للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين الأفغاني


كتابان سياسيان لحكيم الإسلام
السيد جمال الدين الأفغاني [*]

الأول أرسله من البصرة إلى رئيس المجتهدين في السامرة (سر من رأى)
وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
حقًّا أقول: إن هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمدية أينما وجدت،
وحيثما حلت، وضراعة تعرضها الأمة على نفوس زاكية تحققت
بها، وقامت بواجب شؤونها كيفما نشأت، وفي أي قطر نبغت، ألا وهم العلماء
فأحببت عرضه على الكل وإن كان عنوانه خاصًّا.
حبر الأمة، وبارقة أنوار الأئمة، دعامة عرش الدين، واللسان الناطق عن
الشرع المبين، جناب الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي صان الله به حوزة
الإسلام ورد كيد الزنادقة اللئام.
لقد خصك الله بالنيابة العظمى عن الحجة الكبرى واختارك من العصابة الحقة
وجعل بيدك أزمة سياسة الأمة بالشريعة الغراء وحراسة حقوقها بها وصيانة قلوبها
عن الزيع والارتياب فيها، وأحال إليك من بين الأنام (وأنت وارث الأنبياء) مهام
أمور تسعد بها الملة في دارها الدنيا وتحظى بالعقبى، ووضع لك أريكة الرئاسة
العامة على الأفئدة والنُّهى إقامة لدعامة العدل وإثارة لمحجة الهدى، وكتب عليك بما
أولاك من السيادة على خلقه حفظ الحوزة والذود عنها والشهادة دونها على سنن من
مضى.
وإن الأمة قاصيها ودانيها وحضرها وباديها ووضيعها وعاليها قد أذعنت لك
بهذه الرئاسة السامية الربانية جاثية على الركب خارة على الأذقان، تطمح نفوسها
إليك في كل حادثة تعروها، تطل بصائرها عليك في كل مصيبة تمسها، وهي
ترى أن خيرها وسعدها منك وأن فوزها ونجاتها بك وأن أمنها وأمانيها فيك.
فإذا لمح منك غض طرف، أو نيت [١] بجانبك لحظة، وأمهلتها وشأنها لمحة
ارتجفت أفئدتها، واختلت مشاعرها، وانتكثت عقائدها، وانهدمت دعائم إيمانها،
نعم لا برهان للعامة فيما دانوا إلا استقامة الخاصة فيما أمروا، فإن وهن هؤلاء في
فريضة، أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر لاعتور أولئك الظنون والأوهام،
ونكص كل على عقبية مارقًا من الدين القويم، حائدًا عن الصراط المستقيم.
وبعد هذا وذاك وذلك أقول: إن الأمة الإيرانية بما دهمها من عراقيل
الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين، وتطاول الأجانب على
حقوق المسلمين، ووجوم الحجة الحق (إياك أعني) عن القيام بنصرها وهو
حامل الأمانة، والمسؤول عنها يوم القيامة - قد طارت نفوسها شعاعا وطاشت
عقولها، وتاهت أفكارها ووقفت موقف الحيرة (وهي بين إنكار وإذعان وجحود
وإيقان) لا تهتدي سبيلا. وهامت في بيداء الهواجس في عتمة الوساوس، ضالة
عن رشدها لا تجد إليه دليلا، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها، وسد دونها أبواب
رجائها، وكادت أن تختار - إياسا منها - الضلالة على الهدى، وتعرض عن
محجة الحق وتتبع الهوى، وإن آحاد الأمة لا يزالون يتساءلون - شاخصة
أبصارهم - عن أسباب قضت على حجة الإسلام (إياك أعني) بالسبات والسكوت،
وحتم عليه أن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه، واضطره إلى ترك
الشريعة وأهلها، إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيفما يريدون، ويحكمون فيها بما
يشاؤون، حتى إن جماعة من الضعفاء زعموا أن قد كذبوا وظنوا في الحجة ظن
السوء، وحسبوا الأمر أحبولة الحاذق وأسطورة الملق؛ وذلك لأنها ترى (وهو
الواقع) أن لك الكلمة الجامعة، والحجة الساطعة، وأن أمرك في الكل نافذ، وليس
لحكمك في الأمة منابذ، وأنك لو أردت تجمع آحاد الأمة بكلمة منك (وهي كلمة
تنبثق من كيان الحق إلى صدور أهله) فترهب بها عدو الله وعدوهم، وتكف
عنهم شر الزنادقة، وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء، وتنشلهم من ضنك العيش
إلى ما هو أرغد وأهنى، فيصير الدين بأهله منيعًا حريزًا، والإسلام بحجته رفيع
المقام عزيزًا.
