للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة السنة الحادية عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام
على نبي الرحمة، الذي بعث في الأميين ليعلمهم الكتاب والحكمة، محمد النبي،
العربي الحجازي، وعلى آله وأصحابه خير الآل والأصحاب، ومن تبعهم واهتدى
بهديهم إلى يوم المآب {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ
مَئَابٍ} (الرعد: ٢٩) .
أما بعد فإن المنار بحمد الله وعنايته، وتوفيقه وهدايته قد أتم عشر سنين
كاملة، وتجاوز الأعداد المفردة إلى الأعداد المركبة، وهو في نمو طبيعي، وارتقاء
تدريجي، لم تطفر به مساعدة الكبراء، كما طفرت بكثير من العاملين، ولم تظفر
به مكايدة الرؤساء، كما ظفرت ببعض المصلحين، بل سار لطيته على استقلاله
في جميع أعوامه وأحواله، سلاحه تحرِّي الحق، وعدَّته التزام الصدق، وجُنته
الإخلاص لله، وحصنه تقوى الله باتباع سنن الله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ
مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} (ص: ٤٩-٥٠) .
جاهد في سبيل الإصلاح بقدر الإمكان، وما تقتضيه حال الزمان والمكان،
فهاجمته السياسة بدسائسها، فنالت من قريبه وصديقه، ولكنها لم تزحزحه عن
طريقه، وواثبته الخرافات بوساوسها، فحالت دون سرعة انتشاره، ولكنها لم تقو
على صد تياره، وصادمته التقاليد بهواجسها، فصدت الكثيرين من متقلديها عنه،
ولكنها لم تنل منه، بل عزَّ هؤلاء وأولئك في الخطاب {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ
الأَحْزَابِ} (ص: ١١) .
نعم، قد انهزم من أمامه الدجالون فلا يجدون قوة ولا حولاً، وانهزم كذلك
المقلدون فلا يرجعون إليه قولاً، وأنى للمتوكئ على عكاز القال والقيل أن ينافح
منتضي سيف الدليل تحت لواء السنة والتنزيل؟ ألا إنهم لا يصدونه بل يصدون
عنه، ولا يقولون له ولكن يقولون فيه، وكذلك كان يقول المقلدون إذ دعوا إلى
غير ما كانوا يعتقدون {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: ٥) {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: ٨) .
الحق أبلج، لا يخيل سبيله، ولا تخفى على الناظر البصير غرته وحجوله،
فلا يضره ضعف الداعي وغربته إذا قويت عارضته وعرفت حقيقته، والباطل
لجلج، وإن كثر قبيله، ودعمت فروعه وأصوله، فلا تنفعه قوة الداعي وعصبته
إذا ضعفت مريرتة ودحضت حجته، وإنما يثبت المقلدون حيث لا يوجد المستدلون،
ويسود المتواكلون ما سكت عن معارضتهم المستقلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ٩) .
لا خوف على الحق إلا من الاستبداد بمنع حرية العلم والإرشاد، فالحق لا
يوجد إلا حيث توجد الحرية والاستقلال، وتظهر آثار مواهب الناس في الأقوال
والأعمال؛ لهذا لا نخاف على دعوة الإصلاح في هذه البلاد، أو تعود إليها سلطة
الاستبداد، نعم إن سيره قد يسرع وقد يبطئ، وإن الداعي إليه يصيب في رميه
ويخطئ، ولكنه يستفيد من الخطأ كما يستفيد من الإصابة، وقد يزداد مضاء في
الرفض والإجابة، حتى يعمل الاستعداد لإصلاح عمله، ويبلغ الكتاب أجله {لِكُلِّ
أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: ٣٨) ، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) ، {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: ٤٠) .
