للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك

كل ما كنا نعرفه عن ذكاء الملك صاحب جريدة (تربيت) هو أنه كاتب
إصلاحي بليغ غير موثق الفكر بالتقاليد، وأنه قد جمع إلى استقلال الفكر
استقلال الإرادة وقوة العزيمة؛ فقد كان يكتب ما يعتقد وإن خالف أهواء
الشعب. وما الكتاب الذين جمعوا هذه الصفات بكثيرين فينا فنقول: مات ذكاء
الملك فخلفه فلان وفلان. كلا بل نتمثل بقول الشريف فيمن هو في عصره
دون ذكاء الملك في عصره.
ويقول من لم يدر كنهك إنهم ... فقدوا به عددًا من الأعداد
هيهات أدرج بين برديك الردى ... رجل الرجال وواحد الآحاد
كان ذكاء الملك لعنايته بالإصلاح يتتبع أخباره في جميع بلاد الإسلام،
ويتعرف رجاله في جميع الأقطار، فعرف السيد جمال الدين الأفغاني وكان صديقًا له
وعشقه المنار بالأستاذ الإمام فكان بينهما موادة ومكاتبة وأَبَّنَهُ أحسنَ تَأبين في
جريدته، وقد ترجمنا تأبينه ونشرناه في تاريخ الأستاذ الإمام، وكان ينقل عن
المنار كثيرًا، وآخر ما عرفناه من ذلك نقله لما كتبناه في حكومة الشورى في
بلاد فارس وقوله: إن قول صاحب المنار أعظم تأثيرًا في العالم الإسلامي من قول
مائة مجتهد من علماء الشيعة. أو ما هذا معناه.
راعنا مصاب الشعب الفارسي بل الأمة الإسلامية بوفاته وتمنينا لو وقفنا
على ترجمة حياته بالتفصيل، ومازلنا واقفين في موقف التمني حتى منَّ علينا
ميرزا محمد القزويني العضو بدار الترجمة الهمايونية في طهران بنسخة من
جريدة (الصور) الفارسية مع كتاب عربي منه أرسله إلينا من باريس يرغب
إلينا فيه بما نحن أشد فيه رغبة وهو ترجمة الفقيد؛ لأنه من الحقوق التي
تطالبنا بها ذمة طلب الإصلاح وتقريب طوائف المسلمين بعضهم من بعض.
وكان ذكاء الملك طَيَّبَ اللهُ ثراه وجزاه أفضل الجزاء من خير الأعوان على
هذا الإصلاح، وإننا ننشر كتاب هذا الفاضل الغيور والصديق الوفي للفقيد مع
الشكر له، ثم ننشر بعده ترجمة ما كتب في جريدة الصور. وهذا نص الكتاب
الذي أرسله إلينا من باريس:
غرة زانويه (يناير) سنة ١٩٠٨ و٢٢ ذي القعدة سنة ١٣٢٥.
حضرة السيد المفضال العلامة منشئ جريدة المنار الأغر أدام الله ظلكم
العالي: بعد إهداء كمال السلام وأسنى التحيات أظنكم تعرفون الكاتب الشاعر
الشهير ذكاء المُلْك صاحب جريدة (تربيت) الفارسية المنطبعة بطهران
ومنشئها منذ إحدى عشرة سنة، فقد كان بينه وبين الأستاذ الإمام المرحوم
الشيخ محمد عبده علائق ودية ومكاتبات متواصلة، وكان الأستاذ الإمام يقرأ
جريدة (تربيت) ويقدرها أعظم الجرائد الفارسية نفوذًا في الدوائر العالية،
وأشدها تأثيرًا في قلوب المسلمين الذين يتكلمون بالفارسية، ورأيت أنا بنفسي
تآليف الأستاذ الإمام التي كان أرسلها جميعها هدية إلى ذكاء الملك بطهران مع
كتاب ودّي بخط يده يظهر فيه غاية الإعجاب ويتشكر فيه ذكاء الملك عما كتبه
في جريدته (تربيت) من خدمات الأستاذ الإمام للعالم الإسلامي أجمع ومن
جملة عبارته:
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده هو العالم الحقيقي الوحيد في كافة
الأنحاء الإسلامية من مراكش إلى الصين ومن تركستان إلى اليمن والسودان
الذي يعلم الغرض الأصلي من الإسلام، ويعرف تطبيق قواعده على مقتضيات
العصر، ولأجل تربية أمثال هذا الرجل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن
نبغ بين علماء الإسلام كثيرون أمثاله فإن الإسلام يبقى ثابت الأركان
والمسلمين يرتقون إلى أعلى مدارج المدنية والسعادة، وإلا فلو استمر علماء
الإسلام بالجمود على ظواهر الأحاديث ونصوص فتاوى المتقدمين كما هم عليه الآن
فعلى الإسلام السلام ٠٠٠ إلخ.
وبعد وفاة الأستاذ الإمام كتب ذكاء الملك ترجمة حياته في جريدة
(تربيت) بعناية التفضل والإشباع ونهاية التوقير والتمجيد، ثم بعد ذلك كتب
ترجمة حاله ثانيًا مترجمة عن المنار الأغر أطول وأبسط من الأولى وكان
غالبًا يترجم مقالات المنار الأغر في جريدته.
والغرض من هذا الإطناب تذكار حضرتكم إن كنتم تعرفون ذكاء الملك
وتعريفكم إياه إن لم تكونوا تعرفون، وهاهو ذكاء الملك توفي أيضًا في شهر
رمضان الماضي ومضى إلى جانب أستاذيه السيد جمال الدين الأفغاني
والأستاذ الإمام محمد عبده أفاض الله عليهم جميعًا شآبيب الغفران، وبما أني
كنت من تلامذة الفقيد ومن خواص أصدقائه كتب إلي من طهران نجله جناب
ميرزا محمد علي خان الملقب بلقب أبيه ذكاء الملك، وطلب مني أن أكتب إلى
حضرتكم وأستدعي منكم أن تكتبوا - إن استصوبتم ذلك - بضع أسطر في
المنار الأغر في الإعلام بوفاة رجل مسلم من أعظم كتاب اللغة الفارسية
وشعرائها في هذا القرن الأخير ونبذ يسير في ترجمة حاله. والأمر إليكم
فانظروا ماذا تأمرون. وكان المأسوف عليه من أخص أصدقاء المرحوم السيد
جمال الدين الأفغاني ومن أعظم رجال الإصلاح ومن أكبر أركان النهضة
السياسية الأخيرة في بلاد إيران؛ فقد كان قلمه يخلب الألباب ويسحر العقول
بما آتاه الله من النفوذ والتأثير. وأصابته صدمات شديدة من أول شبيبته إلى آخر
وفاته بسبب شدة حرصه على الإصلاح وكتابته المقالات الغرَّاء في حثِّ
الحكومة على إدخال النظامات العصرية في إدارات الدولة وتحريض العلماء على
نفض الأيدي من التقاليد الجامدة والتعاليم القديمة والمباحث اللفظية الضئيلة والتأسي
بأمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وحضرة
العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر وأمثالهم، وأرسلت طيَّه جريدة
من جرائد طهران الإسلامية تتضمن ترجمة حياة الفقيد، وفي الخِتَامِ اقبلوا
يا حضرة العلامة فائق احترامي وخالص سلامي.
... ... ... ... ... ... ... ميرزا محمد قزويني ... ... ...
... ... ... ... ... العضو بدار الترجمة الهمايوني بطهران