هذا هو الحق، أنك رأس العصابة الحقة [٢] ، وأنك الروح الساري في آحاد
الأمة فلا يقوم لهم قائمة إلا بك، ولا تجتمع كلمتهم إلا عليك، لو قمت بالحق
نهضوا جميعًا ولهم الكلمة العليا، ولو قعدت تثبطوا وصارت كلمتهم هي السفلى،
ولربما كان هذا السير بالدوران حينما غض حبر الأمة طرفه عن شؤونهم، وتركهم
هملاً بلا راع، وهمجًا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرًا فيما ارتابوا. خصوصًا لما
رأوا أن حجة الإسلام قد وَنَي فيما أطبقت الأمة خاصتها وعامتها على وجوبه،
وأجمعت على حظر الاتقاء فيه [٣] خشية لغوبه، ألا وهو حفظ حوزة الإسلام الذي
به بعد الصيت وحسن الذكر والشرف الدائم والسعادة التامة. ومن يكون أليق بهذه
وأحرى بها ممن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر، وجعله برهانًا لدينه وحجة
على البشر.
أيها الحبر الأعظم، إن الملك قد وهنت مريرته فساءت سيرته، وضعفت
مشاعره فقبحت سريرته، وعجز عن سياسة البلاد، وإدارة مصالح العباد، فجعل
زمام الأمور كليها وجزئيها بيد زنديق أثيم غشوم ثم بعد ذلك زنيم ... يسب الأنبياء
في المحاضر جهرًا ولا يذعن لشريعة الله أمرًا، ولا يرى لرؤساء الدين وقرًا،
يشتم العلماء، ويقذف الأتقياء، ويهين السادة الكرام، ويعامل الوعاظ معاملة اللئام،
وإنه بعد رجوعه من البلاد الإفرنجية قد خلع العذار، وتجاهر بشرب العقار،
وموالاة الكفار، ومعاداة الأبرار. هذه هي أفعاله الخاصة في نفسه، ثم إنه باع
الجزء الأعظم من البلاد الإيرانية ومنافعها لأعداء الدين: المعادن، والسبل
الموصلة إليها، والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد، والخانات التي تبنى على
جوانب تلك المسالك الشائعة التي تتشعب إلى جميع أرجاء المملكة وما يحيط بها من
البساتين والحقول. نهر الكارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما
يستتبعها من الجنائن والمروج ... والجادة من الأهواز إلى طهران، وما على
أطرافها من العمارات والفنادق والبساتين والحقول. والتنباك وما يتبعه من المراكز
ومحلات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين أنى وجد وحيث نبت،
وحكر العنب للخمور وما تستلزمه من الحوانيت، والمعامل والمصانع في جميع
أقطار البلاد، والصابون والشمع والسكر ولوازمها من المعامل والبنك، وما أدراك
ما البنك؟ هو إعطاء زمام الأهالي كلية بيد عدو الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه
إياهم وتسليمهم له بالرئاسة والسلطان.
ثم إن الخائن البليد أراد أن يرضي العامة بواهي برهانه فحبق قائلاً: إن هذه
معاهدات زمانية، ومقاولات وقتية، لا تطول مدتها أزيد من مائة سنة! ! يا لله من
هذا البرهان الذي سوله خرق الخائنين، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسية
حقًّا لسكوتها (لو سكتت) مرداب رشت وأنهر الطبرستان والجادة من أنزلى إلى
الخراسان وما يتعلق بها من الدور والفنادق والحقول. ولكن الدولة الروسية شمخت
بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهدية، وهي عازمة على استملاك الخراسان
والاستيلاء على الأذربيجان والمازندران إن لم تنحل هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه
المقاولات القاضية على تسليم المملكة تمامًا بيد ذاك العدو الألد، هذه هي النتيجة
الأولى لسياسة هذا الأخرق.
وبالجملة: إن هذا المجرم قد عرض أقطاع البلاد الإيرانية على الدولة ببيع
المزاد، وإنه ببيع ممالك الإسلام ودور محمد وآله عليهم الصلاة والسلام للأجانب،
ولكنه لخسة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلا بقيمة زهيدة ودراهم معدودة (نعم
هكذا يكون إذا امتزجت اللئامة والشره بالخيانة والسفه) .
