للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فقيد الصحافة والوطنية
مصطفى باشا كامل

ما لنا لا ننتهي من نعيٍّ إلا إلى نعيٍّ، ولا نفرغ من ترجمة مبكيٍّ إلا ونفجأ
بتأبين مبكيٍّ، وما بال (أم لهيم) تلتهم من المسلمين أشهر الكتاب والسياسيين، فها
هي ذي قد اغتضرت اليوم أندى الصحافيين المصريين صوتًا , وأبعدهم في عالم
السياسة صِيتًا، وأشدهم في دهماء بلده تأثيرًا، وأكثرهم وليًّا ونصيرًا، مصطفى
باشا كامل صاحب جريدة اللواء العربية ومدير جريدتي اللواء الفرنسية والإنكليزية، ورئيس الحزب الوطني الذي تأسس في مرض مماته واختاره رئيسًا له مدة حياته.
قضى رحمه الله تعالى عن أربع وثلاثين ربيعًا قضى نصفها في السياسة،
ونصف هذا النصف في الصحافة باذلاً فيما أخذ فيه جميع أوقاته مفرغًا فيه
منتهى وجدانه وشعوره، وما زال الشعور والوجدان أقوى المؤثرات في الإنسان،
وقد أعجب بخطته في اللواء جمهور القارئين، ثم تحزبت له نابتة كبيرة من
المتعلمين، بل عشقه بعض طلاب الحقوق عشقًا، وملك قلوبهم ملكًا، فظهر أثر
تحزبها في تشييع جنازته بمظهر غريب، ما رؤي مثله من نسيب ولا قريب، حتى
أثرت حالهم في جميع المشيعين، وجذبت قلوب الناظرين، بل استعبرت المقل
الجامدة، وسعرت الأفئدة الخامدة، بل كان لهم بعد ذلك سلطان على أكثر الجرائد
المصرية، حتى المخالفة للفقيد في آرائه السياسية، ومن كان بينه وبين أصحابها
مناصبة شخصية، بل صار لهم ظهور سياسي يرجو الجذع نائله، ويخشى القارح
عقابله، ومشى في جنازته خلق كثير في مشهد لم يعهد له نظير، حمل فيه تلاميذ
المدارس رايات للحداد يعلوها السواد، وقدر عدد من شهد الجنازة بخمسة عشر
ألفًا، ورأى بعضهم أنهم يناهزون ثلاثين ألفًا.
كان رحمه الله تعالى مصداقًا بينًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما
خلق له) . فقد كان في سن الدراسة يحدث نفسه بالسياسة، ويمنيها بالرياسة،
فيحدو به ذلك إلى مثافنة الكبراء، ويزجيه إلى مناقشة الرؤساء والوزراء حتى
فتحت له السياسة وهو في مدرسة الحقوق أبوابها، وزينت له بأن يكون طَلابها،
فآثر لحبها التناوة على المذاكرة بجد وعناية، حتى ظهر أثر ذلك في الامتحان،
على ما كان من اللوذعة وجرأة الجنان على أنه نال بعد ذلك شهادة الحقوق في
مدرسة طولوز الفرنسية.
وكان كبير النفس، طموحًا إلى المعالي، جريء الجنان، طلق اللسان، قوي
الشعور والوجدان، متلافًا للمال إذا اقتضت الحال، فهذه هي الصفات الفطرية
التي أهلته لتلك الغاية الكسبية بافتراص الحوادث، ومواتاة الوقائع، ومساعدة
الزمان، واستعداد البيئة والمكان.
أما استعداد البيئة , فمنشؤه أنه كان قد سبق لهذا الشعب حركة حيوية،
ونهضة اجتماعية أدبية تلتها يقظة وطنية أنتجت ثورة شعبية عسكرية، وعقب
ذلك احتلال الإنكليز للبلاد؛ وإيقاف حركة ذلك الاستعداد، فسكتت الألسنة وسكنت
الأقلام، وغلت الأيدي، وقيدت الأقدام، ولكن هذا الوقوف كان في الظاهر، دون ما
تنطوي عليه السرائر من ضغائن مضطربة، وحفائظ مضطرمة، وأوهام مفزغة،
وأحلام مزعجة، مع مجاراة الأمير توفيق للاحتلال، ومواتاته له في كل حال.
