للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي


تقويم الأفكار
لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي
(٣)
(تابع لما قبله)

ومما يزعزع سياسة الملك الداخلية ويسبب تقويض أركان الدولة: كثرة
الأجناس واختلاف الأديان، ولهذا كلما كانت رعية الدولة مؤلفة من أجناس متعددة
كلما صعبت قيادتها، وكانت أقرب إلى الهياج من السكينة، وإلى القلق من الراحة،
فإن اختلاف الأجناس والأديان مما يؤدي إلى الاختلاف في الطباع والعادات، ومتى
كانت هذه متغايرة والأخلاق متباينة جر ذلك إلى النزاع في المعاملة والتنافس في
المصلحة، ثم إن أبناء الجنس الواحد متى وجدوا بين أجناس أخرى ينبت فيهم نوع
من العصبية والتآلف يحملهم على الثورة والخروج عن الطاعة لأقل سبب وأوهى
حجة، ولهذا كانت سياسة الدولة العلية في أمورها الداخلية من أصعب السياسات؛
لأن رعيتها مختلفة الأجناس والأديان، فقد كانت من وقت غير بعيد صاحبة السيادة
على الصرب وبوسنة والجبل الأسود واليونان والبلغار وقبرص، وقد أصبحت هذه
البلاد اليوم في معزل عن حكمها وسيادتها، فأكبر عامل ترجع إليه هذه الحركات
هو الاختلاف الذي بينته.
فلابد للدولة المؤلفة من الأجناس المختلفة من أن تكون راقية أوجًا عاليًا من
المدنية، وأفرادها بالغين مبلغًا عظيمًا من الكمال والهداية، حتى يمكن أن يستتب
فيها نظام ويقوم لها حال؛ لأن ذلك الكمال يعرفهم أنهم باجتماعهم تحت راية واحدة
أصبحوا يدًا واحدة، يهمهم المحافظة على تلك الراية؛ لأنها هي التي تقيهم من
كوارث الدهر وعوادي الأيام، وأنهم متى كانوا يقطنون أرضًا واحدة فعلاقات
المعيشة تحوجهم إلى تحسين المعاملات فيما بينهم، ويجب عليهم احترام تلك العلاقة
والسعي في توطيدها حتى تدوم فيهم المعاشرة ويصل كل منهم إلى غايته ومنفعته،
وأرباب الأديان المختلفة لو رجعوا إلى أصول كل دين لرأوها متحدة، ولوجدوا أن
كل دين ما نزل إلا لأمر واحد، هو تهذيب النفس وتحسين علاقتها مع من يخالطها،
فكل دين قد أتى لهذه الغاية، حث على الفضائل وحض على التوفيق بين الناس،
ولو فهمت كل طائفة حقيقة دينها لما نشأ بين الناس تباغض، ولا حدث بين أهل
الأديان المختلفة تنافر، وتلك سنة الله تعالى في خلقه وهو القائل {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود: ١١٨) ولكن ضل أناس في كل دين واعتقدوا
أن الاختلاف في الدين يوجب النفرة من غير أهله ويأمر بالتباعد عمن خالفهم فيه،
ومن هذا تخالفت العلاقات بين أرباب الأديان المختلفة، وأصبح اختلاف الدين عَلمًا
على المعاداة والتنفير، وهذا كله سببه الجهل، وهو راجع إلى تقصير أنصار الدين
في كل أمة فإنهم هم الملزمون بتبيان ما يصلح العقائد ويقوم الأفكار فيما يختص
بالأديان.
ربما يعتقد القائمون بأمر الأديان أن انتشار التعليم يكشف الغطاء عن الحقيقة
ويمحو أثر هذا العدوان المنتشر بين أهل الأديان، ويركنون إلى ذلك ويقولون: لا
لوم علينا ولا تثريب. نعم، لا ننكر أن التعليم له بعض التأثير في تحسين العقائد
الساقطة ولكن الأشياء الراسخة التي تلقن إلى الطفل في طفوليته على أنها من الدين
تبقى لا يقاومها التعليم مهما كانت درجتها من السخافة، وكثيرًا ما نسمع بعلماء في
الهند يغوصون بحار العلوم، ويمضون أزمانهم في سبر غور الفنون، ومع ذلك
تراهم يعتقدون أن إلههم هو الشمس، والبعض يعتقد أنه النار، والآخر يعتقد أنه
القمر، وغير ذلك من عقائد التخريف والهذيان، فلو كان التعليم يحسن العقائد لكان
هؤلاء أولى بتركهم هذه الخزعبلات، فالواجب على أهل الدين من كل أمة أن
يقوموا ببث معالم الدين حق القيام ويزيلوا هذا العدوان.
هذا بعض ما تقوم به السياسية الداخلية في الدول، وتتوطد به دعامتها.
ولنتكلم الآن على السياسية الخارجية.
أما السياسة الخارجية: فهي ما تلزم الملك في علاقته مع الدول الأخرى،
ودعامة هذه السياسة هي: المحافظة على حقوق الملك وعدم التفريط في شيء يعود
ضرره عليه، ومن أقوى أساساتها: حب السلم وعدم تعريض الدول إلى حرب
تنشب بينها وبين دولة أخرى أعز منها قوة وأكبر انتظامًا، وقواعدها الحقيقية هي
معرفة الأمم الغابرة ودرس العلوم الجغرافية والتاريخية، والوقوف على الأحوال
الحاضرة التي تجري بين الدول والعلاقات التي تتجدد بينهم حتى إذا دعي القائم
بأمرها في الدولة إلى أمر يشترك فيه معهم كان بصيرًا في الإقدام عليه، ويلزمه أن
يكون مجربًا يقيس مجريات الحوادث بعضها على بعض، وهذه السياسة لا قانون
لها، وإنما قد يحصل بين الدول معاهدات تختص بأمور يجري العمل عليها، إلا
أنها لا تراعي حرمتها عند تحكم الأغراض السياسية والأهواء الذاتية، فالمدار
الحقيقي لها هو الأخذ بالحزم والروية، والنظر إلى العاقبة، هذا ما يمكن أن يقال في
معنى السياسة، وبعضهم يخلطها بالنفاق، فيجعله من ضروب السياسة، وهذا شطط
في سوء الأخلاق، وفساد الطباع، ونقص الآداب، نعوذ بالله من سوء النية ومن
خبث الذمة والرياء، ونسأله الهداية ونسترفده العناية.