للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاجعة أدبية

قد توفي إلى رحمة ربه فيلسوف إيران وأديبها الشهير ذكاء المُلْك طاب
ثراه عصر يوم السبت ١١ رمضان، فكان موته ثلمة في بناء العلم والأدب وهيهات
أن يفخر الإيرانيون في وقت قريب بمثله.
اشتغل المرحوم سبعين سنة بخدمة الوطن خدمة خالصة وإحياء موات أدبيات
اللغة الفارسية بحرارة الشبيبة وتجارب الشيخوخة، وإذا كان الإيرانيون بجهل
جاهليهم وعدم مساعدة حكومتهم المستبدة لم يعرفوا قيمته، ولم يوفوه حقَّه من
الإجلال كما كان حظ أمثاله من العظماء، فإنهم قد أبقوا ذلك تراثًا لخلفهم الذين يرجى
أن يقدروا أمثاله قدرهم. ولكن الإفرنج قد قدروه قدره في حياته بالتنويه بفضله
والتعريف به لقومهم حتى إن الفرنسيين لقبوا هذا الرجل بفيكتور هوغو الشرق.
ونحن في هذا العدد نذكر خلاصة من ترجمة هذا الفيلسوف المعظم، وإن أمهل
الزمان نقوم بما يجب علينا لهذا الرجل الكامل المحترم.
مختصر ترجمة المرحوم طاب ثراه
هو المرحوم ميرزا محمد حسين خان المخلص بفروغي [١] الملقب بذكاء
الملك ولد في منتصف ربيع الثاني سنة ١٢٥٥ بمدينة أصفهان وتوفي يوم السبت
١١ رمضان سنة ١٣٢٥ بطهران فيكون عَمَّرَ سبعين سنة و٥ أشهر ووالده هو
المرحوم الآقا محمد مهدي المعروف بأرباب من مشاهير أصفهان، وكان على
اشتغاله بالتجارة على حظٍ عظيم من العلم والفضل لاسيَّما علوم التاريخ والجغرافية
والهيئة؛ فإن له فيها تصانيف عديدة وقد سافر إلى الهند وأقام فيها طويلاً وعاشر
فضلاء الإنكليز وأخذ حظًّا عظيمًا من العلوم الحديثة والسياسة، ولمَّا رجع إلى
أصفهان قبل خمسين سنة أراد أن يظهر معارفه؛ ولكن الأذهان في ذلك الزمن لم
تكن مستعدة لقبول هذه النفائس الثمينة، فَأَكَبَّ على تحسين حال الزراعة والتجارة
في أصفهان، وكان يمكنه أن يفيد بلاده بأكثر مما أفادها؛ ولكن عموم الجهل يومئذٍ
حال دون ذلك.
أما فقيدنا ذكاء الملك فإنه بعد أن حَصَّلَ علوم العربية وأدبياتها ومبادي سائر
العلوم سافر من أصفهان إلى العراق العربي لأجل تكميل تلك المبادي فمكث هناك
طائفة من الزمان ثم عاد إلى أصفهان، وكان والده قد عاد من الهند فكانت نتيجة
تآلف الأب والابن بما كان أتقنه كل منهما ظهور نهضة جديدة في العلم والسياسة؛
فكان ما تولد في دماغه يومئذٍ من قوة النهضة العلمية هو ما نراه الآن في أدمغة
شباننا، فأخذ يتتبع بشغف عظيم دواوين الشعراء وكتبهم الأدبية ليشحذ بها غِرَار
استعداده الفطري للشعر حتى كان شعره في الخامسة والعشرين مساويًا لشعر أساتذة
هذا الفن.