فبعد أن قضى الأمير توفيق وولي الأمير عباس دخلت البلاد في عهد جديد
من الحركة الوطنية تجلت فيه كتجليات الحقيقة الكلية، فكان تجليها الأول هو
التجلي العام الذي ظهر في الخواص والعوام، وكان لسانه الناطق جريدتا المؤيد
والأهرام، ثم فتر التجلي في جميع الطبقات، ثم ظهر في طبقة الضباط وقتًا من
الأوقات، ثم فتر طائفة من الزمان، ثم ظهر في مظهره الذي هو عليه الآن بأن
نفخت روحه في الناشئين، ففعلت فعلها في غير أصحاب العمائم من المتعلمين،
لأن هؤلاء لا يعرفون لهم جنسية إلا في الدين، وقد كان مصطفى كامل (رحمه الله)
هو المجلي، في ميدان هذا الطور من أطوار التجلي، ثم صار داعية النابتة إلى هذه
الوطنية وهاديها، أو سائقها وحاديها، وهي هي فوق المدعو والهادي، وأمام
المسوق والحادي.
وقد كنت أُعجبت بما رأيت من تجلي الوطنية أول مقدمي لهذه البلاد , فكتبت
فيها مقالة في المؤيد عنوانها (الحياة الوطنية) أُعجب بها كثيرون حتى استظهرها
بعض أساتذة المدارس الأميرية، ثم رأيت الدعوة موجهة إلى جعل الوطنية جنسية
للمسلمين، فأنكرتها في المنار بالبرهان المبين، وأكثرت من الكتابة فيها حتى في
تفسير القرآن، ولا ينبغي لي الخوض في ذلك الآن.
عرفت مصطفى كامل في السنة الأولى من هجرتي لهذه البلاد , وكنت أَراه
كثيرًا في إدارة المؤيد إذ كنت أطبع المنار في مطبعة الآداب وكان معجبًا بالمنار حتى
كان يهنئني أحيانًا ببعض المقالات , ويقول لي: إنك قادر على خدمة الإسلام أنفع
خدمة وأجلها , ولكن الكتابة لا تكفي وحدها , فاطلب من الشيخ محمد عبده أن
يجعلك خطيبًا في أحد المساجد الكبيرة؛ فإن له نفوذًا يمكنه من ذلك , وهو صاحبك
فيما أرى , ولو كان لي به صحبة لطلبت لك منه ذلك، ومن هذه العبارة يعلم رأيه في
تأثير الخطابة.
ثم أصدر جريدة اللواء - والمنار يومئذ في أصيل سنته الثانية - فنصحت له
في تقريظها بأن يتتبع ما يكتب في الجرائد الأوربية عن الإسلام , ويترجمه
لجريدته ليكون لها امتياز عن غيرها من الجرائد الإسلامية , وأن يترك ما اشترطه
من عدم إرسالها إلا لمن يدفع الاشتراك سلفًا , فساءه ذلك , ولكنه علم بعد التجربة
أنه لباب النصيحة.
وانتقدت عليه الإرجاف بمسألة الخلافة العربية؛ إذ كان كتب أن في مصر من
يسعى لها سعيها , وبينت له وجه الضرر في ذلك الإرجاف، فكبر عليه ذلك , وقطع
المبادلة الصحافية بيننا وبينه , وأنحى علينا بعد ذلك كثيرًا؛ لما كان عليه - عفا
الله عنه - من الشدة على من خالفه , ولو مهضومًا، ونصر من وافقه ظالمًا كان أو
مظلومًا، وكان الأول من أسباب بُطْء انتشار اللواء، على ما كان فيه من مواضع
إعجاب الدهماء، كالمبالغة في ذم المحتلين، وانتقاد الحكومة، ومدح الأمة،
وتحامي الانتقاد عليها، والتنويه بالاستقلال، والتعجيل بطلب محو الاحتلال، ولكن
اللواء صار في هذه المدة الأخيرة من أهم الجرائد المصرية وأكثرها انتشارًا.
فرحم الله مؤسسه , وعفا عنه! ولعلنا نوفق بعدُ إلى كتابة شيء عن العبرة بسيرته في
حياته وموته.