وإنك أيها الحجة إن لم تقم بنصر هذه الأمة ولم تجمع كلمتها ولم تنزعها بقوة
الشرع من يد هذا الأثيم، لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب (يحكمون فيها
بما يشاؤون ويفعلون ما يريدون) وإذا فاتتك هذه الفرصة أيها الحبر ووقع الأمر
وأنت حي لما أبقيت ذكرًا جميلاً بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ. وأنت تعلم
أن علماء الإيران كافة والعامة بأجمعهم ينتظرون منك (وقد حرجت صدورهم
وضاقت قلوبهم) كلمة واحدة يرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها ... ومن خصه الله بقوة
كهذه كيف يسوغ له أن يفرط فيها ويتركها سدى.
ثم أقول للحجة قول خبير بصير أن الدولة العثمانية تتبجح بنهضتك على هذا
الأمر، وتساعدك عليه لأنها تعلم أن مداخلة الإفرنج في الأقطار الإيرانية
والاستيلاء عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة، وأن وزراء الإيران وأمراءها
كلهم يبتهجون بكلمة تنبض بها في هذا الشأن؛ لأنهم بأجمعهم يعانون هذه
المستحدثات طبعًا، ويسخطون من هذه المقاولات جبلة، ويجدون بنهضتك مجالاً
لإبطالها، وفرصة لكف شر الشره الذي رضي بها وقضى عليها.
ثم إن العلماء وإن كان كل صدع بالحق وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء
أعماله، ولكن ردعهم للزور، وزجرهم عن الخيانة، ونهرهم المجرمين ما قرت
كسلسلة المعدات قرارًا، ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد.
وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرئاسة وتساويهم في الرتب
غالبًا عند العامة لا ينجذب بعضهم إلى بعض ولا يصير أحد منهم لصقًا للآخر ولا
يقع بينهم تأثير الجذب وتأثر الانجذاب حتى تتحقق هيئة وحدانية وقوة جامعة يمكن
بها دفع الشر وصيانة الحوزة. كل يدور على محوره، وكل يردع الزور وهو في
مركزه، (هذا هو سبب الضعف عن المقاومة وهذا هو سبب قوة المنكر والبغي) .
وأنت وحدك أيها الحجة بما أوتيت من الدرجة السامية والمنزلة الرفيعة علة
فعالة في نفوسهم، وقوة جامعة لقلوبهم، وبك تنضم القوى المتفرقة الشاردة، وتلتئم
القدر المتشتتة الشاذة، وإن كلمة منك تأتي بوحدانية تامة يحق لها أن تدفع الشر
المحدق بالبلاد، وتحفظ حوزة الدين وتصون بيضة الإسلام، فالكل منك وبك
وإليك، وأنت المسؤول عن الكل عند الله وعند الناس.
ثم أقول: إن العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا
من ذاك العتل شدائد ما سبق منذ قرون لها مثيل، وتحملوا لصيانة بلاد المسلمين
عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كل هوان وكل صغار وكل فضيحة.
ولا شك أن حبر الأمة قد سمع ما فعله أدلاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم
الفاضل الصالح الواعظ الحاج الملا فيض الله الدربندي، وستسمع قريبا ما صنعه
الجفاة الطغاة بالعالم المجتهد التقي البار الحاج السيد علي أكبر الشيرازي، وستحيط
علمًا بما فعله بحماة الملة والأمة من قتل وضرب وكي وحبس. ومن جملتهم الشاب
الصالح الميرزا محمد رضا الكرماني الذي قتله ذلك المرتد في الحبس. والفاضل
الكامل البار حاج سياح، والفاضل الأديب الميرزا فروغي، والأريب النجيب
الميرزا محمد علي خان، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم.
وأما قصتي وما فعله ذلك الكنود الظلوم معي، فمما يفتت أكباد أهل الإيمان
ويقطع قلوب ذوي الإيقان، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعباد الأوثان، إن
ذاك اللئيم أمر بسحبي وأنا متحصن بحضرة عبد العظيم عليه السلام في شدة المرض
على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها في
الشناعة (هذا كله بعد النهب والغارة) {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:
١٥٦) .
