للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأمة العثمانية والدستور

إذا كان المنار لا يسع عشر معشار ما نعلم من أسباب هذا الانقلاب الذي حدث
في بلادنا ومقدماته ونتائجه وما نراه في أمر استفادة الشعوب العثمانية من الحرية
والدستور - فذلك لا يصدف بنا عن نشر بعض الآراء والأخبار التي تُذكِّر الكاتبين
في الصحف اليومية والأسبوعية ببعض ما ربما يذهلون عنه، وتُنَبّه القارئين إلى ما
ينفع التنبه له، وإنني أشير الآن إلى ثلاث مسائلَ هي أركان العبرة في هذا الباب:
(١) أول شيء يجب على المنار التنبيه إليه والتنويه به هو ما يؤيد خطته
في إقناع المسلمين بوجوب حسن المعاملة بينهم وبين من يعيش معهم من غير أهل
دينهم , وتعاون الجميع على ما يرقي البلاد ويرفع شأن الدولة، وفي رد طعن
الطاعنين في الإسلام بأنه دين تعصب وعدوان، وفي المسلمين بأنهم لا يلتئمون
مع أحد ممن لا يدين بدينهم، لا سِيَّمَا الذين يزعمون أن العلماء المُعُمَّمِين، هم الذين
يبثون الشقاق بين العالمين.
أؤيد هذه الخطة من الجهة الإيجابية والجهة السلبية بما ظهر للعالم أجمع من
أن عقلاء المسلمين هم الذين قاموا بهذا العمل الجليل للاتحاد والمساواة بينهم وبين
غيرهم، وأن شيخ الإسلام قد كان ومازال ركنهم الذين يلجأون إليه، وقطبهم الذي
يدورون حواليه.
إن أحرار المسلمين هم الذين بدءوا بدعوة الأحرار العثمانيين من النصارى
واليهود في مصر وأوربا وفي الولايات العثمانية إلى مشاركتهم في جهادهم، وهم
الذين أعلنوا هذا الجهاد ووطّنوا أنفسهم على قتال إخوانهم من الجند , إذا هم حاولوا
تأييد السلطة المستبدة، ثم إنهم بعد الظفر بالدستور قد كانوا هم السابقين إلى
مصافحة الأرمن والروم وغيرهم من الشعوب الموافقين لهم في العثمانية المخالفين
في الاعتقاد، وهم الذين رفعوا أصواتهم في كل مكان بأننا لا نجعل الدين مفرقًا بيننا
وبين إخواننا العثمانيين، بل نكون معهم كما أمرنا الإسلام بالقول المشهور فيه:
(لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ؛ بل منهم مَن بالغ في قوله وغلا في رأيه , فاستحسنوا
التنازل عن بعض حقوقنا إرضاءً لعاطفة بعض شعوبنا، كالذين يرون أن يجعل
جامع أيا صوفيا مجلسًا للمبعوثين، ويخرج عن كونه مسجدًا للمسلمين، وهم من
الترك الذين يذكرهم هذا الجامع بذلك الفتح المبين.
هذا ما فعله مسلمو العثمانيين مِن البدء في الدعوة إلى الاتفاق والعمل بها في
كثير من البلاد، وهذا ما ينبغي أن يفعله الباقون، فإن المسلمين هم العنصر الأكبر
والأقوى، فإذا هو علم أن الخير في الوفاق وعمل بذلك تبعه غيره بالضرورة , ولو
قام أحد الشعوب القليلة الضعيفة يدعو الشعب الكثير القوي إلى المساواة وهو غير
مقتنع بها لما كانت دعوته مجابة ولا مقبولة.
فأدعو المسلمين في جميع البلاد العثمانية إلى أن يكونوا هم البادئين بِبِرّ غيرهم
والاتفاق معهم واشتراك الجميع في الأعمال التي توثق الرابطة العثمانية وتعمر بها
البلاد التي يمتع بعمرانها الجميع، بهذا تتكون الأمة العثمانية، وتعتز الدولة العَلِيّة،
وبهذا يقطع المسلمون ألسنة القادحين فيهم من الأوربيين، ويكونون مهتدين في ذلك
بهدي الدين المبين.
أدعو إلى هذا مذكرًا بالاعتدال فيه، لئلا يفضي الغلو فيه إلى ضد ما يراد به،
بأن يعتقد الجمهور أن كرتهم بالدستور خاسرة، أو أنهم يعمرون الدنيا بخراب
الآخرة، فيحملهم ذلك على الشنآن، أو يدفعهم إلى العدوان، فعلى المرشد أن يكون
حكيمًا في نصحه، مراعيًا لاستعداد الأكثرين في هديه.
