للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح بن علي اليافعي


السنن والأحاديث النبوية

بحث العمل بالحديث وبحث التواتر
يقول حضرة الدكتور: أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد , ثم قال: ولكن ذلك
لا يوجب العمل بها على المسلمين، ولا يلحقها بالقرآن الشريف.
الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقول إن الله - جل شأنه - أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم
في كل ما أرسلوا به , وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله.
وبعبارة أخرى: لم يقُلْ أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته: إنه يجب على الله أن
ينزل عليه كتابًا يقرأه، أو كلامًا يتلوه بلفظه - بل عرفوا الرسول بأنه بشر أوحي
إليه بشرع , وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أم بالفعل , على أن القول
مقدم على الفعل ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل , والله - جل شأنه - لم
يخصص طريقًا ولا طرقًا معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى مَن نأى وبعد
مكانًا أو زمانًا , ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من
الدين بغير تواتر معذور , ولم يقل ذلك أحد من رسله , أو ممن يعول عليه من
أتباعهم , بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شئون دنياهم الاجتماعية.
وإنما مدار ذلك - والله أعلم - هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من
بلغه خبر , ولم يقصر في البحث عن صِحّته وصدقه , فحين تصديقه لا يجوز له
ردّه , وهذا هو الذي دلّ الشرع والعقلُ عليه , وعليه اتفق أهل المِلَلِ قاطبةً , وهذا
مما نجل حضرة الدكتور عن مخالفته.
بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لِئَلاّ يكون للناس عليه حُجّة , وهو لا يأمر
بالمحال ولا يكلف نفسًا إلا وسعها , فلو أوْجَبَ على الأمم تبليغ كل مسألة مِن شرعه
بالتواتر , وعلى المبلغين ردّ غير التواتر لَكان ذلك تكليف ما لا يطاق مستلزمًا
لِملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزّهٌ عن
إرادة ذلك فَبَطَلَ اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين.
دلّ القرآن على أن من جاءته الحُجّة عن الله بتوسط رسله وردها جحدًا أو مكابرة
أو بما شاء كل ذلك وداناه - فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب.
ومن بلغته الحُجّة عن رسول من رسله حين وجوب طاعته في خصوص تلك
المسألة من طريق لا يردها في جميع شئونه , ولا ينكر صحتها بعد البحث والتنقيب
ثم ردّ ما جاء عن الرسول بتلك الطريق تشهيًا فلا شكَّ أنه معانِدٌ ومكابِرٌ ومنابذ
لطاعة ذلك الرسول , وسواء كانت هذه الطريق متواترة أو آحادية.
فقول حضرة الدكتور: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين - يعني
الأحاديثَ الصحاح الآحادي ولو كانت مشهورة ومستفيضةً. ثم قوله: (الدين الذي
يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم) يدلُّ بَلْ هو
ظاهِرٌ في أنّ مَن أنكَرَ واجبًا من الشرع فهو كافر؛ ولذلك احتاط في أنه لا يكون
الشيء واجبًا إلا إذا نقل بالتواتر.
والحق أن التواتر ليس شرطًا في وجوب الخبر كما أن من أنكر ما دل عليه
التواتر قد لا يكفر في بعض الصور , بل قد لا يكفر من أنكر بعض الواجبات عند
غيره , كما قد عرفت أن الحصر الذي ذكره غير مسلم , وذلك لأن الشيء قد يكون
متواترًا عند شخص دون شخص , وقد يختلف معنى التواتر وشرائطه عند أُنَاس
دون أُناس , بل التواتر عند بعض الناس لا يفيد العلم وعند بعضهم في بعض
صوره , وعلى قول الجمهور يمكن أن يوجد تواترٌ في أمْر ما , ويعسر على بعض
الناس معرفته , وتحقق وقوعه في ذلك الأمر بل يمكن أن يوافيه حمامه، قبل أن
يبلغ من ذلك مرامه، والحق أن من أنكر ما عرف وُجُوبه من دِين الإسلام , وصار
ذلك معلومًا له ولو بخبر الآحاد كفر , وكذلك مَن أنكر ما هو معلومٌ من الدِّين
بالضرورة , ولم يكن قريب عهد الإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء كفر , وإن لم يكن
منقولاً بالتواتر المعروف عند التواترية.
نحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلمَ , ولكن ننكر انحصار العلم
الخبري فيه , أو فيما باشرَ الشخص سماعه كما أنَّا لا نسلم أنّ ما هو متواترٌ عند
أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون.
إن من رمى التقليد جانبًا وتبرّأ من التعصب المشوم , وجعل الحق مطلبه ,
والإنصاف رائدَه , ونظر في أقوال العقلاء من هذا النوع البشري نَظَرَ الناقد البصير
علم علمًا لا يعتريه شكٌّ أنّ كل ما وجد عندهم من الحقّ فهو مطابقٌ أو مأخوذٌ مِمّا
جاء به المعصومون عليهم الصلاة والسلام عن الخلاق فاطر الأنام، وحيث كان
غرضنا في هذا المقام تحقيق الخبر المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما
يجب قبوله، وما لا يجب نقول.