إن للإسلام ثلاث مظاهر أو مراتب: التقليد وعليه أكثر المسلمين المعتقدين،
والبصيرة وعليها نفر من العلماء المحققين، والجنسية وهي تشمل حتى المارقين
من المتفرنجين، وقد هوجم أولاً في تقاليده لتحويل العامة عنه، وهوجم في كتابه
وسنته لزلزال الخاصة فيه، وهوجم في جنسيته لحل رابطة المعتصمين به، على
أنه لا يخشى عليه من مهاجمة الأجانب عنه، وإنما يخشى عليه من مهاجمة الذين
يعدون منه، فالمتفرنجون منهم يفتنون العامة عن تقاليدهم باسم المدنية، وشُبَه العلوم
والفنون العصرية، ويحلون جنسيتهم الإسلامية بدعوتهم إلى الجنسية الوطنية،
وهم لا يتهمون في ذلك بالإيقاع بالدين؛ لأنهم يأتون العامة عن اليمين، ويدعون
إلى ما يدعون معتقدين أنهم مصلحون، فتعيَّن على أهل البصيرة والعرفان أن
يناقحوا عن هذا الدين بالبرهان واقفين عند حدود السنة والقرآن، فإن كلا من
مسلمي التقليد والجنسية يعترفون بأن مرتبة البصيرة هي المرتبة العلية {أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الرعد: ١٩) .
ألا وإن من المحال حفظ تقاليد المقلدين من غارة إخوانهم المتفرنجين، فإنها
من قبيل العادات التي يعروها (كما نشاهد) المحو والإثبات، ألا وإن مصارعة
الجنسية الوطنية للجنسية الإسلامية، مجهولة العواقب، إلا حيث يساعدها الحكام
مع الأجانب، فهنالك يرجح أن تكون آية الوطنية هي المرفوعة، والراية الإسلامية
هي الموضوعة، ويتبع ذلك سرعة تسلل العوام من هذه التقاليد المعزوة إلى
الإسلام في مثل هذه البلاد غريبًا كما بدأ؛ لأن أهل البصيرة هم الأقلون عددًا،
والأضعفون ساعدًا وعضدًا، إذا غَلبوا بالبرهان يُغلبون بالسلطان، فهم إما
مضطهدون جهرًا، وإما مهددون سرًّا على أنهم لا يقنطون من رحمة الله، ولا
ييأسون من روح الله {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:١٠)
ها أنا ذا أقول على رءوس الأشهاد: إن طالب الإصلاح الديني مهدد حتى في
هذه البلاد، ورب مقاومة خفية شر من صدمة علنية، ورب اصطدام أحدث ظهورًا
خير من إهمال أوجب فتورًا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن
تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: ٢١٦) فما ظهر حق إلا بعد اضطهاد، ولا
خذل باطل إلا بعد عناد، فلا يغررك تقلب الظالمين في البلاد، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (الزمر:٢١) .
فيا أيها الكائدون الظالمون، إنما كيدكم على ملتكم إن كنتم تعقلون، ويا أيها
المقلدون الجامدون، إن تقاليدكم تتحول عنكم تحول الظل وأنتم لا تشعرون،
ويا أيها العابثون بالجنسية إنكم لبنائكم تهدمون، وتبنون لغيركم من حيث لا تعلمون،
ويا أيها المصلحون المستبصرون اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:
١٠٢) ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم
مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:
١٠٣-١٠٤) لا تفرقنكم عوامل المدنية فإن دينكم عون لكم عليها إن كنتم تفقهون،
ولا يفتننكم سلطة الأمم الأوربية فتقلدوها فيما لا تعلمون، فإن روح المدنية والسلطة
هو الدين والآداب، وقد أنعم الله عليكم من ذلك بأكمل مما أنعم به على أهل الكتاب
{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة:
٢٠٠) ، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} (البقرة: ٢٠١) {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: ٢٠٢) .
إن الفساد قد طرأ على جسم هذه الأمة من زمن بعيد، فهو يحتاج إلى تكوين
جديد، ومن المبشرات أن نرى المسلمين قد تنبهوا إلى الحاجة إلى هذا التكوين،
ولكن اختلفت فيه الآراء، وعبثت به الأهواء، ولا زعيم يرجع إليه، ولا إمام
يقتدى به، وما على طلاب الإصلاح الآن إلا إقامة الحجة والبرهان، وتربية
استعداد الأمة إلى أن ينهض زعيم من الأئمة، ولا بد من مسالمة الفرق والأحزاب،
وإحاطة استقلال الرأي بسياج الآداب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-
١٨) . ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني