للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين وصفي رضا


الصحف في البلاد العثمانية

لم تكد الاحتفالات تنتهي في عاصمة السلطنة وسائر بلادها، حتى طفق أهل
العلم والفضل يمدون الجرائد بآرائهم وأفكارهم، وانبرى الأديبات في الآستانة خاصة
للكتابة، بعد أن وقفن ذلك الموقف المشهود في الخطابة، فأكد لنا الخُبر الخَبر،
وهو ما كنا نسمعه عن الارتقاء الأدبي العظيم في الآستانة وغيرها من ولايات الدولة،
ولا مراء في أن هذا الانقلاب الأخير نتيجة ذلك الارتقاء الكبير.
تسابق الناس إلى طلب إنشاء الجرائد والمجلات، ولا سِيَّمَا في الآستانة،
حتى بلغ عدد ما أنشئ فيها وحدها حتى الآن مائتين وعشرين، ما بين جريدة ومجلة،
وقد صدر في بقية البلاد ما يقارب ذلك، ومن ذلك ثماني جرائد هزلية مصورة
رأيناها معتصمة بحبوة النزاهة والأدب، بعيدة عن المجون وسخيف الهزل، ولا
رَيْبَ في أن أعمال المرء هي مرآة لأخلاقه، ينطبع فيها ما يحمد وما يذم، وعسى
أن تكون هذه الجرائد الهزلية في مسلكها الأدبي قدوة لكثير من جرائدنا الكبرى التي
أصبحت مجموعة للشتائم والتفنن في أساليبها، حتى صار كثير من الأدباء يصدفون
عن قراءة الجرائد العربية.
رأيت في جريدة (قلم) إحدى الجرائد التي نوهت بها في صدر هذا المقال
رسمًا أثر فيّ تأثيرَا لم أعرفه منذ وُجدْتُ، أحدث في فؤادي اضطرابًا، وفي جسمي
رعدة عظيمة، وقشعريرة قوية الشكيمة، حتى كدت لا أملك نفسي على دفع البكاء،
ثم تلا ذلك انكماش وسكون، وفتور وذهول.
ذلك الرسم يمثل هيكلاً منتصبًا من العظام، يحكي رسوم علماء التشريح
(Physiologic) التي توضع للدلالة على أعضاء الإنسان، لا لما وضعه
صاحب الجريدة، وهو تلاوة العفو على هذا الهيكل من السلطان! يرى الرائي ذلك
الهيكل والأداهم والقيود مطوقة يديه ورجليه، كأنه من بقايا المغضوب عليهم من
نيرون العاتي الروماني، وأمامه رجل يتلو عليه نبأ العفو عن السياسيين! فكأن
الرسم يقول له: اغرب عني؛ فقد جئت بعد وقتك بزمان طويل، وما أكثر الذين
ذاقوا من وبال حكومة الظلم السابقة ما يجعل هذا الرسم ينطبق عليهم تمام الانطباق.
ورأيت رسمًا آخر يمثل سجينًا أخنت عليه السنون، وأذاقه الظُّلاَّم عذاب
الهون، فتبدلت خلقته، وتغيرت سحنته، وانسدل شعره على كتفيه، وملأت لحيته
صدره، وطالت أظفاره، حتى صدق عليه قول عنترة في الأسد: (له لبد أظفاره لم
تقلم) وما كانت حياة أبي الأحرار مدحت باشا في منفاه (قبر الأحياء) إلا كحياة
هذا السجين.
ظهرت الجرائد في حياتها الجديدة، فرأينا فيها المباحث المستفيضة في
السياسة والعمران والاجتماع، وكلها تدل على اختبار منشئيها، وَسَعَة علم كاتبيها،
وبُعْد غورهم في السياسة، وحسن أسلوبهم في استمالة الدول، ولا سِيَّمَا صديقتَيْ
دولتنا القديمتين، إنكلترا وفرنسا، حتى مالتا إلينا وقرظتا أحرارنا أحسن تقريظ،
وحتى أصبح أحد وزراء فرنسا من قبل يقول في خطبة له: (إن أحرار تركيا
أعظم من رجال الثورة في فرنسا) ، وناهيك صدور هذا القول من فرنسي، دع أنه
من مشهوري رجال السياسة؛ لأن الفرنسي يملأ ماضِغَيْهِ فخرًا برجال الثورة،
ويعترف بأنهم فوق كل البشر، بل أصبح ساسة الإنكليز يكتبون عنا مثل الفقرة
الآتية من مقالة لجريدة الدايلي تلغراف الكبرى: (وأكبر واجب على إنكلترا في
الحال الحاضرة، أن تساعد بكل قواها رجال الإصلاح في السلطنة العثمانية،
وتراقب مراقبة حبية عمل أية دولة تحاول بذر بذور الشقاق في البلقان , أو أي عمل
يراد به مناوأة رجال تركيا الفتاة في شئونهم) ، وإذا لم تجن من صداقتنا لهاتين
الدولتين الكبريين فائدة إلا صدهما لباقي الدول عن عرقلة مساعينا وإيقاف سير
أعمالنا، لكانت خير فائدة.
