للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية
أو أميل القرن التاسع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) .
فله الحمد والشكر والثناء الحسن، وعلى نبيه ورسوله الصلاة والسلام،
والرحمة والبركات لمن تزكوا بالتربية العالية، وتعلموا الكتاب والحكمة السامية،
فكان لكل منهم نصيبه من السعادة في نفسه، والسيادة في أبناء جنسه، ومنهم مَن
أعدته هذه التزكية للسعادة الآجلة، كما أعطته السيادة العاجلة {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ
وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: ٢٠-٢١) .
فبالتربية والتعليم سعادة الدنيا، وبهما سعادة الحياة الأخرى والأمور بمقاصدها.
للإنسان استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية، ولا تظهر ثمرات استعداده إلا
بالتعاون، ولا يكون التعاون إلا بالعيشة الاجتماعية، وشئون الاجتماع لا ترتقي إلا
بالنظام، وإنما يقوم النظام بالحكام، والحكام عرضة للبغي والأثرة , لا يصدهم
عنهما إلا سيطرة الأمم عليهم، والأمة لا تصلح للسيطرة على حكامها إلا إذا كان
أفرادها أحرارًا في أنفسهم، مستقلين في أفكارهم وإرادتهم، فالحرية والاستقلال،
هما القدمان اللذان يسير بهما الإنسان إلى منازل الكمال.
لا يصل الإنسان إلى الكمال في شيء من مقاصد الحياة إلا بالسير التدريجي
على سنن الفطرة، والسير بطيء وسريع، فمنه الهدَجان والدليف، والدألان
والوجيف [١] ؛ بل منه القهقرى، والرجوع إلى الوراء، فإذا هو أرشد إلى الغاية في
البداية، وأمدّ بما يوافق الفطرة من ضروب الهداية، يكون أبعد عن التخبط في
سيره، والضلال في طريقه، وأقرب وصولاً إلى المقاصد، بالسفر القاصد.
ولكن مضت سنة الأولين بما أبانَ لنا أن الإنسان لا يرتقي في المقاصد
الاجتماعية إلا بتوزيع الأعمال، ونوط كل عمل بطائفة من الناس، يصرفون همتهم
إليه، ويعولون في معايشهم عليه، ومن هذه الأعمال حفظ الأمن وحماية النظام،
ومنها الإرشاد والتعليم، والتربية والتأديب - وأن الصنفين القائمين بهذين العملين -
ولهما القيامة على سائر الأصناف - قد يسيئون التصرف، ويتبعون الهوى،
فيعبثون بالحرية والاستقلال، فيحولون دون ما توجه إليه الناس مِن الكمال - وأن
الأول منهم (وهو صِنْف الحُكّام) كثيرًا ما يُمْعِنُ في الاستبداد، ويغلو في الاستعباد،
حتى يفسد على الناس ما ارتقى به الاجتماع قبله، ويخرب ما أقامه من معالم
العمران من سلفه، وقد يستعين بصنف المعلمين والمربين، على إفساد النفوس
والأفكار من الناشئين، بتنشئتهم على الخنوع للمستبدين، وتقليد الميتين، فيرجع
قومه القهْقَرَى، ويسيرون في اجتماعهم إلى الوراء، حتى تكون البداوة خيرًا من
مدنيتهم، لأنها على إقفارها من نتائج العقول في الفنون والصناعات، تكون عامرة
باستقلال الفكر والإرادة وحرية التصرف، وما يتبع ذلك من عزة النفس والتحلي
بكثير من الفضائل التي هي من طبيعة الفطرة ولوازم تلك المعيشة.
فالكمال الاجتماعي الذي يُطْلَب بالمدنية عرضة لنقائص يجلبها للبشر استبداد
الوازع من الأمراء والسلاطين، وفساد القوّام على التربية والتعليم، وسوء اختيار
الأفراد الذين يعيشون في كنف السلطة والحكم، وينامون على مهاد الراحة والترف،
فتفسد فطرتهم، وتهي عزيمتهم، ويرضون أن يكونوا عالةً على غيرهم، وعبيدًا
للقوّام عليهم، بما فقدوا من الحرية والاستقلال، بل يقول الحكيم ابن خلدون: إن
التأديب والتعليم الصناعي يذهب بالبأس وعزة النفس لأن الوازع فيهما أجنبي، وأما
الأدب الشرعي , فليس كذلك لأن الوازع فيه نفسي، وهو موافق لقول علماء العصر:
إن كمال الإنسان في أن يكون حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله بإرادته واختياره عن
اعتقاده ووجدانه، ولا يحكم عليه إلا الشرع والقانون الذي رضيه لنفسه، وكان له
رأي في اختيار القائمين بتنفيذه.
هذا المقصد العالي لا يُنال في الحضارة إلا بتربية وتعليم تتبع فيهما سنة
الفطرة وتُتَّقَى فيهما أهواء الوازعين الذين يرون من مصلحتهم أن يصبغوا نفوس
النابتة بصِبْغة خَاصَّة يستديمون بها السيادة عليهم، وقَوْدهم كالأنعام إلى ما يريدون
منهم.
