للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أوربا والإسلام

رأي المنار فيما كتبه موسيو ميلي ونشرناه في الجزء الماضي:
كتب ذلك الوزير في الإسلام والمسلمين كتابة خبير بصير، وقد صدق في
قوله: إن جراثيم الحياة كامنة في الإسلام، وإن الرجوع إلى القرآن بعد تفسيره
واستخراج ثماره بطرق العلوم العصرية هو الذي يعيد الحياة إلى المسلمين (وإن
أمة أوربية تتجرد عن أوهامها القديمة وتفهم هذه الخطة العالية يمكنها أن تتقدم على
غيرها تقدمًا عجيبًا) وقد نصح لأمته إذ نبهها إلى ذلك بقوله بعدما تقدم وذلك في
آخر مقاله: (فاليوم الذي تشمر فيه فرنسا عن ساعد الجد وتسعى في تعليم وتربية
الأهالي - ولا نقصد بذلك أن تلزمهم بنظاماتنا بل أن تسير بهم في مناهج التقدم
الملائمة لطباعهم - هو اليوم الجميل حسب قول موسيو جونار الذي تحصل به على
أكثر من فتح الممالك إذ به تتحقق لها السلطة على الأرواح) .
ولكن هل تقبل فرنسا هذه النصيحة وتقدرها قدرها؟
قرأنا لكثير من علماء فرنسا وساستها كلامًا حسنًا في الإسلام وأماني حسنة
في شأن المسلمين، ولكن ما رأينا لذلك تأثيرًا حقيقيًّا، فصار أكثرنا يحمل ذلك الكلام
وأمثاله على الخلابة والتمويه ومخادعات السياسة، ولكن الكلام المعقول في نفسه إذا
سمعه العاقل عن العاقل لا يمكن له أن يسميه تمويهًا وخداعًا، فأنا أعتقد أن جراثيم
الحياة كامنة في الإسلام، وأن رؤساء المسلمين هم المانعون لها من النمو، وأعتقد
أن دولة أوربية تتمكن من إحياء مملكة إسلامية يعرف لها فضلها جميع المسلمين
ويكون لها منهم قوة تجعل لها مكانة عليا في الأرض، حتى في أوربا نفسها، وقد
سبق لي كتابة في ذلك. وأعتقد أن فرنسا من أقدر الدول الكبرى على ذلك
وأحوجهن إليه. فكيف يمكن أن أعتقد مع هذا كله أن قول موسيو ميلي مخادعة أو
خلابة؟ ؟ أنا موقن بصحة كلامه وصدقه، وربما كان اعتقادي هذا أقوى من اعتقاده
هو. ولكنني أشك في فقه أمته حقيقة ما يقول وقدرتها على الانسلال من الوهم القديم
الذي أشار إليه.
يعدون الشعوب الإسلامية من الشعوب الميتة أو الضعيفة، ولكن منهم من
يقول: إن جراثيم الحياة كامنة فيها. ويعدون فرنسا من أعظم الأمم الحية، ولكن
منا ومنهم من يعتقد أن مكروبات الضعف والانحطاط كامنة فيها. فنقول على هذا
وذاك: إن المسلمين محتاجون إلى دولة كفرنسا تساعدهم على الحياة الجديدة في
شمال أفريقية، وإن فرنسا محتاجة إلى حفظ حياتها القديمة وإمدادها بشعوب قابلة
للحياة والقوة كالمسلمين. وإن هذا المطلب ممكن في نفسه ولكن فرنسا غافلة عنه؛
لأن القوي العزيز قلما يفكر في حقيقة حال من يراه دونه، فهذه عقبة دون المطلب
ومن ورائها عقبة أخرى وهي أن الضعيف قلما يؤمن بإخلاص القوى له،
فالمسلمون إلى اليوم لا يظنون أن فرنسا تريد بهم خيرًا وهم معذورون بهذا، وإنني
أصرح به نصحًا لفرنسا ورغبة في حسن التفاهم بيننا وبينها لعل في ذلك فائدة لنا
ولها. فما قلته هو الحقيقة وإن وُجد في المسلمين من أحسن القول في فرنسا كما
وُجد في الفرنسيين من أحسن القول في المسلمين، فتلك الأقوال لم تغير الحقيقة ولا
يغيرها مثلها، وإنما تغيرها الأعمال. والمسلمون الذين تسوسهم فرنسا لا يستطيعون
أن يستميلوها بعمل أكثر مما هم عليه من الطاعة لها ولكنها هي تستطيع أن تستميلهم
وأن تملك قلوبهم وأرواحهم كما هي مالكة لأبدانهم وأوطانهم، فهي التي يجب عليها
الابتداء بالعمل.
