للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المؤتمر الإسلامي

سبق لنا قول في المؤتمر الإسلامي الذي اقترحه إسماعيل بك غصبرنسكي
القريمي , ونقول الآن: إن اللجنة التي تألفت للبحث في ذلك، وسمت نفسها اللجنة
التأسيسية قد وضعت لهذا المؤتمر قانونًا طبعته وأرسلته مع دعوة عَامَّة مطبوعة
بالعربية والتركية والفارسية إلى الجرائد الإسلامية في القطر المصري وغيره من
الأقطار الإسلامية , وإلى من عرفت من أهل الفضل والرأي من المسلمين. وقد
جعلت الباب الثاني من القانون خاصًّا ببيان موضوع المؤتمر، وفيه ثلاث (مواد)
نذكرها بنصها وهي:
(المادةُ الرابعةَ عَشْرَةَ) وظيفة المؤتمر هي البحث في الأسباب التي أوجبت
تأخّر المسلمين من الوجهة الاجتماعية , ومما داخل الدين من البدع والنظر في إزالة
تلك الأسباب , وفيما يؤدي إلى رقيهم.
(المادة الخامسةَ عَشَرَ) لا تُقْبَل الآراء التي تُعْرَض من الوجهة الدينية إلا إذا
كان لها سندٌ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.
(المادة السادسةَ عشْرةَ) لا يجوز التعرض في مناقشات المؤتمر وأبحاثه
للمسائل السياسية أيًّا كان نوعها. اهـ
وقد سرنا موافقة الشيخ سليم البشري رئيس اللجنة على المادة الخامسة عشرة
سرورًا عظيمًا , وعددناها من بشائر الإصلاح، وأمارات النجاح، ذلك بأن
الإصلاح الإسلامي مع التزام المذاهب المعروفة والجمود على كتب متبعيها محال ,
ولذلك جرينا في المنار على اتباع الدليل في المسائل الدينية , وترك التقليد , وإقامة
الحجج على المقلدين؛ لأن المنار كالمؤتمر عامّ لجميع المسلمين.
وقد قلنا في مقالة طويلة عنوانها (بحث في المؤتمر الإسلامي) نشرناها في
الجزء التاسع من السنة الماضية ما نصه (ص٦٨٠م١٠) :
ثم إنه ينبغي أن تكون القاعدة الأساسية الأولى للإصلاح الديني في المؤتمر
هي المحافظة على المُجْمَع عليه عند المسلمين , لا سِيَّمَا ما كان منه معلومًا من الدين
بالضرورة , وذلك هو القرآن المجيد , وما استفيد منه بالنص القطعي وبعض السنن
المتبعة - ونَعْنِي بالسُّنَّة معناها اللغوي الذي كان يفهمه الصحابة , ومنه ما هو فرض
أو واجب ككون الصلوات المفروضة خمسًا، رَكَعَات كل صلاة منها كذا يقرأ فيها
كذا , ويركع في كل ركعة مرة , ويسجد مرتينِ , ومنها ما هو مندوب في اصطلاح
الفقهاء كما هو معروف.
ذلك أن المؤتمر الإسلامي عامّ لجميع المسلمين , وفيهم السُّنِّيّ السلفي وغير
السلفي , والشيعي , والإباضي. ومِن السُّنِّيَّة الحَنَفِي والمالكي ... إلخ , ومن الشيعة
الجعفري والزيدي، فالذي يجمع بين هؤلاء ويوحد كلمتهم هو كتاب الله والسنن
العملية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي عن آله وأصحابه رضي
الله عنهم.
وبذلك يكون المؤتمر غير مقيد بالتقاليد الاجتهادية التي تثير النزاع وتفرق
الكلمة فلا يمنع أعضاءه مانع من الاعتصام بحبل الله , ودعوة سائر المسلمين
إلى الاعتصام به.
كتبنا هذا لِتنبيهِ لجنة المؤتمر قبل الابتداء بعملها إلى الأساس الذي لا يفيد
المؤتمر بدونه شيئًا , وكنا نخاف أن يحاول من دخل في اللجنة من علماء الأزهر
تقييد المباحث الدينية في المؤتمر بنصوص كتب المذاهب , وكان أخوف من نخاف
في ذلك رئيس اللجنة الشيخ سليم البشري؛ لأنه كان يبلغنا عنه أنه ممن ينكرون
على المنار الإنحاء على التقليد والاعتماد في مباحثه على الأدلة الشرعية , فلما
رأيناه الآن، وافق على قانون الذي جعل أساس مباحثه الدينية الاجتهاد دون التقليد
حلّ الرجاء محل الخوف , ووجب علينا أن نثني على الأستاذ الكبير الشيخ سليم
البشري أجمل الثناء , فحياه الله تحيةً مباركةً طيبةً.
