للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام
مقتبس من الدروس التي كان يلقيها في الأزهر الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده رضي الله عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ
قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ
تَعْقِلُونَ} (آل عمران: ١١٨) {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: ١١٩) {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: ١٢٠) .
قال الأستاذ الإمام: إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع
أهل الكتاب , وكذا مع المشركين بالتبع والمناسبة , وإن هذه الآيات وما بعدها إلى
آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين , ومعاملة بعضهم لبعض , وإرشادهم في
أمرهم؛ يعني أن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك.
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآيات بما قبلها ثلاث مقدمات:
(١) أنه كان بين المؤمنين وغيرهم صِلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم ,
والإفضاء لهم بالسر , وإطلاعهم على كل أمر , منها المحالفة والعهد , ومنها النسب
والمصاهرة , ومنها الرضاعة.
(٢) أن العزة من طباع المؤمن , فإنه يبني أمره على اليُسْر والأمانة
والصدق, ولا يبحث عن العيوب؛ ولذلك يظهر لغيره من العيوب , وإن كان بليدًا ما
لا يظهر له هو وإن كان ذكيًّا.
(٣) أن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، وكان هم المؤمنين الأكبر نَشْرَ
الدعوة، وتأييد الحق. فكان الهَمّان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال: فإذا
كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شَكَّ مقتضية لأنْ يفضي النسيب من
المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين , وكذا المحالف منهم لمحالفه من
غيرهم بشيء مما في نفسه , وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين
والخلاف بينهم , وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال؛ لذلك جعل الله تعالى
للصِّلاتِ بين المؤمنين وغيرهم حَدًّا لا يتعدونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: ١١٨) إلى آخر الآيات.
(بطانة) الرجل: وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمْره , ويتولون سِره.
مأخوذ من بطانة الثوب , وهو الوجه الباطن منه كما يسمى الوجه الظاهر ظهارة.
و (من دونكم) معناه: من غيركم. و (يألونكم) من الإِلْو , وهو: التقصير
والضعف. و (الخبال) في الأصل: الفساد الذي يلحق الحيوان , فيُورِثه
اضطرابًا؛ كالأمراض التي تؤثر في المخ , فيختل إدراك المصاب بها؛ أي: لا
يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم. والأصل في استعمال فعل (لا) أن يقال فيه
نحو: (لا آلو في نصحك) , وسمع مثل (لا آلوك نصحًا) على معنى: لا أمنعك
نصحًا وهو ما يسمونه: التضمين. و (عنتم) من العنت , وهو: المشقة الشديدة ,
و (البغضاء) شدة البُغض.
أما سبب النزول؛ فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: (كان
رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهودَ , لما كان بينهم من الجوار والحلف في
الجاهلية؛ فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآيةَ)
وأخرج عَبْد بن حُمَيْد أنها نزلت في المنافقين.
وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس. وذكر الرازي وجهًا ثالثًا أنها في
الكافرين والمنافقين عامَّةً؛ قال: (وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص
بالمنافقين , فهذا لا يمنع عموم أول الآية , فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا
كان عامًّا وآخرها إذا كان خاصًّا لم يكن خصوص آخر الآية مانعًا من عموم أولها)
وسيأتي عن ابن جرير ترجيح الأول.
وأما المعنى فهو: نَهْي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين
الموصوفين بتلك الأوصاف , على القول بأن قوله: (لا يَأْلُونَكُمْ) (آل عمران:
١١٨) إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي كذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق
للتعليل فالمراد واحد وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر ,
وهو أنهم لا يألون خبالاً وإفسادًا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً , فهذا هو القَيْد
الأول.
والثاني قوله عز وجل:] وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [أي: تمنواعنتكم , أي: وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة.
والثالث والرابع قوله:] قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ [أي: قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها , ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدورهم منها أكبر مما يفيض على
ألسنتهم من الدلائل عليها.
وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في
الإصلاح ممن يدعونهم إليه , وما كان المسلمون الأولون يعرفون سُنّة البشر في
ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل , وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى
أَعْلَمَهُم الله بذلك؛ ولذلك قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل
عمران: ١١٨) يعني بالآيات هنا: العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ,
ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته؛ أي: إن كنتم تدركون حقائق
هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها، ولا تتخذوا أولئك
بطانة.