أسرف الوازعون من رؤساء الدِّين والدنيا في الجور على الخاضعين لهم في
أوربا زمنًا طويلاً حتى لم يعد للطاقة البشرية قِبَلٌ باحتمال جورهم، فأحدث ذلك
الضغط انفجارًا عظيمًا اهتزت له الأرض، وزلزل ذلك القهر والجبروت، بل زال
واندك بهمة دعاة الحرية والاستقلال، ولكن حدث عنه بمقتضى السنة الإلهية التي
يعبر عنها (برد الفعل) إسراف في مقاومة تَيْنك السلطتين الجائرتين - سلطة
الحكومة وسلطة الكنيسة - فحدثت المذاهب المادية والاشتراكية المتطرفة والفوضوية
وكانت فرنسا أشد الشعوب والأجيال غلوًّا في ذلك وإنكلترا أشدها اعتدالاً فيه لما
جرت عليه من المحافظة على التقاليد القديمة، والتثبت في النزوع إلى الآراء
والأعمال الجديدة.
انبثت آراء الغالين في مقاومة السلطة والدين في كتب التربية والتعليم التي
ألفها كبار الحكماء والكتاب من الأوربيين لا سِيَّمَا الفرنسيين منهم حتى صار حقها
مَشُوبًا بباطلها، ونفعها معارضًا بإثمها، وكان من أشهر كتب التربية (كتاب أميل
القرن الثامن عشر) للحكيم الفرنسي الشهير (جان جاك روسو) , ثم ارتقت
المعارف، وزخرت بحار العلم، فصار الآخرون، يستدركون على ما مضى عليه
الأولون، كما فعل (ألفونس أسكيروس) في كتابه الذي سماه (أميل القرن التاسعَ
عَشَرَ) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه فنّ التربية في ذلك القرن وما بعده. وهو
الكتاب الذي نشرنا ترجمته في بضعة مجلدات من المنار، في كل مجلد منها رسائل
معدودة، نشرت في أجزاء متصلة أو متفرقة، وقد جمعنا شمل هاتيك الرسائل
والشذرات كلها اليوم لننشرها في هذا السّفْر على قراء العربية عَامَّة، وأرباب
البيوت منهم خَاصَّة، لما في قراءتها متصلة من تمام الفائدة بما يكون القارئ أوعى
للمسائل وأضبط، وأرغب في تتبعها وأنشط.
لم أَرَ في المصنفات الحديثة ولا القديمة مصنفًا كهذا الكتاب جمع بين اللذة
والفائدة في أنفع العلوم التي تتفاضل فيها عقول البشر , وهو علم تربية الإنسان
جسمًا وعقلاً ونفسًا؛ ليكون سعيدًا في نفسه، نافعًا لأبناء جنسه، ولهذا رغب في
نشره الأستاذ الإمام - قدّس الله رُوحه في دار السلام - وعهد إلى مريده ذي الفطرة
السليمة، والآداب القويمة: صديقنا عبد العزيز أفندي محمد القاضي بالمحاكم
الأهلية المصرية، بأن يترجمه بالعربية، لينشر في مجلة المنار الإسلامية، وحسبي
من بيان مزية الترجمة عرضها على القراء العارفين بقواعد العربية وأساليبها، فهم
الذين يشهدون لها بأنها في الذُّرْوة العليا بين المصنفات للترجمة في هذا العصر،
فالكتاب بها عون للنابتة على إحكام مَلَكَة الإنشاء والترجمة، كما أنه بمعانيه يطبع
في النفوس ملكات استقلال الفكر والإرادة، وحب الحرية، والرغبة في خدمة الأمة،
وغير ذلك من الفضائل، ويهدي العقول إلى أمثل طرق التربية والتعليم.
ألا إنّ غرض المؤلف من كتابه هذا هو هداية قارئيه إلى الحياة الزوجية
الفضلى، ومحبة الزوجين، ووفائهما في القرب والبعد، والسّرّاء والضّرّاء، ومكان
الأم من قلب الهيئة الاجتماعية، وتربية جسم الطفل على سُنّة الفطرة ليكون بدنه
سليمًا قويًّا، وتربية حواسه وخياله وفكره، ووجداناته وعواطفه، كالرحمة
والإحسان , والعدل والمساواة , والإيثار وغير ذلك من القوى والصفات الرُّوحية
مهتديًا في ذلك كله بالعمل والاحتكاك بالحوادث، وإلى تعليم الناشئ العلوم الكونية
بعرض المعلومات على مشاعره وإرشاده إلى كيفية النظر فيها، والحكم الصحيح
عليها، وإعداده للعلوم النظرية في الدين والفلسفة ليحكم فيها بنفسه، بعد بلوغ رشده،
وغاية ذلك كله أن يخرج المربّي حُرًّا مستقلاًّ خَيِّرًا فاضلاً لا يحكم ولا يقول إلا
عن علم وبصيرة، ولا يعمل إلا ما يرى أن فيه الخير والمنفعة.
