للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بحث (ما ومن) وتفسير سورة الكافرون ١٠٦

(س٥) من محمد حسيب أفندي عامر وكيل تلغراف (بلبيس - شرقية) .
حضرة العلامة المفضال صاحب المنار
بعد السلام والتحية؛ نرجوكم إيضاحَ معنى لفظة (ما) , وما تشير إليه في
قوله عز وجل: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:
٢-٣) , فإني إنْ أعطيتها حكم غير العاقل كقاعدتها النَّحْوِيّة استحال ذلك على
المولى سبحانه وتعالى، وإن أعطيتها حكم العاقل فالأصنام وما كانوا يعبدون ليست
بذي عقل، أفيدوني مأجورين والسلام.
(ج) قالوا: إنّ لفظ (ما) هنا أُرِيد به الصفة، أي: (المعبود) وإذا أريد
بها الصفة تطلق على العاقل وغيره. وجوَّزَ بعضُهم أن يكونَ إطلاقُها على الله عز
وجل بعد إطلاقها على الأصنام من قبيل المشاكلة؛ لأجل التناسق في التعبير.
ولعل السائلَ يعلمُ أنه نقل عن سيبويه وغيره أن كون (ما) لما لا يعقل أغلبي
لا مطرد , والشواهد عليه من التنزيل وكلام العرب معروفة، قال الزمخشري في
الكشاف: و (ما) عام في كل شيء , فإذا علم فرق بما ومن وكفاك قول العلماء:
(من لما يعقل) اهـ أي: فأَطْلَقُوا (ما) على العاقل في نفس القاعدة التي ذكروا فيها
أنّ (مَن) خاصّة بالعاقل.
وفي حاشية الأمير على المغني بعد ذكر عبارة الكشاف: قال التفتازاني: أي يصحّ
إطلاقُ ما على ذي العقل وغيره عند الإبهام؛ لاستفهام أو غيره , فإذا علم أن الشيء
من ذوي العلم والعقل فرق بمن وما , فتختص (من) بالعاقل , و (ما) بغيره. وبهذا
الاعتبار يقال: إن (ما) لغير العقلاء. واستدل على إطلاق (ما) على ذوي العقول
بإطباق أهل العربية على قولهم: (مَن لِمَا يَعقل) مِن غير تجوّز في ذلك حتّى لو قِيل: (لمن يعقل) . كان لغوًا بمنزلة أن يقال: الذي عقل عاقل. فإن قِيل: كان الواجب هنا أن يفرق بما ومن؛ لأن ما يعقل معلوم أنه من ذوي العلم. قلنا: نعم , لكن بعد اعتبار الصلة , أعني (يعقل) . وأما الموصول نفسه فيجب أن يعتبر مبهمًا مرادًا به شيء ما ليصح في موقع التفسير بالنسبة إلى من لا يعلم مدلول
(من) وليقع وصفه بـ (يعقل) مفيدًا غير لغو.
ومحصله أنك إنْ لاحظْتَ العاقل مِن حيثُ إنه عاقل استعملت فيه: (من)
وإن لاحظته مِن حيثُ إنه شيءٌ ما استعملت فيه (ما) كما تقول: ما الإنسان؟ .
اهـ وأنت تعلم أن (ما) في السورة ليست لبيان أن مدلولها عاقل أو عالم , بل لبيان
أنه شيء معبود , فاستعمل فيه اللفظ العام الذي تفسره الصلة.
هذا , وإنني رأيتُ بعض الناس لا يفهمون معنى السورة , وقد سألني غير
واحد بالمشافهة عن معنى ما فيها من صورة التكرار , فأحببت أن أورد هنا ما كتبه
الأستاذ الإمام في تفسيرها تتمة للفائدة , وهو:
الكافر هو المعاند الجاحد الذي إذا رأى ضياء الحق أغمض عينيه، وإذا سمع
الحرف من كلمته سَدَّ أذنيه، ذلك الذي لا يبحث في دليل بعد عرضه عليه، ولا
يذعن للحجة إذا اخترقت فؤاده، بل يدفع جميعَ ذلك حُبًّا فيما وجد نفسَه فيه مع
الكثير ممن حوله، واستند في التمسك به إلى تقليد من سلفه، فهذا الصِّنْف هو الذي
قال الله فيه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: ٢٢-٢٣) .