ربما يظن بعض المغرورين بقوتهم أن حال الجزائر خفية، لا يعرف حقيقتها
مسلمو مصر والشام والحجاز وسائر المشرق. الحق أقول لهؤلاء: إن تلك الحال
ليست بخفية، فإننا نعرفها ونشعر بشعور أهلها ولكن ما كل ما يعلم يكتب، وإنما
كتبنا الآن هذه الكلمات؛ لما رأينا من بارقة الأمل في حسن التفاهم والسعي إليه
بالعمل.
لا نطلب من فرنسا للمسلمين أكثر مما أشار إليه مسيو ميلي، وهو السعي في
تعليمهم وتربيتهم، بالقيد الذي ذكره والشرط الذي اشترطه، وهو أن يكون القصد
تقدمهم بما يلائم طباعهم لا إلزامهم بنظامات فرنسا وعاداتها، فضلاً عن شرائعها
ودينها، فالمطلوب مساعدتهم على إحياء لغتهم ودينهم، وإنماء ثروتهم مع تعليمهم
العلوم والفنون العصرية بالتدريج الملائم لحالهم.
يسهل هذا على فرنسا إذا قنعت من الاستعمار والامتلاك بما دون تحويل
المسلمين عن لغتهم ودينهم ورقبة بلادهم، ولها بعد ذلك من موارد الثروة ومصادر
القوة ما شاءت مع الرضا والحب.
يعلم كل الملمين بأحوال السياسة من المسلمين أن فرنسا طامعة في الاستيلاء
على المغرب الأقصى وتأليف إمبراطورية أفريقية إسلامية، وأهل الرأي منهم
يعلمون أن شجاعة أهل المغرب واستبسالهم لا يدفعان عنهم ما تريده فرنسا بهم مع
جهلهم وتفرقهم وكون بأسهم بينهم شديدًا. ولكن سياستها إياهم بمثل ما ساست به
الجزائر في الماضي قد يراها المغرورون أمرًا يسيرًا، وهي في الحقيقة من أعسر
الأمور وأشدها تعقيدًا وخطرًا على فرنسا في المستقبل، ويظن المغرورون أن تغيير
السياسة في الجزائر تغييرًا صوريًّا كاف في إرضاء المسلمين في تلك البلاد،
وإقناعهم في سائر البلاد بأن فرنسا تريد ترقيتهم مع المحافظة على دينهم ولغتهم.
والحق أنه لا يفيد في الأمر إلا الإخلاص في العمل وهو لا يخفى على أحد.
أقول هذا لفرنسا وأنا ناصح أمين، وإنما أنصح لها لاعتقادي أن في مصلحتها
هذه خيرًا للمسلمين، بل أعتقد أن فرنسا لو جعلت لأهل الجزائر واليًا منهم لكانت
فائدتها من ذلك أكبر من فائدتهم، فهل تلومني أمة الحرية إذا صرحت لها باعتقادي
هذا، وتعاقبني عليه بمنع هذا الجزء من المنار أن يصل إلى الجزائر؟ كلا بل أظن
أنها تقدر كلامي قدره، فإن لم تقدره اليوم فلابد أن تقدره في يوم آخر.
بل نحن نعلم أن فرنسا ما رضيت أن يكون سلطانها على تونس سلطان حماية
لا سلطان امتلاك رسمي؛ إلا لما استفادته من العبرة بحال الجزائر التي نعرفها نحن
وهي أعرف بها منا. ولكن ما عملته في تونس منتقد من وجوه كثيرة، والمنة بما
فيه من إصلاح أكبر منه. وقد شكرنا لها في هذه الأيام ما كان من التنفيس عن حملة
الأقلام، وإنشاء مجلس الشورى وإن كان دون المرام، فعسى أن يكون هذا بدء
سياسة مثلى يشكرها لها الإسلام.