ثم حملني زبانيته الأوغاد وأنا مريض على برذون مسلسلاً في فصل الشتاء
وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية، وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين
وصحبني جمع من الشرط ... ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعدني
إلى البصرة علمًا منه أنه لو تركني ونفسي لأتيتك أيها الحبر وبثثت لك شأنه وشأن
الأمة، وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من شر هذا الزنديق، ودعوتك أيها
الحجة على عون الدين، وحملتك على إغاثة المسلمين، وكان على يقين أني لو
اجتمعت بك لا يمكنه أن يبقى على دست وزارته المؤسسة على خراب البلاد
وهلاك العباد، وإعلاء كلمة الكفر.. . ومما زاده لؤمًا على لؤمه ودناءة على دناءته
أنه دفعًا لثورة العامة وتسكينًا لهياج الناس نسب تلك العصابة التي ساقتها غيرة
الدين وحمية الوطن إلى المدافعة عن حوزة الإسلام وحقوق الأهالي (بقدر الطاقة
والإمكان) إلى الطائفة البابية. كما أشاع بين الناس أولاً (قطع الله لسانه) أني
كنت غير مختون (واإسلاماه) ما هذا الضعف؟ ما هذا الوهن؟ كيف أمكن أن
صعلوكًا دنيء النسب، ووغدًا خسيس الحسب، قدر أن يبيع المسلمين وبلادهم بثمن
بخس دراهم معدودة، ويزدري بالعلماء ويهين السلالة المصطفوية، ويبهت السادة
المرتضوية البهتان العظيم. ولا يد قادرة تستأصل هذا الجذر الخبيث شفاء لغيظ
المؤمنين، وانتقامًا لآل سيد المرسلين، عليه وآله الصلاة والسلام.
ثم لما رأيت نفسي بعيدا عن تلك الحضرة العالية أمسكت عن بث الشكوى ...
ولما قدم العالم المجتهد القدوة الحاج السيد علي أكبر إلى البصرة طلب مني أن أكتب
إلى الحبر الأعظم كتابا أبث فيه هذه الغوائل والحوادث والكوارث، فبادرت إليه
امتثالا، وعلمت أن الله تعالى سيحدث بيدك أمرًا، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد الحسيني

يقول محمد رشيد:
إن هذا الكتاب نفخ روح الحماسة والغيرة في ذلك العالم العظيم صاحب
النفوذ الروحي في الأمة الفارسية، فأفتى بحرمة استعمال التنباك وزراعته وأذاع
العلماء فتواه بسرعة البرق، فخضعت لها أعناق الأمة حتى قيل: إن الشاه طلب في
صبيحة يوم بعد وصول الفتوى إلى طهران النارجيلة (الشيشة) فقيل له: إنه
ليس في القصر تنباك لأننا أتلفناه. فسأل عن السبب مبهوتًا فقيل له: فتوى حجة
الإسلام، فقال: لمَ لم تستأذنوني؟ قيل: إنها مسألة دينية لا حاجة فيها إلى
الاستئذان! ! واضطر بعد ذلك إلى ترضية الشركة الإنكليزية على أن تأخذ نصف
مليون جنيه وتبطل الامتياز. وبهذا أنقذ السيد جمال الدين بلاد إيران من احتلال
الإنكليز لها بإبطال مقدمته، وهو ذلك الامتياز أو الامتيازات التي قرأت شرحها في
كتابه فهكذا تكون الرجال وهكذا تكون العلماء.
هكذا هكذا وإلا فلا لا ... ليس كل الرجال تدعى رجالا
وقد ظهر الآن تأثير نفوذ طائفة العلماء في بلاد فارس أتم الظهور بما كان
من قلب نظام الحكومة وتحويلها عن الاستبداد المطلق إلى الشورى. ولعل تلك الحادثة
هي المنبه الأول للعلماء إلى أن الأمر في أيديهم. فالسيد جمال الدين على هذا هو
العامل الأول في هذا الانقلاب كما أنه سبب الانقلاب الذي حدث في مصر؛ فإن عمل
جمعيته كان أول سعي في مقاومة سلطة إسماعيل باشا وتقويضها، وفي نفخ روح
الإصلاح في توفيق باشا حتى واثق السيد وخاصته بأنه إذا آل الأمر إليه ليؤسسن
مجلس نواب وليعملن وليعملن.
ولكن تداخل الجند في السياسة أفسد العمل بعد ذلك، ولم يكن نجاح العلماء
بسعيه وإرشاده في إبطال تداخل الأجانب في بلاد فارس هو المنبه وحده لكون
سلطة العلماء والأمة فوق سلطة الملوك، بل كان تمام التنبيه قتل الشاه بعد ذلك وما
قيل من أن قاتله من أتباع السيد جمال الدين.