وأُذكّر الجميع بأن الطفرة مُحَالٌ، وأن ما يحصل بالتدريج يكون أولى بالبقاء
والثبات، فإذا ترك أحد الفريقين للآخر ما كان يراه حقًّا له، فلا يستعجل عليه
بطلب سائر ما يراه مِن الحقوق لنفسه، حتى التقاليد القديمة، والعادات الراسخة،
فإن المصلح في القوم لَيَدْعُو أبناءَ جِنْسِهِ ودِينِه ووطنه إلى ترْكِ بِدْعة مِن البدع أو
ضلالة من الضلالات، ويقيم على دعوته الحجج القيمة والآيات البيّنات، ثم لا
يستجيب له قومه إلا بالتدريج، وأرى أن من الحكمة في تلافي الشذوذ والتقصير،
أن يبادر العقلاء والصحافيون من كل أهل دين إلى انتقاد أهل دينهم ولو بالعنف،
والسكوت عن غيرهم أو الاعتذار عنهم ولو بالتأويل , هذا إذا كان الشذوذ صريحًا
في مناوأة أحد الفريقين الآخر، وإلا اتفق الجميع على انتقاد المسيء مِن حيثُ إنه
مسيءٌ، مِن غير ذِكْر لِدِينِهِ ومذهبه، ولا اتهام قومه بمشايعتهم له.
(٢) أنتقل بالقارئ من المسألة الدينية، إلى المسألة الجنسية، فقد كان
التعصب للجنس أشد خطرًا على الدولة من التعصب للدين، فإن الشقاق الديني إذا
كان يقدّ جِسم الأمة فيجعله نصفين، فإن الشقاق الجنسي يمزقه فيجعله أجزاءً كثيرة
ويصيب شره الجميع، فالمسلم التّركِيّ، يعادي المسلم العربِيّ، والنصرانيّ اليونانِيّ
يعادي النصرانيَّ البلغاريَّ، وعلى ذلك فَقِسْ.
لو بدأ بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية العربي أو الكردي أو الألباني أو
الأرمني أو الرومي أو البلغاري لَمَا سمعت للبادئ من هؤلاء دعوة , ولَمَا كان لها من
الوقع والتأثير عشر معشار ما كان لمجاهرة التركي بها؛ لأن الترك هم أصحاب
السلطة في الدولة فهم من هذه الجهة كالمسلمين من سائر الملل , فلما قال أحرارهم
هلُمّوا أيها العثمانيون نترك التعصب للجنس ونشترك بلقب واحد لا يقصد به امتياز
جنس على آخر لباهم الجميع حامدين شاكرين. فوجب أن نخصّ الجنس التركي
بالثناء الحسن قبل أن نتناسى أو ننسى أننا أجناس مختلفة. ولا بدع في جهر الترك
بذلك فإنهم كما صرحنا منذ بضع سنين أرقى العثمانيين تربيةً وتعليمًا، وأعلاهم أدبًا
وتهذيبًا.
(٣) بعد ذكر مسألتي الدين والجنس أذكر شيئًا من عمل الجمعية التي تلافت
ضررهما , وسعت مع غيرها لخير العثمانيين كافّةً. ينضم العثمانيون الأحرار إلى
هذه الجمعية - جمعية الاتحاد والترقي - ويعمل الجميع لحفظ الدستور الذي نالوه بعد
السعي الحثيث إليه حتى اندمجت الجمعيات فيها أو كادت، وتدامجت معها كما
أرادت، وإن هؤلاء الأحرار المتحدين في هذه الجمعية هم الذين يديرون نظام
المملكة الآن، وقد ظهر من كفاءتهم واعتدالهم ما جعلهم موضِعَ إعجاب الأمم والدول
الأوربية كما تنطق جرائدها بلغاتها المختلفة. وقد مرّ على إعلان الدستور شهر أو
أكثر ولم يبلغنا أن أحدًا انتقد على الجمعية عملاً من الأعمال أو أدبًا من الآداب على
أن أوربا تراقبها مراقبةَ الناقد البصير الذي لا يحابي ولا يداهن حتى قلنا: إن
(مجلس المبعوثين) لا يرجى أن يكون خيرًا منها في الإدارة والإصلاح، ولا أقرب
إلى العدل والإنصاف.
ينحصر عمل الجمعية الآن في ثلاثة مقاصد:
(١) تطهير الدولة ملكيتها وعسكريتها من المفسدين الذين ناط بهم الاستبداد
السابق أمورها.
(٢) تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوري.
(٣) تحسين الصلات بين الدولة العَلِيّة، وبين جميع الدول الأوربية، لا
سِيَّمَا ذوات السبق إلى الحرية كإنكلترا وفرنسا.