بعض هذا الصنف بل الغالب من أفراده يقول للداعي إلى الحق أو يحدث نفسه
ليلهيها عن فهمه: إلامَ يدعونا؟ أإلى الله , فَنَحْن نعتقد به؟ أإلى توحيده فنحن نوحده؟
وغاية ما في الأمر نتخذ شُفَعَاءَ إليه، نسأله بحقهم عنده أو بمكانتهم لديه، أإلى
عبادته فنحن نركع ونسجد له؟ وغاية ما عندنا زيادة على ذلك أننا نعظم أولياءَه ,
وأهل الشفاعة عنده، ونتوسل إليهم ليتوسلوا إليه.
هذه وساوسهم , وهذه أَمَانِيُّهُمْ فأراد الله سبحانه أن يقطع العلاقة بينهم وبين ما
عليه الداعي إلى الحق صلى الله عليه وسلم بأصرح ما يمكن أن يصرّح به , فقال له:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: ١-٢) أي: إنّ الإله الذي
تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم إنما تعبدون ذلك الذي يتخذ
الشفعاء أو الولد أو الذي يظهر في شخص أو يتجلى في صورة معينة أو نحو ذلك مما
تزعمون , وإنما أعبد إلهًا منزهًا عن جميع ما تصفون به إلهكم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ} (الكافرون: ٣) أي: إنكم لستم بعابدين إلهي الذي أدعو إليه كما تزعمون،
فإنكم زعمتم أن الذي تعبدونه يتقرب إليه بتعظيم الوسائط لديه، فتوسلتم بها إليه،
وتعتقدون أنه يقبل توسطها عنده، فهذا الذي تعبدونه ليس الذي أعبد فلهذا لا
تعبدون ما أعبد , بل تعصونه وتخالفون أمره، ثم لما كانوا يظنون أن عبادتهم التي
يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لهم وبأسمائهم، أو يؤدونها لله في
المعابد الخاصة به أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء - عبادة لله خالصة،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم في شيء نفى أن تكون عبادته
مماثلةً لعبادتهم , وأن تكون عبادتهم مماثلةً لعبادته , فقال: {وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} (الكافرون: ٤) فـ (ما) هذه مصدرية وليست بالموصولة , مثل التي تقدمت
أي: ولا أنا بعابد عبادتكم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: ٥) أي: ولا
أنتم عابدون عبادتي.
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود , ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة , فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزّه عن النّدّ والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، أو المحاباة لشعب أو واحد بعينه، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره
بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه، والذي تعبدونه على خلاف ذلك.
وعبادتي مخلَصة لله وحدَه، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله
تعالى , فلا تُسمى على الحقيقة عبادة فأين هي من عبادتي {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: ٦) دينكم مختص بكم لا يتعداكم إليَّ , فلا تظنوا أني عليه أو على شيء
منه {وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: ٦) [*] أي: ديني هو دين خاصّ بي، وهو
الذي أدعو إليه، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه، ولا يخفى أن هذا المعنى الذي
بيناه هو ما يهدي إليه أسلوب السورة الشريفة خصوصًا هذه الآية الأخيرة {لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: ٦) , فإنها صريحة في أن المراد: نفي الخلط المزعوم.
وما دلت عليه السورة هو ما دلت عليه آية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) أي: لا علاقة بينك وبينهم لا في المعبود ولا في
العبادة. وأما ما قيل من غير ذلك فإن صحّ شيء مما وردَ فيه , فاحمله على معناه
مستقلاًّ عن معنى السورة , ولا تَغْتَرَ بكل ما يُقال , فأفضل ما تفهم هو أقرب ما
يفهم والله أعلم. اهـ