لم يكتف السيد بتحريض كبير المجتهدين وسائر العلماء على الشاه ووزيره
ولا بنجاحه في ندبهم له، بل ذهب من البصرة إلى أوربا وطفق يطعن فيهما بالقول
والكتابة، وقد أسس هناك مجلة شهرية تصدر باللغتين العربية والإنكليزية باسم
(ضياء الخافقين) أو سعى في تأسيسها وكان يكتب في كل عدد منها مقالة في أحوال
فارس بتوقيعه المعروف (السيد) أو (السيد الحسيني) وكان الكلام في مصر من أهم
مباحثها.
وقد فضح في مقالاته عن بلاد فارس حكومتها وشاهها شر فضيحة، حتى
جاءه سفير العجم في لندره يستميله ويسترضيه، ليكف عن الكلام والكتابة في ذلك
وعرض عليه مالاً كثيرًا، فقال له السيد: (لا أرضى إلا أن تزهق روح الشاه
ويبقر بطنه ويوضع في القبر) فكان هذا القول من الشبه على كون القاتل له من
أتباع السيد. وإننا نورد هنا بعض ما كتبه في (ضياء الخافقين) عن بلاد فارس
تخليدًا له في التاريخ.
وهاك ما كتبه في العدد الثاني تحريضًا للعلماء على خلع الشاه والقيام بشؤون
الأمة:
وهذا العدد صدر في أول مارس (آذار) سنة ١٨٩٢.
***
بلاد فارس
بسم الله الرحمن الرحيم
حملة القرآن، وحفظة الإيمان، ظهراء الدين المتين، ونصراء الشرع المبين
جنود الله الغالبة في العالم، وحججه الدامغة لضلال الأمم، جناب الحاج الميرزا
محمد حسن الشيرازي. وجناب الحاج الميرزا حبيب الله الرشتي، وجناب الحاج
الميرزا أبي القاسم الكربلائي، وجناب الحاج الميرزا جواد الأقا التبريزي، وجناب
الحاج السيد علي أكبر الشيرازي، وجناب الحاج الشيخ هادي النجم آبادي، وجناب
الميرزا حسن الأشتياني. وجناب السيد الطاهر الزكي صدر العلماء، وجناب الحاج
آقا محسن العراقي، وجناب الحاج الشيخ محمد تقي الأصفهاني، وجناب الحاج
الملا محمد تقي البجنوردي. وسائر هداة الأمة. ونواب الأئمة. من الأحبار العظام
والعلماء الكرام، أعز الله بهم الإسلام والمسلمين، وأرغم أنوف الزنادقة
المتجبرين. آمين
طالما تاقت الأمم الإفرنجية إلى الاستيلاء على البلاد الإيرانية حرصًا منها
وشرهًا. ولكم سولت لها أمانيها خدعًا تمكنها من الولوج في أرجائها وتمهد فيها
سلطانها على غرة من أهلها تحاشيًا من المقارعة التي تورث الضغائن فتبعث
النفوس على الثورة كلما سنحت لها الفرص وقضت بها الفترات. ولكنها علمت أن
بلوغ الأرب والعلماء في عز سلطانهم ضرب من المحال؛ لأن القلوب تهوي إليهم
طرًا، والناس جميعا طوع يدهم يأتمرون كيفما أمروا، ويقومون حيثما قاموا، لا
مرد لقضائهم، ولا دافع لحكمهم، وأنهم لا يزالون يدأبون في حفظ حوزة الإسلام لا
تأخذهم فيه غفلة، ولا تعروهم غرة، ولا تميد بهم شهوة، فخنست وهي تتربص
بهم الدوائر، وتترقب الحوادث، أيم الله إنها قد أصابت فيما رأت، لأن العامة لولا
العلماء وعظيم مكانتهم في النفوس لالتجأت بطيب النفس إلى الكفر واستظلت بلوائه
خلاصا من هذه الدول الذليلة الجائرة الخرقى التي قد عدمت القوة وفقدت النصفة،
وأنفت المجاملة فلا حازت منها شرفًا ولا صانت بها لنفسها حقا، ولا انشرح منها
صدرها فرحًا.
ولذا كلما ضعفت قوة العلماء في دولة من الدول الإسلامية وثبتْ عليها طائفة
من الإفرنج ومحت اسمها، وطمست رسمها.