إنما قصرنا الثناء على الشيخ سليم من دون سائر أعضاء اللجنة الواضعة
لهذا القانون؛ لأن معارضة مثل الشيخ سليم من كبار العلماء أصحاب الشهرة
والصفة الرسمية في مسألة إجازة الاجتهاد ومنع التقليد تعدّ عقبة في سبيل الإصلاح ,
وموافقته عليها تعد تمهيدًا عظيمًا لهذه السبيل التي هي سبيل الله , وعونًا كبيرًا
للسالكين فيها، ولا نبخس أحدًا من أعضاء اللجنة حَقَّهُ، ولا نظلمه شيئًا من فضله،
بل نرجو أن يكثر فينا من أمثالهم الجاهرون بهذه الدعوة , كما كثر المعتقدون لها
وإن لم يصرحوا بها.
إن في علماء الأزهر كثيرين يعتقدون بطلان التقليد , ووجوب اتباع الدليل ,
ولكن يقل فيهم من يجهر بذلك قولاً , ويندر من يتجرأ منهم على كتابة ذلك في
الصحف المنشرة , والدعوة إليه على رءوس الأشهاد؛ ذلك بأن كبراء الشيوخ ذوي
المكانة عند الأمراء والشهرة عند العامة ينكرون ذلك على قائله , ويضطهدونه إن
استطاعوا , ويبالغون في ذلك مبالغةً هي عندي من مثارات العجب. أفلا يحق لنا
إذًا أن نكبر إجازة الشيخ سليم البشري جعل قبول ما يقدم للمؤتمر من الآراء
والمباحث الدينية مشروطا بأن تكون مُؤَيَّدَةً بدليلٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو
القياس , ونحن نعلم أنه من أولئك الشيوخ الكبراء , بل هو في ناصيتهم وذروتهم إذ
هو شيخ المالكية وكبيرهم الآن , وكان بالأمس شيخ الأزهر؟ وقد اشتهر بأنه أعلم
أهل الأزهر الآن بالحديث , ولعلّ الخير جاء من هذه الناحية فأهل الحديث ما زالوا
أبعدَ الناس عن التقليد.
ونعود إلى مباحث المؤتمر , فنقول: إن المباحث الدينية قد اشتُرِط فيها هذا
الشرط الذي سررنا به على إجماله , وأما المباحث الاجتماعية فلم يشترط فيها شيء ,
وإذا يسر الله واجتمع المؤتمر فإننا سنحتاج إلى تحديد ما هو اجتماعي غير ديني؛
وفي ذلك من العُسْر ما فيه لا سِيَّمَا في المسائل العائلية والمالية , بل أقول: إن المسألة
الجنسية لها علاقة عند المسلمين بالدين , وقد كان السيد جمال والشيخ محمد عبده
يقولان: إن المسلمين لا جنسيةَ لهم في غير دينهم , ولكن كثيرًا من الأتراك
والمصريين يقولون اليوم بجنسية النسب , وجنسية الوطن , ولا يعدون هذا مما
يتعلق بالدين , وهذه المسألة من أكبر المسائل التي ننتظر من المؤتمر - إنِ اجْتَمَعَ -
حَلّ عقدتها.
ذكر إسماعيل بك غصبرنسكي في أحد أعداد جريدته (ترجمان أحوال زمان)
أن أحد أذكياء الترك يريد أن يلقي في المؤتمر خطابًا يبيّن فيه أن ارتقاء أمة الترك
يتوقف على انفصالها من العربية لغةً ودينًا وسياسةً! ! ! وربما يسمع المصري
وغير المصري ممن لا يعرفون الغايةَ التي وصلت إليها نابتة الترك من التفرنج هذا
القول , فيرونه عجيبًا غريبًا , ولكن لا يعجب منه مَن يعلم أن كبار الترك قد دارَتْ
بينهم مناقشاتٌ طويلة في هذه المباحث استمرت عِدَّة سنين , وكان فيهم من كتب مثل
هذا الرأي حتى غلا بعضهم , فقال: إنه يجب تطهير التركية مما فيها من مفردات
اللغة العربية.
نحن نَعُدُّ هذا شذوذًا وغلوًّا، ويوافقنا على رأيِنا كثير من فضلاء الترك لا
سِيَّمَا المتدينين منهم. وإذا انعقد المؤتمر فإن جمهور المسلمين من جميع الشعوب
سيسمعون من أخبار أمراض المسلمين الاجتماعية والدينية ما لا يخطر لهم الآن في
بال، ونسأل الله أن يحسن العاقبة والمآل.