للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


السنن والأحاديث النبوية
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة

رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*]
أنا لا أريد أن أناقش أخانا الفاضل العالم العامل الأستاذ الشيخ صالحًا اليافعي
في جميع ما كتبه ردًّا عَلَيَّ , فإن ذلك يؤدي إلى التطويل والتشويش وملل القارئين
وسآمتهم وضياع أوقاتهم وربما خرجنا بالتطويل عن الغرض، وتركنا الجوهر
وأكثرنا الكلام في العرض، فلذا آثرت أن أذكره بكلمات قليلة في الموضوع هي
تبصرة للمفكرين. وعبرة للناقدين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
٥٥) , وقبل البدء في هذه الكلمات أقدم له جزيل الشكر على غيرته على دينه ,
وعلى ما أبداه من الأدب العالي في جميع ما خطَّه قلمُه , وأسأل الله تعالى أن يكثر
بين المسلمين من أمثاله. وهذه هي الكلمات:
(الكلمة الأولى) - في تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ
في القرآن - قالوا: إن محمدًا قد بلغ من الدهاء مبلغًا بحيثُ صار يلعب بعقول
أصحابه , ويجعلهم يقبلون منه ما لا يُقْبَل من غيره , فكان يأتيهم بالآية من قرآنه ,
فإذا اتَّضَحَ له فيها عيب , أو سمع عليها انتقادًا في مغزاها , أو معناها أمر أصحابه
بإسقاطها من القرآن بدعوى أنها نسخت. وبلغ به الأمر أنه إذا كان ما في الآية من
الأحكام متفقًا مع هوى الأُمّة أو مصلحتها , ولكن كان في إنشائها شيء لم يرق له
بعد إذاعتها أسرع بنسخ لفظها دون معناها خوفًا من أن يوجد في العرب من يمكنه
أن يعارضها في بلاغتها. وإذا أتاهم بحكم واتضح له بعد تجربته أنه لم يَرْضِ
الناس أو أنه لا ينفعهم , أو قد يضر بمصلحتهم الْتَجَأَ إلى حيلته المشهورة، وهي
دعوى النسخ في الأحكام، وبذلك كثرت بين المسلمين الآيات المنسوخة لفظًا وحكمًا ,
أو لفظًا فقط , أو حُكْمًا فقط.
(قالوا) : ولا يدري أحد ما الحكمة في كل هذا التقلب والتلون سوى
التخلص مما كان يقع فيه من الورطات والغلطات، ولولا ذلك لما أمكنه التخلص
منها، وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من القرآن آيات كثيرة جاء ذكرها في
أحاديث المسلمين، وهي وإنْ كان أكثرها مما فقد بسبب إهماله في المحافظة على
قرآنه إلا أن المسلمين اعتذروا عن ذلك بدعوى النسخ , وقالوا تحكّمًا: إنها جميعًا
مما نسخ لفظه، وإن كان لا يمكنهم التعليل عن ذلك بعِلّة معقولة، ولا يمكنهم الإتيان
بحكمة لذلك مقبولة، على أن أكثر الروايات التي ذكرت فيها هذه الآيات صريحة
في أنها ضاعت من القرآن , ولم يَرِدْ فيها ذِكْرٌ للنسخ لا تصريحًا ولا تلميحًا، وما
بقي من القرآن الآن بعد كل هذا التصحيح والتنقيح تجد شططًا في كثير من أحكامه
فضلاً عما في عباراته من المتناقضات والاختلافات والمسائل الخاصّة بمحمد وأهل
بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه، كالآيات الكثيرة من سورة الأحزاب والتحريم
وكبعض آيات سورة الحجرات والمجادلة، فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ الآيات
التي أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فلماذا لم تنسخ ألفاظ أمثال هذه الآيات الواردة
في حالات خَاصَّة وفي وقائع خَاصَّة، وقد أدت وظيفتها وانقضى زمنها؟ وما حكمة
نسخ ألفاظ آية الرَّجْم مثلاً مع بقاء حكمها في شريعة المسلمين؟
هذا شيء من شبهات القوم على مسألة النسخ في القرآن، وقد قررناه هنا كما
يقررونه في كتبهم الطاعنة في الإسلام، ومنه ترى أن اعتمادهم فيها إنما هو على
روايات الآحاد التي يتمسك بها المسلمون , وعلى ما اتفق عليه جمهورهم من تسليم
مسألة النسخ والقول بها، وكان الأولى بعلمائهم الذين يقولون بالنسخ أن ينظروا في
أمثال هذه الشبهات نظرة تحقيق وتدقيق، ويردوها بالبرهان إن كانوا قادرين، بدل
أن يقوموا في وجهنا ويردّوا مذهبنا في هذه المسائل بما هو في الحقيقة طعن في
أصول الدين، وبمثابة تسليم سكاكين للخصم ليقطع بها منهم الوتين، فَحَسْبُنَا الله
ونعم الوكيل.