إن سلاطين الهند وأمراء ما وراء النهر جدت في إذلال علماء الدين فعاد
الوبال عليهم سنة الله في خلقه.. وإن الأفغانيين ما صانوا بلادهم عن أطماع
الأجانب وما دفعوا هجمات الإنكليز مرة بعد أخرى إلا بقوة العلماء وقد كانت في
نصابها.
ولما تولى هذا الشاه (الحارية [٤] الطاغية) المُلك طفق يستلب حقوق العلماء
تدريجًا ويخفض شأنهم ويقلل نفوذ كلمتهم حبا بالاستبداد بباطل أوامره ونواهيه،
وحرصًا على توسيع دائرة ظلمه وجوره، فطرد جمعًا من البلاد بهوان، ونهنه
فرقه عن إقامة الشرع بصغار، وجلب طائفة من أوطانها إلى دار الجور والخرق
(طهران) وقهرها على الإقامة فيها بذل فخلا له الجو فقهر العباد وأباد البلاد وتقلب
في أطوار الفظائع وتجاهر بأنواع الشنائع وصرف في أهوائه الدنية وملاذه
البهيمية ما مصه من دماء الفقراء والمساكين عصرًا، ونزح من دموع الأرامل
والأيتام قهرًا (يا للإسلام) .
فإذًا اشتد جنونه بجميع فنونه. فاستوزر وغدًا خسيسًا ليس له دين يردعه ولا
عقل يزجره ولا شرف نفس يمنعه. وهذا المارق ما قعد على دسته إلا وقام بإبادة
الدين ومعاداة المسلمين، وساقته دناءة الأرومة ونذالة الجرثومة إلى بيع البلاد
الإسلامية بقيم زهيدة.
فحسبت الإفرنج أن الوقت قد حان لاستملاك الأقطار الإيرانية بلا كفاح ولا
قتال، وزعمت أن العلماء الذين كانوا يذبون عن حوزة الإسلام قد زالت شوكتهم ونفد
نفوذهم، فهرع كلٌّ فاغرًا فاه يبغي أن يسرط قطعة من تلك المملكة. فغار الحق
وغضب على الباطل فدمغه فخاب مسعاه وذل كل جبار عنيد.
أقول الحق إنكم يا أيها القادة قد عظمتم الإسلام بعزيمتكم وأعليتم كلمته وملأتم
القلوب من الرهبة والهيبة. وعلمت الأجانب طرا أن لكم سلطانا لا يقاوم وقوة لا
تدفع وكلمة لا ترد وأنكم سياج البلاد وبيدكم أزمة العباد ولكن قد عظم الخطب الآن
وجلت الرزية لأن الشياطين قد تألبت جبرا للكسر وحرصا على الوصول إلى الغاية
وأزمعت على إغراء ذاك المارق الأثيم على طرد العلماء كافة من البلاد. وأبانت له
أن إنفاذ الأوامر إنما هو بانقياد قوات الجيوش وأن القواد لا يعصون للعلماء أمرًا
ولا يرضون بهم شرًّا. فيجب لاستتباب الحكومة استبدالهم بقواد الإفرنج. وأرت
لذاك البليد الخائن رئاسة الشرطة وقيادة فوج [٥] القزاق نموذجا (كنت وأضرابه) .
وأن ذاك الزنديق وزملاءه في الإلحاد يجدُّون الآن في جلب قواد من الأجانب.
والشاه بجنونه المطبق قد استحسن هذا واهتز به طربا.
لعمرالله لقد تحالف الجنون والزندقة وتعاهد العته والشره على محق الدين
واضمحلال الشريعة وتسليم دار الإسلام إلى الأجانب بلا مقارعة ولا مناقرة.
يا هداة الأمة إنكم لو أهملتم هذا الفرعون الذليل ونفسه وأمهلتموه على سرير
جنونه وما أسرعتم بخلعه عن كرسي غيه لقضي الأمر، فعسر العلاج وتعذر التدارك.