ولما كان قوام التربية العملية القدوة والتأسّي اختار المؤلف أن يجعل تربية
(أميل) في بلاد الإنكليز؛ لأنهم أرقى الشعوب أخلاقًا وأعرقهم في الحرية
والاستقلال.
ولما كانت العلوم لا تبلغ كمالها إلا حيث يكثر الأخصائيون جعل المؤلف
التعليم العالي لأميل في مدارس ألمانيا العالية، لأن الألمانيين أرقى شعوب العالم في
تحرير العلوم.
هذا الضرب من التربية والتعليم على سنة الفطرة موافق لهداية القرآن الذي
هو دين الفطرة، وما أنكره المؤلف من تلقين الدين للناشئ كما يلقن الفنون وإلزامه
بالتقليد فيه، ومِنْ حَمْله على الآداب وعمل الخير خوفًا من العذاب في الآخرة وعدم
النجاة فيها له وجه وجيه فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم ولدان أصحابه
ولا كبارهم الدين كما تعلم الفنون، وإنما أدبهم وزكاهم بتلاوة القرآن عليهم،
وبسيرته (سنته) الحميدة فيهم، دعاهم بالدليل وعلمهم بالدليل وأدبهم بالدليل وليس
في الإسلام شيء تقليدي لا يستند إلى دليل.
فلا غرو إذا كنا نسلم للمؤلف ما اختاره من جعل قوام التربية الأدبية الاعتبار
بما في الفضيلة والخير من المنفعة وما في ضدهما من المضرة بالاختبار لا مجرد
القول، فإن ذلك معقول في نفسه وموافق لهداية الإسلام. ونعذره في نهيه عن
دعمها بنصوص الدين لأن ما يعرفه من هداية الأديان ينافي اتباع طريقته فالجمع
بينهما جمع بين الضدين. على أنه على اعتداله لم يسلم من السخط على دين
الكنيسة بمقتضى سنة رد الفعل التي أشرنا إليها من قبل.
ولكن طريقته تنطبق على هداية القرآن؛ لأنها موافقة للفطرة ويَزِيدها الإسلام
قوةً وتمكينًا ببيان أن الآثار الطبيعية للخير في الدنيا وهي منافعه التي يؤتى لأجلها لا
تذكر بالنسبة إلى الآثار الطبيعية التي تكون له (أي الخير) في الحياة الآخرة ,
وهذه قضية بيناها بالدلائل والنصوص في مواضِعَ كثيرة من تفسير القرآن الحكيم
ومن المنار.
فلم يَبْقَ بعد هذا إلا أن أنصح لقراء العربية بأن يجعلوا هذا الكتاب ركنًا
للتربية والتعليم , مع مراعاة المُسْلِم منهم لهداية القرآن التي أجزم بأن المصنف لو
علمها لجعلها ركنًا للتربية فوق هدايات الحواس والعقل والوجدان.
أنصح للمتعلمات من البنات ومن ربات البيوت بأن يقرأنه المرة بعد المرة.
وأنصح للرجال أن يقرءوه لنسائهم ويفسروه لهن تفسيرًا. وأنصح للنابتة الجديدة من
تلاميذ المدارس الدنيوية، وطلاب المدارس الدينية، بأن يقدموا العناية بمطالعته
على جميع ما يطالعون من الكتب للاستعانة على تأديب النفوس وإحكام صناعة
الإنشاء وإتقان أسلوب الترجمة. وإني لعلى علم بأن الإقبال على هذا الكتاب وتوخي
العمل به سيكون مبدأً لعصر جديد يربي في نفوس قراء العربية الحرية الذاتية
والاستقلال الشخصي والنوعي , ومَتَى كثر الأحرار المستقلون في شعب فإنهم
يحيون شعبهم حياة استقلالية يستحيل أن يعبث بها مستبدٌّ، أو يفسدها عليهم مفسد،
ولهذا سميت الكتاب بالتربية الاستقلالية، وجعلت تسمية المؤلف له ثانوية، فالاسم
الأول يدل على موضوعه وغايته، والثاني يشير إلى منهجه وطريقته، وهي تمثيل
فن التربية بالعمل في شخص المربي، وهو المنهج السوي والطريقة المثلى، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
كتبت في غاية جمادى الآخرة سنة ١٣٢٦
مقدمة مترجم الكتاب بعد البسملة
الحمد لله الذي عَلَّمَ بالقلم، عَلَّمَ الإنسان ما لم يَعْلَمْ، والصلاة والسلام على
ينبوع الحكمة، ونبي الرحمة، الذي أدبه ربُّه فأحسن تأديبه، وأتمَّ له من مكارم
الأخلاق وجلائل الشيم نصيبه، فصارت سيرته المحمودة أكمل مثال للمربين،
وأفضل هدي للمرشدين، وعلى آله وأصحابه الهادين المهتدين.
أَمّا بَعْدُ؛ فقد مضت سُنّة الله سبحانه في الإنسان أن يخلق عاجزًا جاهلاً
محتاجًا إلى الكافل الذي يحوطه برعايته، ويقيمه على الصراط السوي في معيشته،
ثم يتدرج في القدرة والعلم حتى يبلغ ما أعد له من الكمال الحسي والمعنوي بِحَسَبِ
استعدادِه، وعلى مقدار عناية قيمه بتربيته.
