للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق

(علمه وأدبه)
نبت حسن باشا في بيت كريم وجاور في الأزهر تسع سنين تلقى فيها من
فنون العربية وعلوم الشريعة ما رأى نفسه غير محتاج إلى تلقي غيره فيه.
وهكذا شأن النابغين تكون مدة تعلمهم قصيرة في الغالب وكم من طالب أقام في
الأزهر عشرات السنين ولم يستفد منه ما يطمعه في شهادة العالمية. وكان من
شيوخه الشيخ نصر الهوريني اللغوي الأديب الشهير، ولعله هو الذي رغبه في
الأدبيات فكان يحفظ كثيرا من مختار الشعر ويورد في حديثه الشواهد والأمثال منها
فيضعها في مواضعها، وكان لنا معه محاضرات أدبية يسمعنا فيها أكثر مما يسمع
منا. وقد نظم الشعر كثيرا ولكنه لم يبذله فلم يشتهر به.
أما علمه بأصول الدين وأحكام الحلال والحرام، فقد ظهر أثره في جميع أدوار
حياته فلم تعبث بعقيدته الشبهات على اتصاله بأهلها، ولم تزلزل استقامته معاشرة
المترفين المسرفين مع الحكام مع الشباب والجدة اللذين هما أشد مثارات الافتتان.
وأما علمه بالفقه فقد ظهر أثره في مجلس الشورى إذ هو الذي أعانه على فهم
القوانين ودقة النظر في انتقادها على كونه لم يتلق علم الحقوق بالدراسة.
(مزيته في أمته، بسياسة أسرته)
لهذا الرجل مزية في بلاده لا يفضله فيها أحد قط فيما أعلم، مزية لو تبعه فيها
أصحاب البيوتات لنالت البلاد بهم ما يتمنى لها محبوها من الارتقاء في أقرب وقت،
مزية يمكن شرحها في مصنف خاص ولا يسعنا هنا إلا الاكتفاء بالإشارة إليها بعبارة
وجيزة.
من المتفق عليه بين العقلاء أن لحياة الأمة وارتقائها مبدأ وغاية فالمبدأ هو
التربية الحسنة في البيوت والتعليم النافع للأفراد، وغايتها اتحاد من أوتوا المبدأ على
العمل لرقيها المادي والمعنوي. فنحن نرى العقلاء يشكون من إهمال التربية الحسنة
في البلاد ومن فقد الاتحاد بين المتعلمين حتى كأن المتعلمين في الأزهر أمة
والمتعلمين في دار العلوم أمة والمتعلمين في سائر المدارس أمة - وكل أمة من هذه
الأمم بعيدة عن الأخرى في أخلاقها وأفكارها. ولا أزيد على ذلك هنا. فكيف ربى
هذا الرجل الحكيم أولاده؟
علم أبناءه - حسنا وحسينا ومحمودا - علم الحقوق وجعل الأول محاميا
أهليا ومدرسا بمدرسة البوليس وألزم الثاني بعد أن قبل محاميا في المحاكم المختلطة
بأن يكون عمدة في بلدة (أبو جرج) ولولا حسن التربية الأدبية الدينية لما ترك
الإقامة في العاصمة مع أقرانه في العلم ورضي بأن يكون عمدة جل عمله مع
الفلاحين طاعة لأبية. وجعل محمودًا في الإدارة فكان معاونًا في قسم الأزبكية ثم
ترقى فصار مأمور الضبط في الفيوم وجعل أبنيه مصطفى وعليًّا مجاورين
في الأزهر ولعله لا يوجد فيه من أولاد الباشوات الأغنياء غيرهما لأن كبراءنا
يعدون المجاورة في الأزهر ضعة وضياعًا.
وهما الآن في ذروة المجاورين تحصيلاً، يمتازان بالأدب العالي وحسن
الإنشاء. وللشيخ مصطفى من المنظوم والمنثور ما يجعله في بدايته مزاحمًا
للمجيدين في نهايتهم، وجعل ابنه إبراهيم في مدرسة الزراعة وابنه إسماعيل في
مدرسة الناصرية وهو صغيرهم الذي لا يزال في حجر التعليم الابتدائي، فلا أدري
أين كان يريد أن يوجهه بعد ذلك ولعله كان يرشحه لخدمة المعارف.
وقد علم من هذا أنه كان يريد أن يجعل كل واحد من أولاده السبعة في أفق
من آفاق أعمال البلاد ليكونوا قدوة يقتدى بهم في صدق الخدمة مع المحافظة على
مقومات الأمة الدينية والاجتماعية ودعاة للوحدة وحسن التفاهم بين جميع طبقاتها
المختلفة في التربية والتعليم، فيكونوا بذلك كالكواكب السبعة السيارة كل يدور في
فلكه مع حفظ النسبة بينه وبين غيره بالجاذبية العامة.
أما الجاذبية العامة بين هؤلاء فهي التربية التي كان يمدهم بها كبيرهم الذي
كان منهم بمنزلة الشمس من كواكب السماء بجمعه بين الزي المصري من الجبة
والقباء والعمامة ورتبة الباشوية، وبين إقامة شعائر الإسلام والآراء العصرية،
والمستحسن من مظاهر المدنية، والقيام بالخدمة القانونية والسياسية، فما كان أروع
تلك المائدة التي يستدير معه حولها حملة العمامة والطربوش الذين صار بين أمثالهم
من البعد في مصر ما هو معروف.
بل كان ولا يزال - ولن يزال إن شاء الله - في ذلك البيت اجتماع أروع
وأبدع وهو الاجتماع الأسبوعي في كل ليلة جمعة لإلقاء الخطب الاجتماعية والأدبية
والمذاكرات العلمية والدينية، وهذا الاجتماع عام لكل من يحضره من أسرة
عبد الرزاق. فالمرحوم كان مربيا لإخوته وولدهم أيضًا. فأي تربية ترجو البلاد
أفضل من هذه التربية؟ وما قولكم في أمة تتألف من مثل هذا البيت أو يكثر أمثاله
فيها؟
(خدمته للأمة)
أما خدمة الرجل لأمته في مجلس الشياخات بمديريته (المينا) وفي شورى
القوانين نائبا عنها مدة ثماني عشرة سنة ثم في شركة الجريدة وحزب الأمة فهو
معروف مشهور. فقد كان عضوا عاملا ومثالا صالحا في فهمه ودقته واستقلاله
وحريته، كما كان قدوة في صلاحه واستقامته، تغمده الله بمغفرته ورحمته.
أمين