أنتم نصراء الله في الأرض، ولقد تمحصت بالشريعة الإلهية نفوسكم عن
أهواء دنية تبعث على الشقاق وتدعو إلى النفاق ويئس الشيطان بقذفات الحق عن
تفريق كلمتكم. فأنتم جميعًا يد واحدة يذود بها الله عن صياصي دينه الحصينة ويذب
بقوتها القاهرة جنود الشرك وأعوان الزندقة. وإن الناس كافة (إلا من قضى الله
عليه بالخيبة والخسران) طوع أمركم. فلو أعلنتم خلع هذا (الحارية) لأطاعكم
الأمير والحقير وأذعن لحكمكم الغني والفقير (ولقد شاهدتم في هذه الأزمان عيانا
فلا أقيم برهانا) خصوصًا وإن الصدور قد حرجت وإن القلوب قد تفطرت من هذه
السلطنة القاسية الحمقى التي ما سدت ثغورا ولا جندت جنودا ولا عمرت بلادا ولا
نشرت علوما ولا أعزت كلمة الإسلام ولا أراحت يوما ما قلوب الأنام، بل دمرت
وأقوت وأفقرت وأذلت ثم بعد ضلت وارتدت، وأنها سحقت عظام المسلمين وعجنتها
بدمائهم فعملت منها لبنات [٦] بنت بها قصورًا لشهواتها الدنية. هذه آثارها في هذه
المدة المديدة والسنين العديدة، تعسا لها وتبت يداها.
وإذا وقع الخلع (وتكفيه كلمة واحدة ينبص بها لسان الحق غيرة على دينه)
فلا ريب أن الذي يخلف هذا (الطاغية) لا يمكنه الحيدان عن أوامركم الإلهية ولا
يسعه إلا الخضوع بعتبتكم عتبة الشريعة المحمدية. كيف لا وهو يرى عيانا ما لكم
من القوة الربانية التي تقلبون بها الطغاة عن كرسي غيها. وإن العامة متى سعدت
بالعدل تحت سلطان الشرع ازدادت بكم ولعا وحامت حولكم هياما وصارت جميعا
جندا لله وحزبا لأوليائه العلماء.
ولقد وَهِم من ظَنَّ أن خلع هذا (الحارية) لا يمكن إلا بهجمات العساكر
وطلقات المدافع والقنابل. ليس الأمر كذلك لأن عقيدة إيمانية قد رسخت في العقول
وتمكنت من النفوس، وهي إن الراد على العلماء راد على الله (هذا هو الحق
وعليه المذهب) فإذا أعلنتم (يا حملة القرآن) حكم الله في هذا الغاصب الجائر
وأبنتم أمره تعالى في حرمة إطاعته لانفض الناس من حوله فوقع الخلع بلا
جدال ولا قتال.
ولقد أراكم الله في هذه الأيام إتمامًا لحجته ما أولاكم من القوة التامة، والقدرة
الكاملة، وكان الذين في قلوبهم زيغ في ريب منها من قبل. اجتمعت النفوس بكلمة
منكم على إرغام هذا الفرعون الذليل وهامانه الرذيل (مسألة التنباك) فعجبت الأمم
من قوة هذه الكلمة وسرعة نفوذها وبهت الذي كفر. قوة أنعمها الله عليكم لصيانة
الدين وحفظ حوزة الإسلام. فهل يجوز منكم إهمالها وهل يسوغ التفريط فيها؟
حاشا ثم حاشا.
قد آن الوقت لإحياء مراسم الدين، وإعزاز المسلمين، فاخلعوا هذا (الطاغية)
قبل أن يفتك بكم، ويهتك أعراضكم، ويثلم سياج دينكم. ليس عليكم إلا أن
تعلنوا على رؤوس الأشهاد حرمة إطاعته فإذًا يرى نفسه ذليلا فريدا يفر منه بطانته
وينفر منه حاشيته وينبذه العساكر ويرجمه الأصاغر.
إنكم يا أيها العلماء والذين قاموا معكم لتأييد الدين بعد اليوم في خطر عظيم.
قد كسرتم قرن فرعون بعصا الحق، وجدعتم أنف الحارية بسيف الشرع، فهو
يتربص فرصًا تساعده على الانتقام؛ شفاء لغيظه ومرضاة لطبيعته التي فطرت
علي الحقد واللجاج، فلا تمهلوه أيامًا ولا تمكنوه أن يقبض زمامًا. أعلنوا خلعه قبل
اندمال جرحه.
وحاشاكم أيها الراسخون في العلم أن ترتابوا في خلع رجل سلطانه غصب،
وأفعاله فسق، وأوامره جور، وإنه بعد أن مص دماء المسلمين ونهش عظام
المساكين وترك الناس عراة حفاة لا يملكون شيئًا - حكم عليه جنونه أن يملك الأجانب
بلادًا كانت للإسلام عزًّا، وللدين المتين حرزًا، وساقته سَورة السفه إلى إعلاء كلمة
الكفر والاستظلال بلواء الشرك.