* * *
العلم والطرق المؤدية إليه
الناس تكلموا على العلم وعلى الطرق المؤديّة إليه، فمنهم من شدد وضيّق ,
فلم يجعل إلى العلم سبيلاً غير ما أدركه بأحد حواسه , وهذا مع كونه إهمالاً لأفضل
ما امتاز به الإنسان في أعلى مدارج إنسانيته هو تعطيلٌ لجميع الارتفاقات , والتعاون
على تحصيل أنواع العلوم المختلفة المواضيع؛ إذ من المحال أن يقوم الفرد بتحصيل
جميع العلوم التي قد حققها وعرفها جميع البشر - فهؤلاء المضيقون غاية معتقدهم
تعرية الإنسان عن أكثر العلوم، والقضاء عليه بالوقوف دون مصاف كثير من الحيوان
والبهائم لما عرف من أن إحساس بعضها أقوى من إحساس الإنسان. ومِن نتائج
مذهبهم المشئوم ضياع وانحلال عُرَى التضامن الاجتماعي , وارتفاع الوثوق
مِن بينِ أفراد الناس في أشد ضروراتهم - ولذلك ترى هؤلاء المضيّقِينَ من أكثر
الناس تناقضًا في علومهم وأقوالهم وأفعالهم؛ لأنه مِن المستحيل عليهم التزام مذهبهم
الفاسد , ومن تتبع علومهم وأقوالهم وأفعالهم في جميع شئونهم وَجَدَهم على جانب
بعيد , وفي غاية المناقضة لما أصلوه مما ذكرناه عنهم.
ومن الناس من وسع بعض التوسعة لكنه أنكر حصول العلم من طريق الوحي ,
وهؤلاء هم الزنادقة المنكرون لوجود واجب الوجود أو المنكرون للنبوات،
وهؤلاء يئول إنكارهم إلى تنقيصه تعالى شأنه المؤدي إلى نفيه المؤدي إلى المحال
في الضروريات، والقدح في المشاهدات , وكون الشيء فاعلاً لنفسه أو مفعولاً
لغير فاعل.
ومن الناس من طلب الحق , وتبين له فساد قول هؤلاء وهؤلاء , واجتهد في
طلب الصواب، فسلم بأكثر الطرق المؤدية إلى العلوم لكنه أهمل بعضها لاشتراطه لها
شروطًا يعسر أو يتعذر وجودها , وهذه عدوى سرت إليه من مخالطة من تقدم
ذكرهم من الملحدين السابق ذكرهم.
فمن اشترط في وُجوب قَبُول الوحي - أي الشرع - أو اعتبار الأخبار مطلقًا:
المشافهة والسماع , أو بلوغه بالإجماع عملاً , أو التواتر - فقد نصب في طريقه
العقبات، وأقام دونه سدّ المحالات، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ونحن نسأل
حضرةَ الدكتور: هل تشترط ذلك في جميع العلوم التي يشتغل بها الناس، وفي جميع ما يتعلق بشئونهم الاجتماعية أم لا تشترط ذلك إلا بخصوص بلاغ الأحكام والمسائل الدينية؟ أنا لا أظُنّ أنه يلتزم ذلك في الأوّل , ولئن التزمه فالواقع
والمشاهدة تردّه , وهي أعدل حكم بلْ يلزمه من التناقض ما لزم المضيّقِين السابق
ذكرهم.
إذا بَطَلَ في الأول اشتراط ذلك ففي الأديان كذلك لما قدمنا من تلازم القدر
بالشرع فلا فرْقَ يُعْتَدّ به.
وعليه فالذي دلت عليه الكتب والشرائع السماوية، وهو ما عليه عامّة البشر
{فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: ٣٠) هو أن من ثبت لديه
بخصوصه صِحّة خَبَر وصدقه وجبَ عليه قَبُوله , وهو في حقّهِ علم حين تصديقه [١]
اللَّهُمَّ إِلاّ أنْ يكونَ الخبر ينتج ضررًا على أحد , والمخبر معلوم فسقه؛ فيجب التبين
والتروي حتى يظهر وينكشف حال ذلك الخبر , وكذلك مَن بلغَه الخبر عمن لا يعلم
حاله - والأمر ما ذكرناه - وجب عليه التنقيب , فإن صحّ لديه ذلك الخبر من
الطُّرُق الذي يصحح بها مثله وجب عليه قبوله , كما أنه يقبله في بقية شئونه الدنيوية,
ولا يجوز له اتباع هواه والتشهي والترجيح بلا مرجح.
لم يوجب الله علينا - مَعْشَرَ المسلمِينَ - التقيدَ بما أسس بعض الناس؛ بل
نهانا عن التقليد واتباع الآباء , وأوجب علينا النظرَ، فما وافقَ دينَنا الذي هو الدين
المستحيل مخالفته للعقل الصحيح قبلناه , وليس من العدل أن نترك ما لدينا مِن الحق
ونقتصر على ما لَدَى المُخالِفِين، وإنْ دلّ عليه ديننا، أمّا ما خالفَ ديننا فلا شكَّ أنه
مخالف للعدل والعقل.
وليس في الدين ولا في القرآن ولا في الحديث الصحيح ما يناقض ما دلّ العقل
الصحيح عليه [٢] ، ومن زعم ذلك فعليه البيان , نَعَم في الدين أشياء لم تستعد بعض
العقول لإدراكها , وسببه ما قدمناه من تضييق بعض الناس , وسَدّ أكثر أبواب
الطرق المؤدية إلى العلم , فإذا كمل لبعض الناس استعداده العقلي , وصار إنسانًا
بالمعنى الذي خُلِقَ لأجله فلا شكَّ أنه يدرك معلومات لا يكمل العقل إلا بإدراكها ,
فعلى مَن لم يَأْتِ هذه البيوت من أبوابها أن يسألَ أهلَ العلم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))