للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله

كتب إلينا في ١١ ذي الحجة ما يأتي من الشيخ أحمد موسى المنوفي إمام
المسجد الكبير في كلكته الذي كان طعن فينا برسالة نشرت في جريدة اللواء، ثم
كتب إلينا ذلك الانتقاد والتعريض الذي نشرناه في الجزء الثالث (ص٢٣٦) على
ما فيه من دلائل سوء الظن بنا. وبعد أن قرأ كثير من أجزاء المنار وكتاب
محاورات المصلح والمقلد، وكتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام رجع عمَّا كان
يظن؛ فدل ذلك على إخلاصه وحسن نيته في ذمنا من قبل ومدحنا من بعد، غفر اللهُ
له وأحسن مثوبتَه قال:
أقدم لسيادتكم تحية طيبة مباركة وأرجوكم نشر ما يأتي ولكم الفضل.
بما أن الإنسان بطبيعته مجبول على حبِّ وطنه وإن بعدت الديار وشط المزار،
ولا يخفى أن ما ينشأ عن تلك المحبة الطبيعية من السعي وراء مصلحة الوطن
يكون بحسب المحبة قوة وضعفًا، ولقد مكثت محبتي للوطن زمنًا طويلاً كامنة في
الفؤاد لا يظهر علي أدنى أثر من آثارها، وبعبارة أوضح ضعيفة جدًّا؛ وإذا بحثنا
عن سبب ضعفها لم نجد شيئًا سوى اليأس من المصلحة والإصلاح مع الغفلة عن
النهضة الإسلامية، والحركة الوطنية التي قام بها أخيرًا الإمامان الحكيمان الأستاذ
السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ المفتي الشيخ محمد عبده قدَّس الله أرواحهما
وحشرنا في زمرتهما وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيرًا، فلقد بثَّا في الأمة روحَ
الحياة والشعور والغيرة، وأيقظاها من الغفلة. فهما أساس النهضة، وكل من جاء
بعدهما لا يخرج عن كونه مُتَمِّمًا لعملهما مهما بلغت درجته في الإصلاح والأخذ بيد
الناهضين، وزِدْ على هذا وذاك أني أبعد الناس عن مطالعة الجرائد وأشدهم كراهية
لمن يطالعها لزعمي أنها خالية عن النفع أو تشتمل على بعض منافع لا تقابل ما فيها
من الضر، وقد علمتم عوائد الأزهر بين الذين مَكَثْتُ بَيْنَ ظهرانيهم بضع سنين في
الأيام التي كانوا لا يسمعون فيها باسم الإصلاح، فهذا كله كان سببًا في اقتصاري
على محبة الوطن الطبيعية فقط، وعدم إبداء شيء مما يلزمها؛ ولكن مع هذا
الجمود كنت أميل بطبيعتي أيضًا إلى كل من أسمع عنه بأنه مُجِد في خدمة الوطن
إلى أن سمعت أخيرًا في العام الذي تُوفِيَ فيه إمامُ النهضة المصرية - بل الإسلامية -
الأستاذ الحكيم المفتي بأن رجلاً من الصُحَافيين وقف نفسه وماله على السعي
وراء مصلحة الوطن والعمل على استقلاله وتخلصه من رق العبودية، فنما ميلي
نحو ذلك الواقف إلى أن صار محبة، والمحبة حملتني على الإقبال على مطالعة
الجرائد والاشتراك في جملة منها، فعلمت أني كنت في ضلال مبين لما في
الصحف الحرة الخالية عن الأغراض الذاتية من الفوائد التي أقلها الوقوف على
أحوال الهيئة الاجتماعية ومعرفة آراء الرجال وغير ذلك، ولكن للأسف وجدت
سعادة الواقف المفضال يعتقد في نفسه - والعياذ بالله - الكمال المطلق، يريد أن
يسبح الخلق بحمده ويخضع الوجود لعظمته، وأن لا يُسْأل عمَّا يفعل، وقد علمنا أن
المتصف بذلك الكمال المطلق فعبدناه وخضعنا لأوامره ما استطعنا ... إلخ