ثم أقول: إن الوزراء والأمراء وعامة الأهالي وكافة العساكر وأبناء هذا
(الطاغية) ينتظرون منكم جميعا (وقد فرغ صبرهم ونفد جَلَدهم) كلمة واحدة
حتى يخلعوا هذا الفرعون الذليل، ويريحوا العباد من ضره، ويصونوا حوزة الدين
من شره قبل أن يحل بهم العار {وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص: ٣) والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد الحسيني

يقول محمد رشيد:
إن للعلماء من الاحترام والنفوذ الروحي في بلاد الأعاجم ما ليس لهم في البلاد
العربية وإن احترامهم في بلاد الفرس أشد منه في سائر بلاد العجم، فإن الحكام
ليس لهم عليهم من السلطة هناك مثل ما لغيرهم من حكام المسلمين. وما أزال
الملوك والأمراء احترام العلماء ومحو نفوذهم - حاشا ما كان منه مؤيدًا لهم ومعنويًّا
لاستبداهم - إلا بما اخترعوه لهم من الرتب العلمية وكساوي الشرف الوهمية وبما
جعلوا من موارد أرزاقهم في تصرفهم. فصار رزق العالم وجاهه الدنيوي بيد
الأمير أو السلطان وهما الرسنان اللذان يقودون بهما طالب المال والجاه من العلماء
إلى حيث شاؤوا. فإذا أمكن لطلاب الإصلاح الإسلامي أن يبطلوا هذه الرتب العلمية
وما لها من الشارات ويخرجوا أرزاق علماء الدين من أيدي الحكام - فإنهم يحررون
العلماء من رق يكون مقدمة لإصلاح الأمة كلها.
الإسلام دين اجتماعي جمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وقد عبث الحكام
المستبدون في أهله بانتحال الرياسة فيه، على كونهم قد أبطلوا اشتراط العلم الديني
وغيره في الخليفة - وفي السلطان والوالي بالأولى - ثم جعل بعضهم الأحكام
والأعمال والمناصب قسمين: شرعية خاصة بعلماء الشرع كالقضاء فيما يسمونه
الأمور الشخصية. وغير شرعية وهي سائر الأحكام القضائية والإدارية
والسياسية، ولا يشترطون في عمال هذه الأحكام والأعمال معرفة شيء من أحكام
الشرع، ولا الأخذ بشيء من أمر الدين، كما أنه لا يشترط في الحاكم الأعلى من أمير
أو سلطان أن يكون قد تلقى علم التوحيد والفقه فضلاً عن التفسير والحديث. ومع
هذا كله يجعل هذا الحاكم رئيسًا دينيًّا ويجعل أمر علماء الدين في يده، فهو الذي ينعم
عليهم بالرتب العلمية التي يعد بها بعضهم فوق بعض في الدين وعلومه من غير
مبالاة بالقاعدة المشهورة، التي لا يختلف فيها عاقلان وهي (فاقد الشيء لا يعطيه)
فلهذا صار الدين أمرًا ثانويًّا في أكثر بلاد المسلمين، لا يحترم عند حكامه إلا بقدر
تعلق العامة به على حسب ما عليه العامة كالاحتفال بالمواسم الدينية والمبتدعة.
ينهدم ركن من أركان الإسلام كالزكاة، فلا يبالي به الحُكَّام الذين جعلوا أنفسهم
رؤساء للدين ويسكت معهم العلماء عن ذلك؛ فلا يقومون بفريضة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؛ وهي سياج الدين لأنهم على قسمين: قسم مرتبط بالسلاطين
والأمراء فهم تابعون لهم، وقسم لا شأن له فهو يستصغر نفسه أن تقوم بالدعوة إلى
إحياء الدين، فإذا عرف لنفسه قيمة وظهر بالدعوة فطفقت العامة تحترمه نفحه الأمراء
بشيء من الدنانير التي قاموا على خزائنها - وهي للأمة لا لهم - وألقوا في عنقه
ورأسه طوقًا من الفضة أو الذهب (علامة الشرف) فكان لهواهم من المنقادين.
فلا صلاح للإسلام إلا باستقلال العلماء وعدم ارتباطهم في التعلم والتعليم
والإرشاد، ولا في الرزق بالأمراء والسلاطين كما تقدم.