أما تطهير الحكومة من رجس أعمال الاستبداد السابق، فالمبادرة إليه من أهم
الضروريات قبل أن يجتمع مجلس المبعوثين وتلقي إليه الجمعية مقاليد السيطرة
والمراقبة، فإنه ليعجز أن يعمل في عِدّة سنين ما تعمله هي في هذه الأشهر التي
تتقدم اجتماعه كما يظهر لنا من الطريق السويّ الذي سارَتْ عليه في ذلك. فقد بدأت
بتطهير المابين والباب العالي ونظارة الحربية وأكثر الولايات في وقت واحد؛
فأخرجت من المابين رؤساءَ الفتنة والفساد , وعزلت السر عسكر رضا باشا وناظر
الداخلية ممدوح باشا , وسجنتهما مع تحسين باشا رئيس كتاب السلطان والشيخ أبي
الهدى أحد مستشاريه , وفَرَّ مِن رؤساء المابين عزّت باشا ونجيب باشا ملحمه
وسليم باشا ملحمه إلى أوربا. وأخرجت من المابين أكثر الحجاب والكتاب والخَدَم
وممثلي الروايات وأجواق المويسيقات من النساء , وحددت نفقات السلطان وراتبه
الشهري , ونفقات قصره وجعلت جميع بطانته من الأحرار أعضاء جمعية الاتحاد
والترقي , فآل الأمر إلى أن وضع هو على صدره شارة الجمعية , وقال: إنه
رئيسها.
وكثر العزل والنقل في المعسكرات , وهذا ضروري جدًّا؛ لتكون الجمعية
واثقةً من القوة التي هي سياج الدستور وعماد الأمن. وكذا في الدوائر الملكية. ولَمّا
رأى كثير من الخائنين أن إخوانهم في الفساد والتخريب يُعْزَلُونَ بادروا إلى الاستقالة
فكثرت بذلك الأعمال التي ليس لها الآن عمال، واختيار الأبدال عسر جدًّا مع
تحرّي الأَكْفَاء أصحاب النزاهة، فلذلك ترى أنه يجب على الجمعية أن تقبل من
عمال الاستبداد مَن لم يُعْرَفْ بالتجسس ولا بالرِّشْوَة، وإن كان ممن جروا على
مصانعة القوة، وأن تجري في ذلك على سنة التدريج فإن في العجلة مفاسدَ كثيرة.
وأما تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوريّ , ومقت الاستبداد فقد سارت الجمعية
فيها على الطريقة المثلى بتأسيس شُعَب لها في كل مدينة , يرتبطون باللجان العليا
في الآستانة وسلانيك وأوربا، وبحمل الشعب على المظاهرات وتجريئه على
الخُطَب الحماسية في تقبيح الحكومة السابقة حتى أفرط بعض الناس في ذلك إفراطًا
لا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ.
ثم إننا نرى بعين البصيرة ونسمع من أخبار البلاد أن كثيرًا من المنافقين
أعوان الاستبداد السابق ومُحِبّيه يتهافتون على الدخول في شعب الجمعية تعززًا
بالقوة واكتسابًا من السلطة، لا حُبًّا في الدستور وحِرْصًا على الحرية، ولكن قَلَّمَا
يرتقي هؤلاء بأنفسهم إلى أن يكونوا أعضاءً عاملين في الجمعية، كما صار يدعي
كل مَن كان يطعن في الدولة أنه مِن الأحرار طلاب الدستور. ونرجو أن يوفق
الأعضاء الصادقون إلى تمحيص شوائب هؤلاء الأوشاب , أو إلى محقهم وتزكية
الجمعية مِن نفاقهم.
هذا , وإن في البلاد نوعًا مِن جراثيم الفساد لم يبلغنا أن الجمعية قررت إزالته
على شدّة خطره على الحرية. ألا وهو عصابات الفساد من أشقياء الأهالي الذين
يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق , ويأوون إلى بعض الوجهاء
فينقذونهم من الحكام بالرشوة حتى بلغ من استهانتهم بالحكومة في بعض البلاد أن
زالت هيبتها من قلوبهم , وصاروا يأتون المنكرات على مَرْأًى مِن شرطتها وهم
آمنون مطمئنون، فيجب على الجمعية أن ترشد الحكام الأحرار الذين تقيمهم الآن
إلى تعقب هؤلاء الأشقياء وتربيتهم بالشدة التي لا يطمعون معها في عودتهم إلى مثل
ما كانوا عليه في أيام الحكومة السابقة , وإلاّ كانت فائدة الحرية للأشرار وغائلتها
على الأبرار.
وأما المقصد الثالث من مقاصد الجمعية , وهو موادة الدول الأوربية، فقد
كانت فيه أحزم وأحكم منها في سائر أعمالها الحسنة، ولا نرى فيه شائبة نذكر بها
إلا الاحتراس من جفوة ألمانيا والنمسا، والله الموفق؛ فنسأله حسن الختام.