وسافر للمرة الأولى إلى شيراز وطن الشيخ السعدي فنشبت عامئذٍ حرب
أمريكا الشهيرة، وقل ورود القطن إلى معامل أوربا، فانتهز الفقيد هذه الفرصة
فاشترى بجميع ما يملكه قطنًا وسافر به إلى الهند؛ ولكن ساورته الأنواء الشديدة في
البحر فاضطر إلى إلقاء بضاعته كلها في البحر كغيره وعاد إلى شيزار بِخُفَّيْ حُنَيْن.
ثم سافر سائحًا إلى كرمان ويزد والعراق العجمي وركمان شاه وهمدان
والعراق العربي وغيرها من الأقطار، فلبث في سياحته هذه أربع عشرة سنة وكان
في كل مكان موضع الحفاوة والإكرام من العظماء والأمراء مثل محمد حسين خان
وكيل الملك وإمام قلى ميرزا عماد الدولة وأولاده وسائر أهل الكمال والذوق.
ثم ملّ السياحة واتخذ طهران مقامًا له فصحبه المرحوم محمد حسين خان اعتماد
السلطنة [٢] وجعله مساعدًا له في الترجمة وتحرير الجريدة الرسمية، ولما
كانت الجريدة الرسمية قليلة الفائدة حثَّه صاحب الترجمة على إنشاء جريدة (اطلاع)
الباقية إلى الآن [٣] وكان يساعده في تحرير النشرات والرسائل والكتب العلمية.
ونعني أن اعتماد السلطنة كان يهيئ مواد التأليف من الكتب وغيرها وصاحب
الترجمة هو الذي يكتبها بقلمه. وكنت تراه دائمًا متململاً متألمًا لبلاء أبناء وطنه
بالمستبدين، وكان يفكر دائمًا في الإصلاح لا يبرح ذلك من مخيلته قط.
ومن الشواهد على ذلك أنه من نحو عشرين سنة كانت دبت عقارب السعاية
فيه إلى الشاه ناصر الدين بسبب ظهور بوادر هذه الأفكار الإصلاحية فأتعبوه طائفة
من الزمن؛ أي حبسوه مدة مديدة إلى أن تولى المرحوم الشاه مظفر الدين فأفرج
عنه، ولما استنشق نسيم الحرية أنشأ جريدة (تربيت) وهي كما لا يخفى أول
جريدة حرة أسست في عاصمة إيران.
ومن خدمة هذه الجريدة أنها ولَّدت في نفوس الإيرانين الرغبة في قراءة
الجرائد وكانوا إلى ذلك العهد ينفرون منها لركاكة عبارتها. وذلك بما جذبهم به من
انسجام عبارته وبلاغة أسلوبه. ومنها أنه كان في زمن الاستبداد ينشر فيها جميع
الأفكار الحرة بأسلوب لا يؤاخذه عليه القانون. وفي الجملة أنه قضى عشر سنين في
نشر جريدته كان فيها عرضة لإيذاء الأعداء والمحبين.
وفي العام الماضي أصابه مرض شديد فحلّ قواه، وقد شفي منه إلا أن
صحته لم تعد كما كانت قبله، ولما كان هو الذي يتولى تحرير الجريدة وإنشاءها
اضطر في آخر السنة إلى إبطالها.
ومن خدمته أيضًا اشتغاله بالتدريس والتعليم في مدرسة العلوم السياسية سبع
سنين وثلاث سنين أخرى في إدارتها، ولو جمعت دروسه في تلك المدرسة من
المسائل الأدبية والمعاني والبيان والبديع ومختارات الشعر وغير ذلك لكان مؤلفًا
كبيرًا.
وكان للفقيد مؤلفات كثيرة طبع منها:
(١) تاريخ ساسانيان.
(٢) ترجمة كتاب السياحة حول الأرض في ثمانين يومًا.
(٣) كلية هندي.
(٤) عشق وعفت.
(٥) ريحانة الأفكار.
(٦) قصة جورج الإنجليز.
وله كتب أخرى مترجمة من اللغات الأجنبية، وله شعر كثير ولكن أكثره
مفقود والباقي منه يدخل في ديوان كامل.