من أجل هذا تفاوتت درجات الناس تفاوتًا عظيمًا في القدرة والعجز والعلم
والجهل , وتنوعت آثار هذه الصفات فيهم تنوعًا لا يحده وصف ولا يشمله حصر
وتبع ذلك اختلاف الأمم بالترقي والتدلي والعزة والذلة.
فمن أُمّة عُنِيَتْ بتربية أبنائها وتهذيب أخلاقهم وتثقيف عقولهم وإنشائهم أحرارًا
عشاقًا للعلم , يخدمونها ويخدمونه مختارين كما يخدمون أنفسهم , فأشرقت في
ربوعها شمس العلم وكشفت لها الحجاب عما سخر لها من قوى الكون فاستخدمتها في
حاجاتها وحاجات نظرائها واستعانت بها على تحسين أحوالها وترقية معايشها.
لانَ لها الحديد على صلابته وشدة بأسه فاتخذت منه سجنًا حصينًا لعدوين
متعاندين هما الماء والنار , فكان من كفاحهما فيه أن تصاعدت زفرات الماء وغلت
مراجل غيظه، فالتمس الخلاص فلم يَسَعْهُ إلا أن طار بسجنه، فكان ذلك سببًا
لاستعمال هذه القوة الفائقة في طيِّ المسافات السحيقة، وتقريب الأمم المتنائية،
وكسر نخوة البحار , والتخفيض من غلوائها بامتطاء ظهورها وشقّ أحشائها والأخذ
بشكائمها. نَعَم , وفي تحريك دواليب الصناعات المختلفة تحريكًا خفف من أوصاف
الصناع ومتاعب العمال وغمر أسواق التجارة بضروب المصنوعات البديعة فأصبح
الفقير شريكًا للغني في الاستمتاع بها، بعد أن كان محرومًا منها، واتخذت لها من
الحديد أيضًا قذافات للموت، جلابات للدمار والخراب، لا تردها شجاعة الشجعان،
ولا تغني منها مصاولة الفرسان، فملكتها نواصي الأعزاء، وبسطت لها السلطان
في جميع الأرجاء.
لفتها قصيف الرعد ووميض البرق , وغيرهما من آثار القوى الكونية التي
طالما مَرّ عليها مَن غيروا مِن أجيال البشر وهم عنها معرضون فحدست أن فيها قوة
عظيمة لم تخلق سدى , وأنها لو ملكت تصريف زمامها لاستفادت منها ما استفادته
من البخار فانبرى طلاب الحقائق من أبنائها الذين أثمرت فيهم التربية الصحيحة
للبحث عنها في مكامنها , وما زالوا يصلون الليلَ بالنهار في تتبعها حتى اهتدوا إلى
ينابيعها وجمعوا شتاتها بعد أن كانت شعاعًا هملاً , وحصروها في سبل ضيقة لا قِبَلَ
لَها بتعديها ثم ألقوا مقاليدها إلى الأمة فكان من تصريفها في مرافق الإنسان ومنافعه
ما ترى من الآيات الكبرى على كمال قدرة الخالق وسَعَة إمكان عقل المخلوق:
رعدة تحيل الماء هواءً، وتقلب الليل نهارًا، ونبض أقرب من لمح البصر يصير
تارة مناجاة كتابية بين مطوحين في مطارح الغربة تستنجز بها الأمور وتقضي بها
المآرب، وطورًا تكون مخاطبة شفهية تميز فيها أجراس أصوات المتخاطبين على
ما يكون بينهما من بعد الشّقّة، وكرة تدفع جاريات تطير طيرانًا على سطح الأرض
مقلة ما شاءت أن تقل من الناس والمتاع.
ولو رحت أعدد لك آثار التربية المثلى والعلم النافع في الأمم الراقية لاحتجت
في تفصيل ذلك إلى مجلدات فأجْتَزِئُ عنه بما لمحت إليه تلميحًا.
وأمة أخرى لم تبلغها دعوة العلم ولا رأت آثار التربية في غيرها فلازمت
حالتها الفطرية ومعيشتها الوحشية؛ فكان ذلك مدعاة إلى وقوف نمو العقل في أبنائها
وانمحاء ما فيهم من ضروب الاستعداد وكان مصيرُها خسرانَ وجودها الذاتي
وفناءها في غيرها من الأمم الحية.
وأمة ثالثة خلقت مستعدة للرقي وسارت في سبيله شوطًا بعيدًا بما نشأت عليه
من الحرية وتحققت به من أصول التربية الدينية الصحيحة فنالت في الزمن اليسير
من العزة والمجد وبَسْطة السلطان ما لم يَنَلْهُ غيرها من الأمم في الزمن الطويل.
