للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القبور المشرفة والتماثيل للموتى

اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر
نشر في (الجريدة) اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر تنقل إليه عظام
من مات منهم , ويدفن فيه من سيموت مِن بَعْدُ.
نشر هذا الاقتراح بتوقيع (باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في
الحاضرة أو تمني مُتَفَرْنِج في العاصمة قَدِ استعجلَ جِدًّا بِهَدْمِ تقاليد قومه الدينية ,
ونقلهم من مبادي التقاليد الأوربية إلى غاياتها.
لا أُنْكِر أنّ بعض العلل التي بني عليها الاقتراح له وجه نظري معروف لمثله
وضعت الأمم الوثنية من قبل التماثيل والنُّصُب، وبنت القبور، وشرفتها، وعظمت
هذه الآثار الماثلة حتى عبدتها، ولكن كان إثْمُها أكبرَ من نَفْعِها، وشرُّها أكثرَ من
خيرها؛ ولذلك هدمها الإسلام، وحرم نَصْب التماثيل , وتشييد القبور، وتشريفها كما في حديث عَلِيّ - كَرَّمَ اللهُ وجهَه - في صحيح مسلم وغيره: (لا تَدَعْ تِمْثَالاً إِلاّ
طَمَسْتَهُ , وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاّ سَوَّيْتَهُ) .
رُبَّمَا قالت باحثة البادية أو باحث الحاضرة: إن الإسلام ما فَعَلَ ذلك إلا
ليطمسَ رسومَ الوثنية حتى لا تنازعَ التوحيدَ في سلطانه على النفوس , وهذه العلة
مأمونة في هذا العصر (عصر المدنية والنور وعصر المادية والعلوم) وإذا انتفت
العلة انتفى المعلول.
لقد قال مثل هذا القول أحدُ طلاب علم الحقوق من أولاد علماء الدِّين , ونشره
في المؤيد ردًّا على مَن أنكر نصب تمثال لمصطفى باشا كامل، وسكت له الجمهور
على ذلك , ولكنهم لم يكونوا بسكوتهم مذعنين.
ما أسهل تفنيد هذه الشبهة على الاعتراف بِصِحّة ما قِيلَ مِن سبب تحريم
الإسلام للتماثيل والنصب والقبور المُشْرِفَة! ! ولا أكتفي بأن أقول: إن هذه شعائر
وثنية منع الإسلام صورتها؛ لأنها تذكر بمعناها ولو بعد حين، ويخشى أن تعيد روح
الوثنية إلى نفوس المستعدين، فلا نعيد هذه الصورة , وإن أمنت العلة الآن، سدًّا
لِلذَّرِيعَةِ ولو في مستقبل الزمان، بل أقول أيضًا: إنّ العلة غير مأمونة في هذه الأيام،
لا سِيَّمَا عند جماهير العوامِّ، فلو نصبت التماثيل وبنيت الهياكل الخاصّة لبعض
القبور، فإنها لا تلبث أن تصبغ بالصِّبْغَة الدينية بمصر , ويتبرك بها أو يعبدها
الجمهور، وأستدل على ذلك بأقوال دُعَاتِهَا وأفعالهم.
جاء في مقال (باحثة البادية) ما نَصُّهُ:
والعامّة من أهل مصر بل بعض الخاصّة لهم وَلَعٌ فائِق بزيارة الأضرحة ,
واعتقاد راسخ بنفع أصحابها؛ حتى إنك لو دفنت حِمارًا وبنيتَ له ضريحًا وقُبّةً
لَزَارَهُ عددٌ من الناس يتبَرّكون به وهم يعلمون أنه حِمَارٌ، فإذا كان الأمْر كذلك في
الحِمار؛ فكيف به في الرجال , وكيف به في عظمائهم؟ اهـ
ونحن نقول مع الباحثة: إن عظماء الرجال يكونون أجدرَ بهذا التعظيم
والتبرُّك , وهذا ما يحرمه الإسلام ويعده معارضًا للتوحيد.