أنا لا أقول ذلك ليأخذ المسلمون برأيي بلا برهان، بل قد قدمت من البراهين
ما يقنع المنصفين، ويهدي المستهدين، وسأزيد الأمر قوة في الكلمات الآتية بما
سيكون إن شاء الله نافعًا للمؤمنين، هادمًا لجميع شبهات أعدائهم المخالفين.
(الكلمة الثانية) - في بيان أسباب نشوء مذهب النسخ بين جمهور المسلمين
وتواتره في جميع الأزمنة - اعلم أن من أسباب ذكره في عصر الصحابة أمورًا منها:
(١) كلامهم في نسخ الأحاديث والسنة، فقد كانت الأحاديث والسنن تنسخ
بأحاديث وسنن مثلها وتنسخ أيضًا بالقرآن الشريف، فالكلام في النسخ قديم بين
المسلمين، ونشأ منذ نشوء الشريعة الإسلامية.
(٢) ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستعملون لفظ النسخ في
القرآن بمعنى أوسع مما جرى عليه المتأخرون، فكانوا يريدون به تخصيص العامّ ,
وتقييد المطلق وتبيين المجمل؛ لأن من معاني النسخ الرفع، وفي كل ما تقدم رفع
لدلالة العام والمطلق والمجمل، فلذا تواتر بين المسلمين الكلام في نسخ القرآن كما
تواتر بينهم الكلام في نسخ السنة والأحاديث. أما رفع حكم الآية مطلقًا فقد دلّ
الاستقراء على عدم وجود شيء منه في القرآن كما بيناه في المقالات السابقة , ولم
يرد نصّ قاطع عن الرسول بشيء من ذلك , ولم يصرح به الكتاب العزيز , وإن
سلم أن بعض الصحابة قال به في بعض الآيات فهو مذهب له في فهمها , ولسنا
ملزمين بتقليد أي صحابي فيما فهم، ولذلك خالف جميع المفسرين ابن عباس وهو
أعلم الصحابة بالتفسير في كثير مما ذهب إليه فيه على أن أكثر الروايات المأثورة
عن الصحابة في التفسير موضوعة كما قال الإمام أحمد بن حنبل ونقله عنه
السيوطي في الإتقان، فلا يمكننا أن نعلم باليقين رأي الصحابة في أكثر الآيات التي
يحصل فيها هذا الخلاف.
على أنه قد نقل فيما صح عندهم من الروايات أن بعض الصحابة كان ينكر
النسخ في الآيات، بمعنى أن يبطل حكمها مطلقًا , أو أن تلغى فلا تتلى ولا يعمل بها،
كأبي بن كعب فإنه رضي الله عنه كان يقول: (إني لا أدع شيئًا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم) . يريد بذلك أنه لا يترك آيةً ما بدعوى أنها
منسوخة كما رواه البخاري في صحيحه، فالنسخ وإن أنكرناه بمعناه عند الخلف ,
فنحن لا ننكره ببعض معانيه كما عند السلف , ولا نرى عيبًا في تسميتهم
التخصيص والتقييد والتبيين نسخًا. فإن كان هناك اختلاف ما بين مثل أبي مسلم
الأصفهاني أحد منكري النسخ وبين الصحابة , فهو خلاف لفظي لا حقيقي كما لا
يخفى.
فمسألة النسخ هذه اختلف فيها المسلمون من عدة وجوه:
(١) في معانيها.
(٢) في الآيات المنسوخة، وقد أنكر الإمام الشوكاني وغيره النسخ إلا في
بضع آيات , وأنكره غيره في جميعها بمعناه عند المتأخرين كما هو مذهبنا.
(٣) في جواز نسخ القرآن بالسنة، وأنكره الإمام الشافعي رضي الله عنه،
فأنا بما قلته في هذه المسألة لم أكن بدعًا من المسلمين في شيء، فإن المسألة فيها
خلاف من عدة وجوه من العصر الأول إلى اليوم , وأكثر ما فيها من الخلاف هو في
الحقيقة لفظي , وإن كان لتقريرها على الوجه الذي ذهبنا إليه فيما كتبناه سابقًا تَندكّ
دعائم شبهات المخالفين لنا في الدين وتسقط حجتهم.
أما الروايات التي تفيد نسخ لفظ القرآن أو ضياع شيء منه فقد أنكرها كثير
من محققي أئمة المسلمين سلفًا وخلفًا , وأظهر بعضهم أن أكثرها من وضع الملاحدة
لتشكيك المؤمنين. وهي تنافي النصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم الصادق الأمين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) -
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (الكهف: ٢٧) , وهي لا تتفق مع ما علم بالتواتر من عناية المسلمين بكتابهم حفظًا
وكتابةً مِن عهد الرسول إلى اليوم، فهي إن لم تكن موضوعة من أعداء الإسلام
المنافقين لغش المسلمين وتشكيكهم في دينهم, فلا يبعد أن يكون الواضع لها من
بعض الفرق الإسلامية لتأييد مذهب لهم في مسألة ما , أو إثبات دعوى باطلة لا
يجدون لها سندًا من الكتاب المتواتر , فيختلقون الروايات , ويدّعون أنها كانت قرآنًا
ونسخ، وقد انطلت حيلتهم هذه على بسطاء المحدثين، كما انطلت عليهم في مسائِلَ
أخرى كثيرةٍ , يقف عليها من مَارَسَ علم الحديث؛ فاخترعوا من الأحاديث ما يؤيد
مذاهبهم ومزاعمهم. وقد يكون منشأ بعضها خطأ الراوي وعدم فهمه حقيقة بعض
المسائل , فيظن أن كل ما أوحي إلى النبي ولا يجده الآن في القرآن كان قرآنًا ونسخ
كحديث: (بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) , فوقع بسبب
ذلك في الغلط رواية ودرايةً، ولو علم أن من الوحي ما ليس بقرآن مطلقًا لما سمّاه
قرآنًا.
وإني لأَعْجَب من قبول بعض المسلمين ذلك منهم واستشهادهم على نسخ اللفظ
بآية: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: ٦-٧) مع أن مثل هذا
الاستثناء قد ورد - كما قرره الأستاذ الإمام - في القرآن لتأييد النفي، ولبيان أن لا
شيء في هذا الوجود يستعصي على مشيئة الله، فكأنه يقول: إنك لا تنسى أبدًا إلا
إن قضى الله بذلك، فلا رادّ لقضائه، ولكنه تعالى لا يقضي به كما وعد بذلك في
مثل الآيتين السابقتين. وقد ورد مثل هذا المعنى في آيات كثيرة في القرآن الشريف
كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود:
١٠٧) مع قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (النساء: ٥٧) {وَمَا هُم مِّنْهَا
بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: ٤٨) وغيره كثير.
((يتبع بمقال تالٍ))