رَبّاها مُرشِدُها الأكبر بسيرته السنية على حب العدل والإيفاء بالعهود وإنفاق
الأموال في وجوه الخير , والتآخي في نصرة الحق والترفُّع عن سَفْسَاف الأمور ,
وأوجب طلب العلم من المهد إلى اللحد على أفرادها نساءً ورجالاً غير مخصِّصٍ
علمًا بعينه , فنبغ فيها رجال لم تسمح الأيام بنظائرهم ولن تلد الوالدات أمثالهم -
منهم من ساسوا الرعية أفضلَ سياسية لم يعهدها التاريخ في غيرهم من السواس
حرموا أنفسهم فيها من ملاذ العيش , وصبروها على مصلحة الناس , وحاسبوها
على القيام بها أشد محاسبة - ومنهم من قادوا الجيوش وفتحوا البلاد ودوخوا أكبر
دول الأرض لعهدهم مع تمام العدل في معاملة المغلوبين وبذل الأمان للمستأمنين -
ومنهم العلماء والحكماء الذين صدقت عزائمهم في طلب الحقائق فلم يدعوا بابًا من
أبواب العلم إلا دخلوه على ما كانوا يلاقونه في ذلك من صعوبة التحصيل لندرة
الكتب وتباعد معاهد التعليم يشهد لهم بذلك ما خلفوه من آثارهم التي تزدان بها دور
الكتب في معظم البلدان - ومنهم مهرة الصناع الذين أقاموا من معالم الحضارة ما
يحكم لهم بالتبريز على مناسبيهم ويوجب لإخوانهم حق المفاخرة بهم.
وا أسفي على هذه الأمة أسفًا يَبْخَعُ النفسَ أسًى , ويذيب القلبَ حسرةً! ما لبثت
أن بطرت معيشتها وكفرت بأنعم ربها، فوجد عليها الزمان، وانتابتها نوائب
الحدثان، طال عليها أمد هداية الدين، وبعد عنها عهد المرشدين، فقست القلوب
وفسدت الأخلاق، واستحكمت علة الترف من النفوس، فملكها الطمع، وتولاها
الحسد، ومنيت بالحكام المستبدين، والأمراء الغاشمين، فمزقوا وحدتها، وملكوا
عليها أمرها، وصرفوها فيما تهوي أنفسهم، فاستحالت حريتها رقًّا، وانقلب عزها
ذلاًّ، وعدلها ظلمًا وأنسها بالعلم وحشة.
لم يغب سوء حالها عمن يجاورونها من الأمم القوية بل كانوا يراقبونها مراقبة
الصائد الذي يتحين الفرص لصيده وما عتموا أن ناصبوها العداوة وكادوا لها المكايد
فوقع معظم بلادها في قبضتهم وتغلغلوا في أحشائها وأصبحوا لها حكامًا يديرون
شئونها على حسب ما تقتضيه مصالح بلادهم وفتحوا عليها أبوابًا من الترف وفساد
الأخلاق ألهتها عن الشعور بألم العبودية وصرفتها عن النظر في مصالحها القومية.
لم يصبها كل ذلك إلا من عدم محافظتها على حريتها بإغفالها التربية الصحيحة
وهجرها العلم النافع.
وإذا كان هذا شأن التربية في رفع الأمم وخفضها كان حقًّا على العقلاء من كل
أمة أن يعنوا بها ويفكروا في الوصول إليها من أقوم طرقها ويبينوا أصولها ,
ويدونوا فيها الكتب النافعة , ويحثوا قومهم على الأخذ بما فيها. وقد خرج من عهدة
هذا الحق علماء الأمم الحية في أوربا وأمريكا فوضعوا من قواعدها ما ظهرت
آثارها في أقوامهم، وأكسبتهم حسن الذكر في بلادهم، وغفل عن ذلك غيرهم من
خواص الأمم التي تتنازعها الحياة والموت لغلبة القنوط عليهم فلم يوجد لديها من
الكتب الحديثة في موضوع التربية إلا بعض رسائل لا غناء بها فيه.
كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - طيب الله ثراه - بَرّا بقومه غَيُورًا على
حياتهم , حريصًا على إيقاظهم من سبات الجهل، وإنهاضهم من حضيض الذل،
فكان دائم التصفح لما كتبه الأوربيون والأمريكيون في التربية والحكمة , وكان من
كثرة اهتمامه بالتربية أن ترجم فيها كتابًا مفيدًا للحكيم الإنكليزي هربرت سبنسر غير
أنه لم يتسع وقته لتصحيحه وتهذيب ترجمته ونشره , فبقي كما هو وقد وقع له كتاب
آخر فيها عظيم النفع لمؤلف فرنسي اسمه ألفونس أسكيروس , فأعجب بما فيه من
الأفكار الصحيحة والمعاني الشائقة فعهد إِلَيَّ بترجمته ونشره تدريجًا في مجلة المنار
الجليلة فوفقت للإيفاء بعهده مساعدة له على ما كان بسبيله من خدمة المصلحة العَامَّة
وقيامًا ببعض المفروض عَلَيَّ منها. فالكتاب إذن أثر من آثار سعيه في ترقية بلاده،
ويد من أياديه الكثيرة عند قومه، سيشكرها له منهم الشاكرون، ويغمطها على
ديدنهم فيه الجاحدون، أجزل الله له المثوبة على حسن مقاصده، وغمره برحمته
وإحسانه على مجاهدته في إعلاء شأن أمته.
