للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: علي سيد يوسف


الدين الإسلامي والمدنية

رسالة لصاحب التوقيع اقتبس بها بعض شهادات علماء الإفرنج للإسلام
والعرب. نشرناها ترغيبًا لمثله في هذا الموضوع وإن سبق لنا نشر هذه الأفكار في
المنار.
(فهرس)
حالة العالم قبل وجود الديانة الإسلامية - حقيقة الديانة الإسلامية - أخلاق
محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته - الدين الإسلامي دين الفطرة - الدين
الإسلامي دين المدنية والترقي - سديو ودروي - إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم
- قول العمرانيين فيه - حكم المؤرخين عليه - الإسلام ليس بدين جديد - الدين
الإسلامي ليس بالدين الضيق - كل رقي في العلوم الطبيعية يدعو إلى التقرب من
الديانة الإسلامية - الدين الإسلامي هو أنشودة الفلاسفة في المستقبل.

إني أكتب ما أكتب عالمًا عِلْمَ اليقين أن الديانة الإسلامية ليست بالشيء
العويص الذي لا يمكن للإنسان استكناه مجاهيله، أو استشفاف مساتيره، بل هي مما
يمكن تحققها بالاختبار والتجربة إذا صعد الإنسان بِمنْطَاد بحثه إلى سماء الحقيقة
غير متعصب لفريق دون آخر؛ فبهذا يطل الإنسان على كبد حقيقتها , ويعرف
كُنْهَهَا من سموّ ترتيبها ومتانة قواعدها وإحكام نظامها , فيحكم بأنها ليست بالديانة
التي أوجدتها قريحة آدمي مهما حاز الصفات والكمالات ولكنها هي هداية إلهية،
يخالف جوهرها جوهر الأفكار البشرية.
ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب وقد كان قومه في هُوَّةِ
الانحطاط بَعيدين عن التمدن والرقي الفكري , يدلُّك على ذلك وَأْدُهُمْ لِبَنَاتِهِمْ وهُنّ
على قيد الحياة , وعبادة الأوثان , وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي تقضي
بمتبعها إلى الخسران والهلاك المبين , وليست بلاد العرب فقط هي التي كانت في
تلك الحالة بل ما جاورها أيضًا من بلاد الرومان في الغرب، وبلاد العجم في الشرق ,
فإن هاتين الدولتين كانتا يتنازعان الحياة , وناهيك بما حصل في شأن ذلك من الفتن
والقلاقل التي لم تدع قلبًا سليمًا في البشرية يتمتع بالراحة إلا وَأَسْقَتْهُ مما هو أمرّ من
الصابِ والعَلْقَم - كل هذه القلاقل المزعجة والكوارث المُدْلَهِمَّة جاء الإسلام ليمحوها
من على ظهر الوجود، وليؤيد السلام العام، والوئام التام، وليكون واسطة بين
التمدن الحديث وبين التمدن القديم , فلم يمض غير قليل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
إلا ورأينا بلاد العرب في وقت واحد ترسل جيشين , أحدهما: لمحاربة
القياصرة , والثاني: لمحاربة الأكاسرة , ففتحوهما وانهالت عليهم خيراتهما وظلوا
ناهجين في التقدم إلى أن بلغوا في ظرف ثمانين سنة ما لم يبلغه الرومان في ظرف
ثمانية قرون , واستخرجوا كنوز اليونان والأعاجم والهنود في العلوم والمعارف ,
وبلغوا الطبقة الثالثة من الرقي في العلوم الطبيعية، وهي طبقة الامتحان والتجربة ,
وإليك شهادة عالم من كبار علماء الطبيعة.
قال: (يجب علينا مَعَاشِرَ الباحثين أن نهتم بالكنوز التي تركها العرب؛ فإن
فيها حقائق وأفكارًا سامية تدعو إلى الاكتشاف والاختراع؛ لأن العرب تقدموا في
العلوم الطبيعية تقدمًا مدهشًا للغاية حتى بلغوا الطبقة الثالثة من الرقي فيها ألا وهي
طبقة الامتحان والتجربة , وناهيك أن نظرية الانحراف في الضوء لم يكن ترقيها إلا
بواسطة ما عثرنا عليه في مؤلفات الخازن) .
وقال العلاّمة سديو في البحث السادس عشر من تاريخه في اشتغال العرب
بالعلوم الرياضية: (لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية، فأتوا
بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والميكانيكا، وترجموا
من ابتداء خلافة المأمون هندسة أقليدس وتيودوس وأبولونيوس وو ...