كانت الجرائد قبل هذا الانقلاب تكتب بغير أقلام أصحابها، وأريد بذلك أنها
كانت تكتب ما يراد منها من إطراء أعمال الحاكمين، وتقديس البغاة الظالمين، لا
ما تريد من المباحث التي تعود بالنفع والخير على البلاد والعباد، على أن كثيرًا من
أصحاب الجرائد كانوا مغبوطين بتلك الحال التي جعلتهم في مصافِّ الأغنياء
والعظماء - عظماءِ ذلك العصر المظلم، الذي كانت العظمة فيه عبارة عن الخيانة
والجاسوسية والوساطة بين الحاكمين والمحكومين لهم، بالرشى وأكل أموال الناس
بالباطل.
ولكن جرائد الآستانة كانت على شدة المراقبة والسيطرة عليها تكتب في شئون
الزراعة والصناعة والأدب، وما في معنى ذلك مما لا علاقة له بالسياسة كل مفيد،
أما جرائد سوريا وباقي الولايات، فكانت دون أخواتها في الآستانة في المباحث،
وأوغل منهن في تقديس السلطة الجائرة، والفئة الباغية الخاسرة، ثم لاتزال بعد
التمتع بالحرية متخلفة عنها بمراحل، فعسى أن تغذّ في سيرها، وتجتهد في إدراك
شأوها، فلا تضع نفسها منها موضع الظالع من الضليع، ورجاؤنا كبير في الذين
عقدوا النية على إنشاء جرائد جديدة في تحقيق الأمل كصديقنا الشيخ أحمد حسن
طبارة، الذي أصدر جريدته (الاتحاد العثماني) , وصديقنا عبد الغني أفندي
العريسي، فإنه عزم هو وحسن أفندي بيهم الشهير على إصدار جريدة يومية
سمياها (المفيد) وأذاع صديقانا جرجي أفندي يني، وأخوه صموئيل أفندي نشرة
ذكرا فيها أنهما سينشآن مجلة علمية أدبية سياسية، دَعَوَاها المباحثَ، فسرنا هذا
النبأ؛ لأن الكاتبين ضليعان بما انتدبا له.
استغرقت المباحث السياسية أقلام الكتاب، حتى يكاد من ينظر في جرائد
الآستانة، في هذه الآونة، لا يرى فيها مقالة أدبية أو بحثًّا اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا إلا
فيما ندر، وهم لم يتناولوا المرأة في بحثهم ألبتة، لذلك انبرت عاطفة جلال إحدى
فضليات بنات الآستانة , وكتبت مقالة تستنكر فيها ذلك، وقد بحثت في شأن المرأة
بحثًا مفيدًا، ودعت الكتاب إلى مشاركتها في موضوعها، نشرت المقالة في جريدة
(ثروت فنون) بعنوان (أليس لنا نصيب في الرقي) وترجمتها (الجريدة) بالعربية
وإننا ننقلها عنها بنصها، مع تصحيح قليل، قالت:
(نقرأ الجرائد، فلا نراها تكتب في المرأة إلا شذرات قليلة، وبعض مقالات
يكتبها بعض السيدات، فنستغرب من كتابنا تركهم للمباحث الجليلة في رقي المرأة،
على أنهم يكثرون من كتابة المقالات الضافية الذيول، الكبيرة الحواشي، في
إصلاح الحيوانات الأهلية، ونراهم حلقوا بأقلامهم في جو الصين واليابان، وما
فكروا قط في إصلاح أحوال المرأة، كأن المرأة في نظرهم لا تعد من الإنسان، أو
هي في درجة أقل من درجة الحيوان، أو كأن المرأة لاتزال في اعتبارهم معدودة
من الزينة غير المفيدة، أو من متاع البيت.