هذا الكتاب الذي أتقدم بترجمته لقراء العربية يرمي مؤلفه إلى غاية واحدة هي
إنشاء الطفل حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله وآراؤه عن اختيار وعلم لا عن اضطرار
وتقليد، ومن أصوله في التربية أن لا تحشر إليه قواعد العلم حشرًا ويرغم على
حفظها بل يجعل له الدرس من وسائل التسلية بأن يخلى بينه وبين ما حوله من
الأشياء والحوادث ويلفت ذهنه إليها لينتزع منها بنفسه ما تؤديه مراقبتها إليه من
العلوم.
تمكن هذا الأصل من نفس المؤلف تمكنًا حمله على أن يبعد في تأليفه عن
أساليب الكتب التعليمية المعهودة: وضعه على أسلوب يقرب من أسلوب القصص
ليكون أشهى للنفوس، وأنفى للملل عن القلوب، تخيل زوجين سمَّى أحدهما الدكتور
أراسم والثاني هيلانة، مُنِيَا بالفراق، لأول عهدهما بالاقتران، لاتِّهَام الزوج
بجريمة سياسية سجن من أجلها. ولم يلبثا بعد افتراقهما أن أحست الزوجة بالحمل
فجرت بينهما رسائل في مواضيع شتى أدمجت فيها أصول التربية الصحيحة إدماجًا
وسنحت للزوج أثناء سجنه سوانح أفكار ومرت بذهنه شوارد خواطر كان يقيدها في
جريدته اليومية، فاجتمع للمؤلف من الرسائل والصحف والشذرات المقتطفة من
جريدة الزوج هذا السِفْر الذي وسمه (بأميل القرن التاسع عشر) وقسمه أربعة أقسام
سمَّى كلاًّ منها كتابًا أولها في الأُمّ , وثانيها في الطفل , وثالثها في اليافع ورابعها في
الشاب.
فأما كتاب الأُمّ فمسائله هي - ما ينبغي عليها مراعاته في طور الحمل من
العناية بصحتها وتوفير عافيتها وملازمة السكينة والاستقرار والبعد عن كل ما يثير
انفعالاتها وترويح نفسها بالمناظر البديعة والمشاهد الرائعة، وبيان أن التربية الأولى
من شئون الأم خَاصَّة - وما يجب عليها مِن العِلْم بتدبير صِحّة المولود بعد الوضع
وإرضاعه بنفسها وتعويده من نعومة أظفاره على الاستقلال في حركاته وسكناته،
ووصف ما للنساء الإنكليزيات من الفضل على الفرنسيات في ذلك، وانتقاد طريقة
التربية الأولى في فرنسا، وانتقاد أخلاق الإنكليز وخضوعهم لتقاليد أسلافهم.
وأما كتاب الولد فمسائله هي - تعريف التربية , وبيان الصعوبة في تحديد
زمني بدايتها ونهايتها، وبيان عمل الأم في الشهور الأولى من حياة الطفل، وانتقاد
ما يفعله الأمهات بأطفالهن في هذه السن، وبيان أنّ أول علوم الطفل تأتيه مِن طرق
الحواس، وطريقة تربية الحواس، وتأثير التمدن في قوى الحواس وعمل الأم في
تمرينها، ووجوب تعرف طباع الطفل وبيان إهمال المربين لهذا الواجب، وما يلزم
اتباعه في سياسة الطفل، ووجوب لفته إلى المحسوسات وتدريبه على وقاية نفسه
بنفسه، وبيان أخطاء الوالدين في إنشاء أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق
وكون هذا هو السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً حقيقيًّا، وبيان ماهية الطبع،
وهل الإرادة خلْقِيّة أو كَسْبِيّة.
وبيان أن ما يبديه الطفل في حال غضبه أو تألُّمه من الأصوات والحركات
لازمة لشفاء ما به , وأن الواجب في حمله على الكف عنها أخذه بالتسلية والتلبية لا
بالتسلط والقهر، ووجوب مقاومة التربية لأهواء الطفل الفاسدة , وذلك بطريقتين،
إحداهما: إلهاؤه عنها , والثانية: جعله بِمَعْزِلٍ عن البواعث المثيرة لها، وضرورة
استعمال السلطة في سياسة الأطفال , ووجوب التعجيل بالكفّ عن استعمالها مَتَى
تَيَسَّرَ ذلك.
وبيان ضرر قهر الطفل على الامتثال ووجوب اجتناب تخويفه بالعقوبات
الإلهية , والخوض معه في المسائل الدينية ووجوب تركها له لينظر فيها متى كبر
بفكر خال من المؤثرات، وبيان عدم الفائدة من أصول علم الأخلاق للأطفال وقلة
جدوى القدوة , ومطالعة قصص الحيوانات لهم وضرورة استقلال طبع الطفل وتعلمه
سير الحيوانات بنفسه.