وأنت تَرَى أنَّ هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة لو
فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن
تتخذه بطانةً لك إن كنت تعقل؛ فما أعدلَ هذا القرآنَ الحكيمَ! وما أعلى هديَهُ!
وأسمى إرشادَهُ!
لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود , فظنوا أن النهي عن
المخالف في الدين مطلقًا , ولو جاء هذا النهي مطلقًا لَمَا كان أمْرًا غريبًا , ونحن
نعلم أن الكافرين كانوا إلبًا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام؛ إذ نزلت هذه الآيات
لا سِيَّمَا اليهود الذين نزلتْ فيهم على رأي المحققين.
ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود؛ لأن الله تعالى - وهو منزلها - يعلم ما
يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة , كما وقع من هؤلاء اليهود ,
فإنهم بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا
فصاروا عونًا للمسلمين في بعض فتوحاتهم (كفتح الأندلس) وكذلك كان القبط
عونًا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على
هؤلاء واحدًا في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي
غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلنا.
قال ابن جرير يردّ على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين , ويؤيد رأيه
الموافق لِمَا اخترناه ما نصه: (إن الله - تعالى ذِكْرُهُ - إنما نهى المؤمنين أن
يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء , إما بأدلة ظاهرة دالة
على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة
لهم , فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته
فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم , إما بأعيانهم
وأسمائهم , وإما بصفات قد عرفوهم بها) .
وإذا كان ذلك كذلك , وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء
المؤمنين إلى إخوانهم الكفار (أي: كما قال قتادة) غير مدرك به المؤمنون معرفة ما
هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم , كان بينا أن الذين نهى
الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم
على ما وصفهم الله عز وجل به , فعَرَفَهم المؤمنون بالصِّفة التي نعتهم الله بها ,
وأنهم هم الذين وصفهم الله - تعالى ذكره - بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون
ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب؛
لأنهم لو كانوا المنافقين لَكَان الأمْر منهم على ما بيَّنا , ولو كانوا الكفار ممن
ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانةً من دون المؤمنين
مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من
أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل. اهـ
فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه كبني النضير الذين
حاولوا قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة ,
ويمنع أن يكون مرادًا به جميع الكافرين أو المنافقين.
فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربًا للمسلمين ,
فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها يعد منتهى
التساهل والتسامح مع المخالفين؟ إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم
وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق
ذلك.
لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء , ومشاركتهم في
كل عمل لكان وجه العدل فيها أزهر، وطريق العذر فيها أظهر؛ فكيف وهي
قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شئون الدفاع
عن الملة , وصون حقوقها , ومقاومة أعدائها؟
ما أَشْبَهَ هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارًا وأولياءً؛ إذ قيد
بقوله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: ٨) ,
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: ٩) , وقد
شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن
دُونِ المُؤْمِنِينَ} (آل عمران: ٢٨) [١] .
هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر بن الخطاب إلى جعل
رجال دواوينه من الروم , وجرى الخليفتان الآخران , وملوك بني أمية مِن بعدِهِ
على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية. وبهذه
السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في إناطة أعمال
الدولة باليهود والنصارى والصابئين , ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها
ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى. ومع هذا كله يقول متعصبو أروبا: إن
الإسلام لا تساهل فيه! ! (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ) ألا إن التساهل قد خرج عند
المسلمين عن حده حتى كتب الأستاذ الإمام في ذلك مقالةً في العروة الوثقى صَدَّرَهَا
بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها؛ لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار
بها على أكمل وجه، وهذا نصها (نقلاً من الجزء الثاني من تاريخه) :
قالوا: تصان البلاد , ويحرس الملك بالبروج المشيدة , والقلاع المَنِيعة ,
والجيوش العاملة , والأهُب الوافرة , والأسلحة الجيدة. قلنا: نعم , هي أحراز
وآلات لا بُدَّ منها؛ للعمل فيما يقي البلاد , ولكنها لا تعمل بنفسها , ولا تحرس
بذاتها فلا صيانةَ بها، ولا حراسةَ إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولو رأي
وحكمة يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم , ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب ,
وليس بِكَافٍ حتى يكونَ رجال من ذوي التدبير والحزم , وأصحاب الحذق والدراية
يقومون على سائر شئون المملكة , يوطئون طرق الأمن , ويبسطون بساط الراحة ,
ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل , ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة , ثم
يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية؛ ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها
بينها بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها. ولن
يكونوا أهلاً للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد ,
طافحة بالمرحمة والشفقة على سُكّانها , وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم ,
آخذة بطباعهم , يجدون في أنفسهم مُنَبِّهًا على ما يجب عليهم , وزاجرًا عما لا يليق
بهم , وغضاضة وأَلَمًا مُوجِعًا عندما يمس مصلحة المملكة ضرر , ويوجس عليها
من خطر؛ لِيتيسر لهم بهذا الإحساس , وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما
ينبغي , ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليلُهُ إلى فساد كبير في الملك،
فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية , والقوة الغالبة.
يسهل على أي حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب , ويجمع الجنود , ويوفر
العدد من كل نوع بنقد النقود , وبذل النفقات , ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك
الذين أشرنا إليهم: عقلاء , رحماء , أباة , أصفياء تهمهم حاجات الملك كما تهمهم
ضرورات حياتهم.
لا بُدَّ أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة , ويراعى ناموس الطبيعة؛
فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ , وتكشف له خفيات الدقائق , , وَقَلَّمَا
يخطئ في رأية أو يتأوَّد في عمله مَنْ أَخَذَ به دليلاً , وجعلَ له من هديه مرشدًا , وإذا
نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية , وطلب
أسبابها لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة والانحراف عن سنة الله في
خلقه.
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنُّعرَة على
الملك والرعية , إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها.
هذه فطرة فطر اللهُ الناسَ عليها.
إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس والمشرب يراعي نسبته إليها , ونسبتها
إليه , ويراها لا تخرج عن سائر نسبه الخاصة به , فيدافع الضيم عن الداخلين معه
في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه (راجع رأيك فيما تشهده كثيرًا حتى بين
العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر , أو دينه بسوء على وجه عام؛ كسوري
ينتقد المصريين , أو مصري ينتقد السوريين) هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن
ما تناله أمة من الفوائد يلحقه حظّ منها , وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه
خصوصًا إن كان بيده هامات أمورها , وفي قبضته زمام التصرف فيها فإن حظه
(حينئذ) من المنفعة أوفر , ومصيبته بالمضرة أعظم , وسهمه من العار الذي يلحق
الأمة أكبر؛ فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها , وحرصه على سلامتها
بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة.
فعلى ولي الأمر في مملكة أن لا يَكِلَ شَيْئًا مِن عملِهِ إلا إلى أحد رجلين إما
رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق , موقرة في نفوس
المنتظمين فيها , محترمة في قلوبهم , يحملهم توقيرها واحترامها على التغالي في
وقايتها من كل شَيْن يدنو منها , ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان.
وإما رجل يجتمع معه في دِين قامت جامعته مقام الجنسية , بل فاقت منزلته من
القلوب منزلتها , كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين وإن اختلفت شعوبهم مَحَلّ
كل رابطة نسبية , فإن كلاً من الجامعتين (الجنسية على النحو السابق , والدينية)
مبدآن للحمية على الملك , ومنشآن للغيرة عليه.
أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس , ولا في دين تقوم
رابطته مقام الجنس , فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت لا يهمه إلا استيفاء
أجرته , ثم لا يبالي أَسَلِمَ البيت، أو جرَفَه السيل، أو دكَّته الزلازل. هذا إذا صدقوا
في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر واقفين فيها عند الرسم الظاهر ,
فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها , ولا يمسه شيء مما يمسها
من الضّعَة؛ لأنه منفصل عنها إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب
إليه , بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه , لاصق بمنبته في جميع شئونه ما
عدا الأجر الذي يأخذه , وهذا معلوم ببداهة العقل , فلا يجد في طبيعته , ولا في
خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك , أو الحرص الزائد على ما
يعلي شأنه , بل لا يجد باعثًا على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه.
هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض
أُخَرَ , فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارًا من الفقر والفاقة ,
وضربوا في أرض غيرهم طلبًا للعيش من أي طريق , وسواء عليهم في تحصيله
صدقوا أو كذبوا , وسواء وفوا أو قصروا , وسواء راعوا الذمة أو خانوا أو لو كانوا
مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على
الأقطار التي يتولون الوظائف فيها (كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية؛ لا
يجدون في أنفسهم حاملاً على الصدق والأمانة , ولكن يجدون منها الباعث على
الغش والخيانة) ومن تتبع التواريخ التي تمثل لنا أحوال الأمم الماضية , وتحكي لنا
عن سُنَّة الله في خليقته , وتصريفه لشئون عباده رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما
كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها , كما تعرف لهم حقهم، وما كان شيء
من أعمالها بيد أجنبي عنها , وإن تلك الدول ما انخفض مكانها , ولا سقطت في هُوَّة
الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها، وارتقاء الغرباء إلى الوظائف
السامية في أعمالها، فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار خصوصًا إذا
كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها
دماؤهم , وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة.
نَعَم , كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية بسبب العوارض
الخارجية , كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين أو الأمة , ويطرأ
النقص على شفقتهم ومرحمتهم؛ فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا
كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حقَّ قدرها , وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة
على فرائضهم العامة , فيقع الخلل في نظام الأمة , ويضرب فيها الفساد , ولكن ما
يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام
الأجانب لهامات الأمور في البلاد؛ لأن صاحب اللُّحْمَة في الأُمّة وإن مرضت
أخلاقُه , واعتلت صفاتُه إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجُِبْلَة لا يمكن محوه
بالكلية , فإذا أساء في عمله مَرَّةً أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية ,
فيرجع إلى الإحسان مَرَّةً أخرى , وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا
يزال يجذبه آونةً بعد آونةٍ؛ لمراعاتها والالتفات إليها , ويميله إلى المتصلين معه
بتلك العلائق وإن بعدوا.
لهذا؛ يحق لنا أن نأسف غايةَ الأسف على أُمَراء الشرق , وأخص مِن بينهم
أمْر المسلمين حيث سلموا أمورهم , ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية
للأجانب عنهم , بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولّوهم خدمتهم الخاصة
بهم في بطون بيوتهم , بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكتهم في ممالكهم بعدما رَأَوْا
كثرة المطامع فيها لهذا الزمان , وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال
بعيدة بعدما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا، وإذا عززوا أهانوا يقابلون
الإحسان بالإساءة، والتوقير بالتحقير، والنعمة بالغفران، ويجازون على اللقمة
باللطمة، والركون إليهم بالجفوة، والصلة بالقطيعة، والثقة فيهم بالخدعة.
(أَمَا آنَ لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض؟ ألم يأن لهم أن
يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم؟ ألم يأْتِ وقْتٌ يعملون فيه بما أرشدتهم الحوادث ,
ودلتهم عليه الرزايا والمصائب؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم
وأيدي أعدائهم، ألا أيها الأُمَرَاءُ العظامُ , ما لكم وللأجانب عنكم؟ {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: ١١٩) قد علمتم شأنهم، ولم تَبْقَ رِيبَة في
أمْرهم، {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران:
١٢٠) سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم , وأقبلوا عليهم ببعض ما
تقبلون على غيرهم تجدوا فيهم خيرَ عون وأفضلَ نَصِير، اتبعوا سُنَّة الله فيما
ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين، وراعوا حكمته البالغة فيما أَمَرَكم ,
وما نهاكم كَيْلاَ تضلوا ويهوي بكم الخَطَل إلى أسفل سافلين. ألم تروا , ألم تعلموا , ألم
تحسبوا , ألم تجربوا؟ ؟ إلى متى إلى متى , إنا لله وإنا إليه راجعون) . اهـ
هذا بيان يريك بالحجج الاجتماعية الناهضة أن الغريب عن المِلّة لا يُتخذ
بطانة للقائمين بأمْر الملة، والغريب عن الدولة لا يتخذ بطانة لرجال الدولة، وإن لم
يكن هؤلاء الغرباء مُتَّصِفِينَ بما ذكر في الآية من العدوان والبغضاء؛ فكيف إذا
كانوا كذلك.
بَيَّنَتْ لنا الآيةُ التي فَسَّرْناها بعض حال أولئك الذين نُهِيَ المؤمنون عن اتخاذ
البطانة منهم مع المؤمنين , فدونك هذه الآية التي تبين حال المؤمنين معهم: {هَا
أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: ١١٩) فالقرآن ينطق بأفصح
عبارة وأصرحها , واصفًا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام , وهو
أنهم يحبون أشد الناس عداوةً لهم , الذين لا يقصرون في إفساد أمْرهم , وتمني
عنتهم على أن بغضاءهم لهم ظاهرة , وما خفي منها أكبر مما ظهر.
أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ} (المائدة: ٨٢) إلخ , يعني: أولئك اليهود
المجاورين لهم في الحجاز. أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين ,
وإقرار القرآن إياهم على ذلك - لأنه من آثار الإسلام في نفوسهم - هو أقوى
الْبَرَاهِينِ على أن هذا الدِّين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح , لا يمكن أن يصوب
العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك؟ بلى , ولكن وجد في الناس من ينكر عليه
ذلك , ويصفه بضده زورًا وبهتانًا، بل تعصّبًا خرّوا عليه صمًّا وعميانًا.
من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان؟ لا أقول إنهم النصارى
الذين كانوا أجدرَ بحبنا وودنا من اليهود لقوله تعالى في تتمة الآية التي استشهدنا بها
آنفًا: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: ٨٢)
بل هم قُسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام مِن حيث هو دِين، وساستها
المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك.
فأوربا التي تتهم الإسلام - والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام - بالتعصب
والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك , فإنها لم
تقو على إبادتهم حتى الآن , ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم.
فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر تعصب أوروبا ,
ولكنهم لا قوةَ لهم على الدفاع عن أنفسهم أمامَ أولئك المعتدين.
أما قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: ١١٩) , فمعناه
أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب سواء منه ما أنزل عليكم , وما نزل عليهم ,
فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية , أو النبيين الذين جاءوا بها ما
يحملكم على بُغض أهل الكتاب , فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا. وذكر بعضهم
أن جملة {وَتُؤْمِنُونَ} (آل عمران: ١١٩) حالية من قوله: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: ١١٩) والمعنى أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم ,
فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحق ببغضهم ,
أي: ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم.
قال ابن جرير: في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين أعني
المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب
أولئك، وغلطتهم على أهل الإيمان، كما حدثنا بِشْر قال: حدثنا يزيد قال:
حدثنا سعيد. عن قتادة: قوله: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: ١١٩) , فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه
ويرحمه , ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المنافق منه لأباد خضراءه.
(حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج. عن ابن جرير قال:
(المؤمن خير للمنافق من المنافق؛ يرحمه , ولو يقدر المنافق من المؤمن على مِثْلِ ما
يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه) . ا. هـ
فهؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون: إن المسلم خير للكافر وللمنافق
منهما له حُبًّا ورحمةً ومعاملةً. وكذلك قالوا في السني مع المبتدع , كما بين ذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية؛ قالوا: إن من علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم
ولا يقطعوا أُخُوَّتَهُ في الدِّين؛ ولذلك يذكرون في كتب العقائد: (لا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِن
أهل القِبْلَة) بل كان رُوَاة الحديث مِن أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم
وأصحاب السنن يروون عن الشيعة والمعتزلة , لا يلتفتون إلى مذهب الراوي ,
بل إلى عدالته في نفسه.
ونتيجة هذا كله أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البَشَر
على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح , وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا
يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: ١١٩) ؛ فبهذا نحتجُّ على من يزعم أن ديننا يغرينا ببعض المخالف
لنا , كما نحتج على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم
وفضلائهم، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم، أو في ظنونهم وأهوائهم،
والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين، فاستحلوا هَضْمَ حقوق المخالفين لهم في
الدِّين.
ثم قال تعالى شَأْنُهُ مُبَيِّنًا لشأن طائفةٍ منهم , أسندها إليهم في الجملة على قاعدة
تكافل الأمة , وكونها كشخص واحد {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} (آل عمران: ١١٩) كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نفاقًا وخداعًا , ومنهم من كان يظهره، ثم يرجع عنه
ليشكك المسلمين كما تقدم في آية (٧٢) من هذه السورة [٢] وإذا خلا بعضهم إلى
بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التشفي
سبيلاً. وعَضّ الأنامل كِنايَة عن شدة الغيظ , ويكنى به أيضًا عن الندم {قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ} (آل عمران: ١١٩) فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد
باعتصام أهله به إلا عزةً وقوةً وانتشارًا , وقال ابن جرير: (موتوا بغيظكم الذي
على المؤمنين؛ لاجتماع كلمتهم , وائتلاف جماعتهم) , فَلْيَعْتَبِرِ المسلمون اليومَ بهذا
لَعَلَّهم يتذكرون أنه ما حَلَّ بهم ما حَلّ من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع
والائتلاف , وبالتفرق بعد الاعتصام {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران:
١١٩) , فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء , وموجدة الحقد
والحسد، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك،
ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشرَ المؤمنين من حب الخير والنصح لكم.
ثم قال مُبَيِّنًا حسدهم وسوء طويتهم {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران: ١٢٠) , المس في الأصل كاللمس , والمراد
بتمسسكم هنا: تصبكم , ولعل اختيار لفظ لمس في جانب الحسنة والإصابة في جانب
السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسؤوهم ما يصيب المسلمين من خير , وإن قَلّ
بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد , وإنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين
إصابةً يشق احتمالها.
هذا ما كان يتبادر إلى فهمي , ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى
واحد , ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر , ويقول: إن المس
مستعار للإصابة. ثم خطر لي أن أراجع تفسير أبي السعود , فإذا هو يقول: (وذكر
المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة
الحسنة , ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة. وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة)
والأول هو الأوجه , وهو من دقائق البلاغة العليا.
والحسنة المنفعة، سواء كانت حسيةً أو معنويةً , وأعظمها انتشار الإسلام ,
ودخول الناس فيه , وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم. قال
قتادة في بيان ذلك - كما رواه عنه ابن جرير -: (فإذا رأوا من أهل الإسلام أُلْفَةً
وحمايةً وظهورًا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم , وإذا رأوا من أهل إسلام فُرْقَةً
واختلافًا، وأصيب طرف من أطراف المسلمين سَرَّهم ذلك، وأعجبوا به، وابتهجوا
به؛ فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته، وأبطل حجته
وأظهر عورته، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم , وفيمن بقى إلى يوم القيامة) .
ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إِنْ تَمَسَّكُوا به سَلِمُوا من كَيْدِهِم الذي يدفعهم إليه
الحسد والبغضاء؛ فقال: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل
عمران: ١٢٠) ذهب بعضهم إلى أن المراد: وإنْ تصبروا على عدوانهم وتتقوا
اتخاذهم بطانة، وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كَيْدُهُمْ لكم وهم بمعزل عنكم.
وذهب آخرون إلى أنّ المراد: وإنْ تصبروا على مشاق التكاليف , وامتثال الأوامر
عامَّة , وتتقوا ما نُهِيتُم عنه وحظر عليكم - ومنه اتخاذ البطانة منهم - لا يضركم
كيدُهم.
و {يَضُرُّكُمْ} (آل عمران: ١٢٠) بتشديد الراء من الضَّرَرِ , وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب] يَضِرْكُمْ [بكسر الضاد وسكون الراء المخففة , مِن ضَارَه يَضِيرُهُ , والضَّيْرُ بمعنى المَضَرَّة.