وشرحوا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأُسْطُوَانَة وغيرها , واشتغلوا قرونًا بدقائق
الهندسة , وظهرت حميتهم في المناظرات العلمية خصوصًا في المراسلات
الرياضية، وطبقوا الجبر على الهندسة، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات
الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه ,
وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر وانعكاسه في المرايا التي تحدث النار , وألف
الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء , وفي المحل الظاهر
للصورة من المرايا المنحنية , ومقدار الأشياء الظاهرة وكبر صورتي الشمس والقمر
إذ رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب) .
وقال أيضًا دروي في تاريخه: بينما أهل أوربا تائهون في دُجَى الجهالة لا
يرون الضوء إلا من سَمِّ الخِيَاط إذ سطع نور قوي من جانب المِلَّة الإسلامية من
علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك حيث كانت بغداد والبصرة
وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة
المعارف , ومنها انتشرت في الأمم , واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة
مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة.
وهذه هي أقوال الفلاسفة وكبار المؤرخين في الديانة الإسلامية شهادة علنية
على أن الدين الإسلامي دين الترقي والمدنية. هذه هي آثار الدين وآثار أهله الذين
تمسكوا به , وأما حقيقة الدين فهي كما قال مسيو مسمير رئيس الإرسالية المصرية
ردًّا على الفيلسوف أرنست رينان في خطبة له في جمعية العلماء: (نحن مَعَاشِرَ
المحققين من الفلاسفة نقول: إن من تأمل كلام القرآن رأى أن محور الإسلام
الوحدانية وقطبيه المؤاخاة وتحسين شئون العالم بالتدريج بواسطة العِلْم وهذه هي
حقيقة أسباب نصرة الإسلام) .
وقال كاتب آخر من مشاهير كتاب الغرب في مجلة (الكوارترلي رفيو) في
مقالة عنوانها: (الأسباب الحقيقية في ارتفاع وانحطاط الأمم الإسلامية) : لما كان
الدين الإسلامي جامعًا بين الدين والدنيا كان ذلك من أهم أسباب كثرة الواردين إليه ,
فإن الرجل عندما يسلم يصبح أخًا لثلاث مائة مليون من النفوس , له ما لهم وعليه ما
عليهم , وَلَعَمْرِي إن ذلك مما يزيد علائق المَحَبَّة ويربط الهيئة الاجتماعية , ثم
استدل على ذلك بكلام كتبه بوسويرث سميث في كتابه المسمى (محمد والديانة
المحمدية) لا حاجة لنا بسرده في هذا المقام.
يرى القارئ الكريم من خلال هذه السطور التي كتبناها عن الديانة الإسلامية -
مستندين على أقوال الفلاسفة والحكماء وكبار المؤرخين والكتاب - أن الديانة
الإسلامية تزداد كل يوم في الحجج , ويشهد العلماء المحققون بروحانيتها حتى إن
المسيو أرنست رينان - الذي حمل حملته على الديانة الإسلامية والعلوم العربية -
كتب بعد أن زَمْجَرَ وأوعد، وأبرق وأرعد: (إن في دين الإسلام أحكامًا رفيعة
المقام , وما دخلت جامعًا إلا وحصل لي انجذاب لدين الإسلام , وتأسفت على عدم
كوني مسلمًا لولا أن هذا الدين أَخَّرَ العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق
الأشياء) ولكن عبارة مسيو رنان الأخيرة ليس لها أدنى نصيب من الصحة , وقد
علم من كلامنا الذي أسلفناه الجواب الشافي من علة المسيو رنان.
وإلى هنا نمسك عِنَان اليَرَاع عن الخوض في هذا الموضوع؛ فإن في ذلك القدر الكفاية لأرباب العقول والهداية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... علي سيد يوسف
(المنار)
إن حَكِيمَي الإسلام السيد جمال الدين والأستاذ الإمام قد رَدّا في أوربا على
رينان، وقطعا ما جاء به من الزور والبهتان بسيف الحجة والبرهان حتى اضطر
إلى الإذعان، فرحمهما الله وحباهما الروح والريحان.