقه وصفاته
النفسية، لا بماله ونَشَبه، ولا بعشيرته ونسبه، ولا بأوسمته ورتبه، فقد مات في هذه
السنين الثلاث الأخيرة غير واحد من أكابر الأمراء والعلماء والأغنياء، ولم تكتب
الجرائد في أحد منهم ولا قال الناس فيهم مثل ما كتب وقيل في تأبين الأستاذ الإمام ثم
صديقه حسن باشا عاصم ثم صديقهما حسن باشا عبد الرازق. على أنه كان لكل واحد
من هؤلاء حالة سياسية تقضي باحتراس بعض الجرائد وعدم إرخائها العنان للقلم في
تأبينهم مرضاة أو مراعاة لمن هم في جانب عنهم. فوصف كل واحد منهم بما وصفته
تلك الجرائد به لا يمكن أن يعد من قبيل المبالغة، بل كلنا نعلم أن ما علم من فضلهم
أكثر مما قيل ومما كتب.
خدم حسن باشا عبد الرازق أمته في حسن سيرته في قومه وفي مجلس الشورى
وفي تربية أولاده النجباء. وسنبين ذلك في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))