وقال الأستاذ الإمام: إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس،
وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه؛ فإن من لذات
النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تَسْكُن إليه , وتأنس به , فلما نُهُوا عن اتخاذ
بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشائرهم وحلفائهم، وعلل بما علل به من بيان
بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على التكليف الشاقّ عليهم , وباتقاء ما
يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم. ويصح أن يُراد بالتقوى الأخذ
بوصاياه وامتثال أمْره تعالى في البطانة وغيرها.
أقول: ومن الاعتبار في الآية أنه تعالى أَمَرَ المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك
المبغضين الكائدين , وباتقاء شرهم , ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله ,
وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة بالحسنة إنْ
أَمْكَنَ كما قال: {وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: ٣٤) , فإن لم يكن تحويل العدو إلى
محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها , فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا
اعتداء , كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة بني النضير الذين نزلت
الآية فيهم أوّلاً بالذات , فإنه حالفهم ووادهم , فنكثوا وخانوا غير مَرَّة؛ أعانوا قريشًا
يومَ بدر , وادعوا أنهم نسوا العهد , ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزّبوا لإبادة
المسلمين , ثم حاولوا قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم , فتعذرت موادتهم واستمالتهم
بالمحبة وحسن المعاملة , فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضَرْبةَ لاَزِبٍ.
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: ١٢٠) قال الأستاذ
الإمام ما مثاله: المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه , فهو إذا دلّ على طريق
النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم قائمًا يدل على الطريق
الموصل للنجاة حتمًا، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعًا، فالكلام كالتعليل لكون
الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
وهناك وجه آخرُ وهو أن الخطاب بـ (تعلمون) عام للمؤمنين والكافرين
جميعاً - يعني على قراءة الحسن وأبي حاتم (تعملون) بالمثناة الفوقية أو على
الالتفات - ومن كان عالمًا بعمل فريقين متحادين , محيطًا بأسباب ما يصدر عن كل
منهما ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما
للآخر , ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك
المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه , فهداية الله تعالى للمؤمنين خير ما
يبلغون به المآرب، وينتهون به إلى أحسن العواقب.
وأقول: إن الإحاطة إحاطتان إحاطة علم , وإحاطة قدرة ومنع. وهذا التفسير
مبني على أن الإحاطة هنا إحاطة علم؛ لتعلقها بالعمل , وذلك من المجاز الذي
ورد في التنزيل كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: ١٢) , وقوله:
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} (يونس: ٣٩) , وأما الإحاطةُ بالشخص أو
بالشيء قدرة , فهي تأتي بمعنى منعه مما يُرَادُ به , وهذا ليس بمراد هنا , وبمعنى
منعه مما يريده , وبمعنى التمكن منه , ومنه الإحاطة بالعدو؛ أي: أخذه من جميع
جوانبه بالفعل , أو التمكن من ذلك؛ ومنه قوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (البقرة: ٨١) وقوله: {إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (هود: ٩٢) وقوله:
{وَظَنُّوُا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (يونس: ٢٢) كل هذا من بابٍ واحدٍ وإنْ فسر كل قول
بما يليق به. فيصح أن يكون منه ما نحن فيه, والمعنى حينئذ أن الله قد دلكم يا معشرَ
المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم؛ فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه
محيط بأعمالهم إحاطةَ قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله:
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} (الفتح: ٢١) فعليكم بعد القيام بما
يجب عليكم أن تثقوا به , وتتوكلوا عليه.
ومن مباحث اللفظ في الآيات قولُهُ: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ} (آل عمران: ١١٩)
أصله: أنتم هؤلاء؛ فَقُدِّمَتْ أداةُ التنبيهِ التي تَلْحَق اسم الإشارة (أولاء) على
الضمير. ويُقال في المفرد (ها أنا ذَا) وعلى ذلك فَقِسْ. وإعرابه: ها: للتنبيه ,
وأنتم: مبتدأ , وأولاء: خبره , وتحبونهم: في موضع النصب على الحال , أو
خبر بعد خبر. وَجَوَّزَ بَعْضُهم أن تكون أولاء اسمَ موصول , وتحبونهم: صِلَتَهُ.