للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهة وجوابها
ورد علينا رقيم من بعض قارئي جريدتنا، انتقد فيه صاحبه ما كتبناه في
شؤون الخلفاء وسيئاتهم وتقصيرهم في وظيفتهم الدينية، ونصحنا بأن لا نعود إلى
الخوض في مثل هذه المواضيع؛ لأن كتابتها في جريدة سيارة يطلع عليها الأجانب
وأعداؤنا وأعداء ديننا فيشمتون فينا ويتخذونها حجة علينا.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
أولهما: أن ما كتبناه في ذلك هو قطرة من بحار التاريخ الزاخرة عند أولئك
الأجانب أو الأعداء الذين يعنيهم المنتقد، فإذا سكتنا عنه فسكوتنا كتمان له عن أبناء
ملتنا الذين يجهله أكثرهم لإهمالهم علم التاريخ وظنهم أنه لا فائدة فيه إلا التسلية، بل
سمعت بعض الشيوخ الذين يدعون الفقه يقول: إن قراءة التاريخ مكروهة؛ لأن فيه
كذبًا. وتعليله هذا يقتضي أن قراءة أكثر كتب الحديث والتفسير مكروهة؛ لأن فيها
أحاديث موضوعة وضعيفة ومنكرة، وقصصًا كاذبة باطلة، بل لا يبعد أن يقال على
ذلك: إن قراءتها محرمة؛ لأن الكذب في تفسير كتاب الله تعالى، والاختلاق على
نبيه من أعظم الكبائر، لا يقاس بها الكذب في سيرة ملك أو حاكم أو خليفة أو عالم.
وفي كتب الفقه التي يشغل بها المتفقه المذكور كثير من الأقوال الباطلة التي لا
يصح العمل ولا الإفتاء بها، والصواب أن شوب الحق بشيء من الباطل لا يقتضي
ترك الحق، وإنما يقتضي النظر الدقيق والتمحيص ليخرج الحق من بين الأباطيل،
كما يخرج اللبن من فرث ودم خالصًا للشاربين. وإنما ذكرنا هذا لنبين لحضرة
المنتقد قول شيوخنا في التاريخ الذي هو من أشد المنفرات عنه، ليعلم مقدار حاجتنا
إلى استخراج فوائده وعرضها على أمتنا وإشعارهم أنهم لا يمكن لهم الوقوف على
حقيقة مرض الأمم إلا منها، ومن لم يعرف مرضه لا يسعى لعلاجه وإذا سعى فإن
سعيه يكون عبثًا وضلالاً، بل خيبة ونكالاً، وما مثلنا مع الأجانب الذين يرتأي
أصحاب الأفكار الضعيفة أن نستر ضعفنا عنهم بأسبابه ونتائجه إلا مثل النعامة التي
ترى الصياد يريد اقتناصها فتخبئ رأسها وتستره لكيلا تراه، توهمًا أن عماها عنه
يوجب عماه عنها، وأن ذلك عين النجاة، وحرام على من يجهل تاريخ الغابر وحالة
العصر الحاضر أن يقول: هذا شيء يضر الأمة، وهذا شيء ينفعها، وقد منينا
- والصبر بالله - بقوم جهلاء في ثياب علماء يغشون الأمة، ويغررون بها، توهمًا
أن كل من يقرأ تنازع العوامل في النحو يعلم تنازع الأمم، وكل من يعرف أحوال
تقديم المسند والمسند إليه وتأخيرهما يعرف أسباب تقدم الأمة وتأخرها، وكل من
تصدر للفتوى في مسائل الرضاع والطلاق وصحة الإجارة والسلم له أن يفتي في
صحة الشعوب من أمراضها، وإطلاقها من وثاقها، بل وقعنا في فوضوية الأفكار
والعلم، فصار كل فرد منا مِعنًّا مِفنًّا [١] ، ولا برهان يتوكأ عليه، ولا رئيس يرجع إليه.
سياسة السواد الأعظم منا اليوم هي كتمان الأمراض والسيئات، وإن انتهى
ذلك بالممات، وتكبير ما عساه يوجد من حسنة حتى تكون الحبة قبة والذرة جبلاً، بل
اختلاق الحسنات، والكذب فيها على الأحياء والأموات، لتسبح الأمة في بحر
الغرور إلى أن تهلك وتبور، وقد رأينا من سير الأمم الحية أن كتابها وخطباءها
يملأون الدنيا صراخًا وعويلاً إذا صدر من أمتهم سيئة، ويهولون أمر تلك السيئة بما
يزعجون به إلى إزالتها، وربما يخفون الحسنات، ولا سيما الاستعداد الحربي لما لا
يخفى من الأسباب.
(الوجه الثاني) : أن كل مما نكتبه في الانتقاد على خلفاء المسلمين وأمرائهم
وعلمائهم وأهل الطرق وجميع رجال الدين، غرضنا الأول به بيان براءة الدين
الإسلامي نفسه مما يرميه به أعداء المسلمين من الأوروبيين الذين يزعمون أن جميع
ما حل بهم من الضعف والضعة والظلم والاستبداد وفساد الأخلاق واختلال الأعمال
الذي يكاد يمحو سلطتهم من لوح البسيطة ويجعلهم أذل الشعوب وأفقرها - كل ذلك
ما حل بهم إلا بسبب دينهم، فهو الذي جر إليهم البلاء، وطوحهم في مهاوي الشقاء،
والحق أن هذا البلاء والشقاء ما جاءهم إلا من الانحراف عن الدين، وما كانت أمة
لتنحرف عن دينها دفعة واحدة، وإنما يكون ذلك بالتدريج، ينحرف الرؤساء
والأمراء فتؤوّل لهم العلماء - علماء السوء - فتتبعهم الدهماء، وهكذا كان شأن الذين
جاءوا من قبلنا واتبعنا سننهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، ولا يتم ذلك إلا بعدة
قرون.
لا ريب أن إظهار براءة الدين برمي أهله - رؤسائهم ومرءوسيهم - بالتقصير
فيه والميل عن هديه، هو أعظم خدمة له ولأهله، وإلا كان النقد بل النقض موجهًا
للأصل والفرع معًا، وما يعقلها إلا العالمون. ويدخل في تبرئة الدين مما ذكر بيان
أنه أساس للسعادة متين، لا يمكن أن يقوم صرح مجد أهله إلا عليه خلافًا لمن أعشى
أبصارهم شعاع مدنية أوروبا فرأوا أن التقليد الأعمى لها هو الذي ينهض بالأمة.
وهل زادنا هذا التقليد الأعمى إلا شقاء وتعاسة؟ هل نهضت أمم أوروبا إلا باستقلال
الفكر والإرادة، واتفاق الكلمة، والجد في العمل، والاعتماد على النفس في الأعمال
الكسبية، مع الاعتقاد بأنه لا قوة ولا سلطان وراء ما يحس به ويعلمه الناس إلا الله
تعالى وحده؟ وهذا عين ما جاء به القرآن وقرره الإسلام. واعترف بعض
المنصفين من علماء أوروبا وحكمائها بأن نشأة مدنيتها الحديثة إنما كان رشاشًا من
نور الإسلام فاض عليها من الأندلس بأيدي تلامذة ابن رشد الفيلسوف الإسلامي،
ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين في الغرب والشرق.
والغرض الآخر من انتقاداتنا: النصيحة لرؤسائنا اليوم أن يتداركوا ما فرط
من بعض سلفهم، ويصلحوا ما فسد من أمور أنفسهم، ويعطوا وظائفهم حقها
ويسيروا بالأمة في المنهاج الذي نهجه الله تعالى لها والله على ما نقول وكيل.