وبيان الطريق إلى تربية المشاعر الباطنة، وبيان أن في التبكير بإلقاء
النصائح والمواعظ على الأطفال حَطًّا مِن كرامتها، وكيفية تفاهم الأم مع ابنها
بالأصوات، وربما كانت الأصوات أصل اللغات، ووجوب استعداد الأم للتربية
بالتعلم، وتفكر الأطفال، وأصل اللغات وتعليمها لهم وسوء طريقة المربين في ذلك،
وأن التفكر مما يتعلمه الطفل، وخطأ المربين في عنايتهم بالألفاظ دون المعاني،
وتعويد الأطفال النظر والملاحظة ليتمرنوا على التفكر , وبيان أن الأعمال الصبيانية
ليست باطلة برمتها بل منها ما يكون مفيدًا، وأنس الطفل بالحيوانات وأنسها به ,
وتعليل انقطاع تآنس الحيوانات المتوحشة بزوال سذاجة الإنسان الفطرية التي كانت
تدعوها إلى الثقة به، وتأثير الجمال في الأطفال، واحتياجهم إلى كثرة التعلم،
وتعليمهم الصدق والمواساة والرحمة بالحيوان والعدل في المعاملة واحترام الدين
بالعمل والممارسة دون الحفظ والتلقي، ووجوب اعتراف المُرَبِّي للطفل بجهل ما
يجهله وانتقاد المربين في دعواهم العلم بكل شيء أمام الأطفال.
وانتقاد التعليم الديني والسياسي، وإن من شروط التربية أن ينسى المربي ما
تعلمه ليستأنِفَ تعلمه مع الطفل، ووجوب التدرج في تعليم العلوم للأطفال بلفت
أذهانهم إلى ما حولهم وانتقاد الكتب التعليمية، وفوائد التصوير والمعارض في
التربية، والتربية والتعليم بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض، وتعليم الأطفال
الضرب في الأرض , ومعرفة جهاتها بالعمل , وتعليمهم الصناعة بما يُشْتَرَى لهم
من اللعب.
وتربية خيال الصغير بالقصص والأساطير، وتعليم القراءة والخط والرسم
والتدرج الفطري في تعليمها، وأن الصحة في تغيير الهواء وتربية الخيال والذاكرة
بِمَحَاسِنِ الغَبْرَاءِ، وتعليم التاريخ الطبيعي بتمثيل الفانوس السحري، وسرعة تفاهم
الأطفال باليسير مِن الكَلِمِ، وتعليم السباحة وتربية العضلات.
وأما كتاب اليافع فمسائله هي: حب الزوجة والولد والوطن، وتعليم
المسمَّيات قبل الأسماء، وتربية الذكور مع الإناث وتعليمهما معًا، والتعليم بضرب
الأمثال، والكلام على الخط الدّيوَانِي، وتمرين المتعلمين على الأعمال المادية الشاقة
وما يجب أن تكون عليه التربية وآثارها إذا كانت كما يجب، وتجلي العلم في
العمل، وانتقاد تعليم الأطفال اليونانية واللاتينية وإقرائهم كتبهما، والكلام عن التقليد
والذاكرة، والمؤلفات المفيدة للناشئين واختيارها، وكون السفر من أركان التربية،
والتربية بركوب البحر، وما يتعلم في السفينة، وشجاعة النساء المحمودة، والتربية
بالمعاينة، وفوائد الشدائد، وكون بذل النفس للمحبوب أول الحب، ووجوب
الموازنة بين القوى والأعمال، والتربية بالتأثيرات الطبيعية.
وأما كتاب الشاب فمسائله هي: انتقاد حال الطلبة في ألمانيا، وبيان حال
العلم فيها، ووجوب نقد الطالب ما يقرؤه من أفكار غيره. ووجوب القصد في
الاشتغال بعلوم المعقولات، وأن نفع الأمة يحصل بالقيام بالواجب على قدر الطاقة،
ووجوب اختيار الطالب للعمل الذي يشتغل به في حياته، وأن لا حرية لأمة يتكالب
شُبَّانُها على تولّي أعمال الحكومة، وأن الرأي العام لا قيمةَ له إلا إذا كانت الحكومة
شورى، ووجوب أن تكون خدمة المرء لأمته لذاتها لا للجزاء، والكلام في الحب
وابتدائه وغرور الشبان بالمعشوقات ووجوب عدم تداخل الوالدين مع أولادهما في
شئون الحب وترك الفصل في تمحيص صحيحه مِن فاسده للتجربة، والكلام على
المدرسة الجامعة في ألمانيا، والاستقلال في العلم، وفلسفة الخلق والتكوين
والاجتماع والمدنية، ووجوب الاعتماد على البراهين العقلية دون الخطابة، وحب
الوطن، ووجوب أن يكون للشاب المتعلم رأي في سياسة بلاده، وأن تربية الرجال
الأحرار يجتث بها جراثيم الشرور المحزنة للأمة.
هذه هي أقسام الكتاب ومقاصده وأمهات مسائله أجملتها للقارئ إجمالاً حتى إذا قرأها
حركه الشوق إلى استشفافها في مواضعها منه فحصل الفائدة المقصودة لمؤلفه
ومترجمه إن شاء الله.