واأسفاه، كنا نظن أن حضرة الأستاذ المخلص في عمله المهتم بصالح أمته
السيد محمد رشيد رضا على عكس ما كنا نعتقد في بطل وطنيتنا دولة الواقف،
ولكن لمَّا بلونا الرجل وجدنا المسألة معكوسة على خط مستقيم وجدناه حكيمًا يضع
الأشياء في مواضعها لا تأخذه في نصرة الحق لومة لائم مع الروية والتعقل؛
وجدناه ماهرًا بتشخيص الداء ووصف الدواء، وجدناه حليمًا ذا أناة، لا يعجل
بالعقوبة على من ظلمه؛ بل يعالج الظالم المعتدي معالجة خبير بكل ما لديه من
الوسائل حتى يرجعه عن ظلمه واعتدائه، وحينئذٍ يرشده إلى ما في صلاحه في
الدنيا والأخرى، وجدناه فيلسوفًا في معرفة طرق الإصلاح وما يصلح للوقت وأهله،
وبالجملة لو لم يكن له إلا كتابا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) و (محاورات
المصلح والمقلد) لكفاه شرفًا وفضلاً فهو - والحق يقال - الذي يصح إطلاق
الحكيم عليه الآن، ولقد أصبح فضيلته بعد اطلاعي على كتابيه المذكورين أحب
الناس إليّ، ولقد أعجب بهما كذلك حضرة السري الوجيه العلامة المؤرخ
الأديب محمد بيك العمري صاحب معمل السكاير المشهور بعاصمة الهند كلكتة، وقال
لي مرارًا (إني لولا عدم سبق معرفتي بيني وبين الأستاذ لم يسعني إلا إرسال
تشكراتي للأستاذ مما نافح به عن الدين وردَّ كَيْدَ أعدائه في نحورهم) هذا وأقسم
عليكم بشرف الحق وفضيلة العلم وعز الصدق إلا ما نشرتم هذا تحت مسئوليتنا؛ والله
الموفق. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد موسى
***
(المنار)
قد نشرنا رسالته وبَرَرْنَا قسمَه إلا أننا حذفنا منها تلك السطور التي يبين فيها
اعتقاده الأخير في ذلك الصحافي، فعسى أن يعذرنا في ذلك. ونسأل الله الذي لم
يحقق سوء ظنه فينا من قبل أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه من بعد من غير غرور ولا
فتنة.
وكتب إلينا كتابًا آخر في ١٨ ذي الحجة قال فيه:
حضرة الأستاذ المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام، وبعد فإني لا أستطيع أن أعبر
عمَّا حصل من السرور بوصول كتب (الإسلام والنصرانية) و (شبهات النصارى
وحجج الإسلام) و (تاريخ الأستاذ الإمام المفتي عليه رضوان الله) ولَعَمْرُ الحق لقد
صغر في عيني ما لدي من الكتب القديمة التي لا يخفى على فضيلتكم ما فيها من
الحجب المانعة من العلم النافع، فواأسفاه قد ضاع العمر سُدَىً، غير أني أحمد الله
الذي مَنَّ عليَّ بإرشاد حكيم الإسلام وأكبر خلفائه، تالله إنك سيدي معذور فيما تبديه من
الآراء المفيدة المناقضة لما عليه الناس من الجمود، والنفس الخبيثة تكره من يحاول
ردَّها عن ما اعتادت عليه، ولو كانت عادتها عبادة الأوثان، نعوذ بالله من الخذلان
والتمادي في الغي.
أقول قولي هذا وما أبرئ نفسي؛ فإني والحق يقال كنت كثيرًا ما أتهمكم
بسوء القصد، أما الآن فأنا لله الحمد أول موافق على ترك التقليد والجمود على
الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والفضل في ذلك لسيادتكم ومطالعة كلام
الإمام الحكيم بإمعان وإنصاف، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.