ذكرت باحثة البادية من الرجال الذين تقترح نقل عظامهم للمدفن الجديد محمد
عبده , ومصطفى كامل , وقاسم أمين , فنقول: كيف نأمن أن تُعَظَّمَ أَضْرحتهم
تعظيمًا دينيًّا بعد أن يُتخذ لها مكانٌ خاصٌّ يُقْصَدُ بالزيارة , والأول منهم إمام من أئمة
الدين , وداعٍ مِن دُعَاة القرآن , ومُحَامٍ عنه وعن السُّنَّة، وأقوى خاذل في عصره
للبدعة؟
كيف نأمن ذلك والثاني منهم على كونه ليس مِن رجال الدين في العلم ولا في
الإرشاد، وليس له مقالة تؤثر في الكتاب ولا في السنة، ولا في الدفاع عن أصول
الإسلام وعقائده - قد نحله أشياعه جميع الألفاظ التي يعظمون بها أئمة
الدين وأولياءه , كقولهم: فقيد الإسلام، رضي الله عنه، قَدَّس الله سِرَّه، قدس الله
رُوحَه. بل قرن بعضهم ذكره بذكر الأنبياء , وكاد بعضهم يفضله عليهم. وذكر
أخوه الصغير في مناجاة ناجاه بها أن رُوحَه مُشْرِفَة على العَرْش يَعْنِي أنها فَوْقَ
عرش الرحمن! ! وذكر أخوه الكبير من أنباء ولادته نحو ما رُوِيَ في ولادة النبي
صلى الله عليه وسلم مِن أنه وُلد طاهرًا مختونًا، وجعله بعضهم ثاني النبي (صلى
الله عليه وسلم) في عظمته , وكلامه كالإنجيل والقرآن. وقال فيه شوقي شاعر
الأمير:
لو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأت بعد رثيت في القرآنِ
هذا وهو يعلم أن القرآن الكريم لم ينزل منه شيء في رثاء الأنبياء والصِّدِّيقِينَ،
بل كل ما قال في شأن موت من أنزل عليه وهو خاتم النبيين {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم
مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: ٣٠-٣١) أي: إنك
يا محمدُ تموت وهؤلاء المشركون الذين قالوا: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} (الطور: ٣٠) يموتون أيضًا، وتختصمون جميعًا عند الله تعالى. وقال: {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: ١٤٤) ؟ الآية، وقد نزلت عندما فتن بعض المسلمين، فانهزموا في
وقعة أُحُد إذ صاح صائِح: (قُتِلَ محمدٌ) .
أفرأيت من يغلو فيه الناس ذلك الغلوّ الذي أشرنا إلى قليل مما قرأناه فيه ,
ونحن لم نقرأ إلا أقلّ ما كتب - وسكتنا عما سمعنا من بعض غلاة المارقين , وما
رُوِيَ لنا عن بعضهم مِن مِثْلِ قولهم: إنه كان أفضل من الأنبياء , وإنه نفعنا أكثر
مما نفعنا الإسلام! - أيستغرب أن يعظم تمثاله وقبره تعظيمًا دينيًّا؟
فيا أيها المتفرنجون أربعوا على ظلعكم , وخففوا السير , واتَّئِدُوا بهذه الأُمّة
المسكينة؛ فإن مصابها عظيم , والخطر الذي يحيط بها أعظم فلا تستعجلوا بهدم ما
بقي لها من العقائد والآداب والأحكام الدينية , وأنتم لم تبنوا لها دينًا ولا شريعة
أخرى أحسن مما جاء به الإسلام، ولا تستطيعون أن تحفظوا بقية الممالك التي
فتحها لكم الإسلام، إذا فرضنا أن ما ترمون إليه بالتماثيل ونقل عظام الموتى إلى
أضرحة عظيمة يزيد في تعظيم أصحابها والتبرك بهم والاقتداء بسيرتهم هو مما يفيد
في ترقيتها، وفرضنا أنه لا يقوي نزعة الوثنية فيها؛ فدعوه الآن لمجرد نصوص
أئمة المذاهب التي تنتمي إليها الأمة في تحريم نبش الموتى , وتحريم نصب التماثيل
مطلقًا , وخذوا بالأمة إلى أسباب العزة والقوة التي لا خلاف فيها شرعًا ولا عقلاً،
وهي كثيرة لا يكاد يدعو إليها داعِ، وقَلَّمَا يجمع لها مال أو يؤلف لها اجتماع.
أليست المدارس العلمية والدينية، والكتب التاريخية والفنية، والجمعيات
الخيرية والدينية والأدبية هي أنفع من القبور والتماثيل الوثنية؟ فلماذا لا تبذلون
لها المال، وتدعون إلى تعميمها في البلاد؟ أليست مدرسة مصطفى كامل أفضل ما
يعزى إليه من الأعمال؟ فلماذا لا تبذلون لترقيتها ما جمعتم للتمثال، أليست آثار
الأستاذ الإمام في إصلاح حال المسلمين والإسلام هي أفضل ما يحيا به ذكره،
ويرغب في التأسي به، فلماذا لا تبذلون المال لنشرها وتعميم النفع بها؟ .