فلم يعن المؤلف بتلقيب مباحث كتابه فاضطررت إلى أن أضع لها ألقابًا
أستنبطها من سياق كل مبحث وشاركني في وضعها الأستاذ الفاضل السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية عند نشر الكتاب في مجلته، كما أنه
حفظه الله كان يصحح ما كان يعثر عليه من الأغلاط، وأنا شاكر له هذا الصنيع.
حرصت غاية الحرص على عدم التصرف في الترجمة وقوفًا بها عند حد
المعاني التي قصد المؤلف أن يعرضها على قومه , وتحاشيًا مِن أن يتسرب إليها
بالتوسع ما ليس مقصودًا له وهذا هو سبب ما يجده القارئ في بعض المواضع من
عُجْمَة الأسلوب , ولم أشذ عن هذا إلا في تغيير لفظ الطبيعة بلفظ الجلالة أو الفطرة
على حَسَبِ الأحوال مراعاةً لعرف التخاطب بين المتكلمين بالعربية.
للمؤلف رأي في التعليم الديني مبني على أحوال خَاصَّة بالمكان الذي عاش فيه
والقوم الذين نشأ بينهم لا محل لذكرها هنا فلا أعيبه عليه ولا أوافقه فيه , ولا٠٠٠ ,
ولا سِيَّمَا أن في مطاوي كلامه في هذا الموضوع وفي موضوعات أخرى مغامز
تبين عن سوء عقيدته , وذلك الرأي هو: أن لا يتكلم مع الصبي في شيء من الدين
في صغره وأن يتربص به حتى يكبر ويدرس المذاهب الدينية بنفسه فيعتقد منها ما
يشاء. ويكفيني هنا أن أقول: إن كثيرًا من أبناء مَن يشايعونه في رأيه لا يبلغون
سنّ الشباب حتى تحتوشهم أهواؤهم عن النظر في الدين , وتصرفهم شهواتهم عن
اتباع هدي النبيين فينبذوا الدين وراء ظهورهم , ويفشو فيهم الإلحاد وما ينجم عنه
من الإباحة والفساد , كما هو مشاهد معروف.
وعندي أنه لا شيء أمثل في هذه المسألة من اتباع هدي الدين نفسه ومن
الخطل في الرأي أن يؤخذ فيها بقول غير المتدين.
بدأْتُ في ترجمة الكتاب في اليوم الرابع من جمادى الآخرة سنة ١٣١٧هـ ,
الموافق لليوم التاسع من أكتوبر سنة ١٨٩٩م , وفرغت منها في أول جمادى الثانية
سنة ١٣٢٤هـ الموافق للثالث والعشرين من يوليه سنة ١٩٠٦م , ومعذرتي في ذلك
الإبطاء المفرط أني إنما اختلست الساعات التي قضيتها في ترجمته اختلاسًا من
أوقات فراغي من عملي القضائي، وقد كانت هذه الأوقات كثيرة تسع أضعاف هذه
الترجمة لولا أني كنت كثيرَ الضّنِّ بها على صرفها فيما ينفع كغيري من الناس في
مصر.
كنت أحسب أن نشر الكتاب في المنار يكفي في تحقيق الانتفاع به , ولكني
رأيت كثيرًا من الإخوان الذين كانوا يوالون مطالعة ما كان ينشر منه فيها شديدي
الميل إلى رؤيته مطبوعًا على حِدَة , واتفق لي أن زرت صاحب الدولة الوزير
الجليل رياض باشا في شهر رمضان الماضي مع الأستاذ السيد محمد رشيد فألفيته
معجبًا بالترجمة أشدَّ الإعجاب حاثًّا على نشرها مجموعة؛ فكان كل هذا باعثًا لي
على نشره الآن جملةً واحدةً تعميمًا لفائدته وموافاة لرغائب الكثيرين ممن طالعوه
مُنَجّمًا.
وجُلُّ ما أبتغيه ممن أقدمه إليهم من إخواني قراء العربية أن لا يكون حظي
عندهم من عنائي في ترجمته إطراحه وإغفاله بل أرجو منهم أن يأخذوه بقوة ,
ويقبلوا على مطالعته بتأمل لقارنوا بيننا وبين غيرنا في العناية بتربية الناشئين ,
ويعلموا أين نحن مِن قوم هذه أفكارُهُم فيها حتى إذا آلمهم النقص الفاضح , وأخجلهم
التقصير الفاحش هبوا إلى مجاراة غيرهم من الأمم الراقية , وفكروا طويلاً في تربية
أبنائهم وتخيروا عن بصيرة , وعلم لا عن تقليد محض كل الطرق لإنشائهم أحرارًا
جامعين بين مَلَكَات العلم وفضائل الدين , ولن يتم لهم ذلك إلا بالإخلاص والصبر
ودوام الاشتغال، والله المستعان وبه الحول والقوة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز محمد
تحريرًا في ٢٥ المحرم سنة ١٣٢٦ - و٢٧ فبراير سنة ١٩٠٨.