ترى حضرة المحرر الشهير، والكاتب البارع، مشناق بك يملأ أعمدة الجرائد
بالكتابة عن شركة البواخر، ولم نره يكتب عن إصلاح المرأة، كأن إصلاح المرأة
في نظره ليس له من الأهمية في الهيئة الاجتماعية ما لشركة السفن.
ينصح لي بعض الأعيان بأن أقرأ ثلاثًا، وأكتب واحدة! حبًا وكرامة، فإني
أقرأ خمسًا، وأكتب واحدة، وإذا أرادوا الزيادة، فلا أكتب شيئًا، وأقرأ عشرًا،
ولكن هل لهم أن يتفضلوا هم ويكتبوا فيغنوني عن الكتابة.
نحن نعد أنفسنا من بني الإنسان، ونطلب أن يكون لنا نصيب في الهيئة
الاجتماعية، ولقد سكت الكتاب العثمانيون عن البحث عن حقوقنا، مع أن الإنسانية
تقضي عليهم أن لا يسكتوا، وأن يطلبوا إصلاحنا قبل أن نطلبه نحن.
نحن نرى مباحث الصحف منحصرة إلى الآن في كيف تكون زينة المرأة،
كأن المرأة إذا ذكرت، لا يتبادر من ذكرها إلا أنها (ألعوبة مزينة) ولا يخطر على
بال الباحث في هاته الصحف أن المرأة كالرجل لها ما له وعليها ما عليه. فيجب أن
لا يقتصر الباحثون على زينة المرأة كلما أرادوا البحث في شأنها، ومن يقتصر
على ذلك يهين المرأة، ويجرح عواطفها. ونحن نريد أن نزين عقولنا قبل أن نزين
أجسادنا، وهذا لا يكون إلا بالتربية والتعليم، وفتح أبواب المدارس في وجوه
الفتيات.
اقترحت حضرة فاطمة هانم أفندي في مقالتها التي نشرتها (ثروت فنون) أن
تؤخذ سراي رضوان باشا، وتجعل مدرسة للبنات، وأما أنا فأرى أن تفتح مدرسة
للبنات حيثما كانت وكيفما وجدت. وقد استحسنت الكاتبة أن يتضمن بروجرام
المدرسة تعليم التطريز والأمور المنزلية، باللغتين التركية والإنكليزية، ورأيي أنه
متى كان التدريس جيّدًا مفيدًا، فليكن بأية لغة كانت. وإذا وفقت فاطمة هانم أفندي
إلى إنشاء هذه المدرسة، فلتعدني خادمة فيها، فإن لم أستطع أن أقوم بوظيفة التعليم
والتدريس، فإنني أكون من جملة المتعلمات، لأن في التعلم والتعليم خدمة للوطن،
وأؤكد أن بيننا من النساء من هي واسعة الاطلاع، عارفة بحاجات الأمة.
المرأة تمثل في الهيئة الاجتماعية نصف أدوار قصة الحياة، فلو عرف الكتاب
الكرام هذه الحقيقة، وأعطوها حقها من البحث، لقاموا بخدمة وطنية عظيمة،
وأظن أنهم إذا فعلوا ذلك بقيت عظمتهم الكتابية في المنزلة التي لا تمس بسوء، فهل
يرضى أولئك الكتاب أن يشتغلوا في كثير مما لا فائدة منه، وأنا وأمثالي من الفتيات
ننادي بإنشاء المدارس، ونحن لانزال في دور التحصيل؟ اهـ
فعسى أن نرى في فتياتنا من ينهجن نهج الكاتبة القويم، ويذهبن مذهبها في
وجوب التربية والتعليم.
وقد ورد في الأنباء الأخيرة أن مشيخة الإسلام أعلنت بأنها ستصدر جريدة
شبيهة بالرسمية، تنشر فيها مزايا الدين الإسلامي، ودحض التأويلات وبيان فسادها،
ورد الشبهات التي يرمى بها، هديًا للناس، ودفعًا للخرافات والأوهام، فسرنا هذا
النبأ كثيرًا الآن، مثل هذه الجريدة ستقطع ألسنة كثير من الحشويين والممخرقين،
وتقضي على التقليد والمقلدين، فتكون عونًا للمنار على تأييد مبادئه التي جاهر بها
منذ سنين.
... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا