للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


العمل [١]

لئن كان للطبيعة حق الأولوية في إحداث الثروة، سواء في أرضها الخصبة،
أو في أحراشها الكثيفة، أو في مناجمها الكثيرة المعادن، أو في مراعيها الغزيرة
الكلأ، أو في أنهارها المتدفقة بالخيرات، فإن المدار في استثمار كل ذلك على
العمل ولو قليلاً، فلا بُدَّ من فلح الأرض وبذر الحبوب قبل أن تجود الطبيعة بنعمائها،
وتبذل الأرض غلتها، ولا بُدَّ من احتفار المناجم قبل استخراج كنوزها، ولا بُدَّ
من جني الثمار قبل التمتع بلذيذ طعمها. فالعمل ضروري للعمران، ولازم لكل
موجود، وهو للموارد الطبيعية التي هي ينابيع الثروة بمثابة الدلو من البئر، إذ
لولاه ما قدر أحد على الاغتراف منها.
وقد وفى الدين العمل قسطه من المدح، حيث حثّ على التمسك به، فقال عز
وجل في سورة مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم: ٢٥-٢٦) وهو أمر به؛ لأنه إذا كان جلّ شأْنُه
يأمر السيدة مريم، وهي في وقت المخاض، بهزّ جذع النخلة قبل أن يتساقط عليها
التمر، مع أنه قادر على أن يكفيها مئونة ذلك التعب، فمن البديهي أنه يأمر كل فرد
من أفراد الهيئة الاجتماعية بالسعي في تحصيل رزقه، ولا سِيَّمَا إذا كان صحيح
الجسم. وقال تعالى في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ: ١٠-١١) أي وقتًا يلزم فيه السعي لتحصيل العيش وترقب الرزق بالعمل،
وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: ١٠) وهو أمر بوجوب جوب البلاد، والضرب في طولها وعرضها
رغبةً في العمل والانتفاع بما خلق جلت عظمته من الخيرات، وقال: {فَابْتَغُوا
عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} (العنكبوت: ١٧) أي: اعملوا حتى تحصلوا على ما يقوم
بضروراتكم، وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:
١٥) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) وكان النبي
صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شابّ ذي جلد وقوة،
وقد بكر يسعى، فقالوا: وَيْحَ هذا! لو كان شبابه وجلده في سبيل الله، فقال النبي:
(لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه لِيكفيَها المسألة ويغنيها عن الناس،
فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم
ويكفيهم، فهو في سبيل الله) وقال: (احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا) وقال:
(لأَنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله
فيسأله أعطاه أو منعه) وقال: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل
يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري، وهكذا فضل النبي
العمل في أية حرفة على الاستنامة إلى الكسل، وإراقة ماء الوجه في الطلب. وجاء
في الإنجيل ما معناه: (تأكل خبزك بعرق جبينك) , وهو حث على العمل طلبًا
للارتزاق. وروي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً فقال ما تصنع؟
قال: أتعبّد، قال ومن يعولك؟ قال أخي، قال: أخوك أعبد منك. وقال عمر بن
الخطاب: (ما مِن موطن يأتيني الموتُ فيه أحب إليّ مِن موطن أتسوق فيه لأهلي
أبيع وأشتري) , وقال: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق , ويقول: اللهم ارزقني،
فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة) ، وقيل للإمام أحمد: ما تقول فيمن
جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد:
(هذا رجل جهل العلم، أما سمِع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل
رزقي تحت ظل رمحي) . وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال: (تغدو
خماصًا وتروح بطانًا) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق.
هكذا يحث الدين على العمل ويرغب فيه مراعاة لتقدم العمران، ومحافظة
على النوع الإنساني من الفَنَاء، ومن ذلك تظهر حطة أولئك الذين يرون التوسل
وسيلة للارتزاق، والتسول حرفةً للعيش، أولئك الذين لم يعرفوا مَزِيّة العمل
وعلاقته بالسعادة، ففضلوا مدّ أيديهم للسؤال على مدها للعمل، واستسهلوا أن يكونوا
كالكلاب تأكل كل ما يلقى إليها، أولئك هم الذين يحل الشقاء بالبلد الذي يحلون فيه،
فهم يستنفدون ثروته، ويستنزفون خيراته، بدون أن يسعوا في إحداثها.
العمل هو أساس الثروة، فكيف ينتظر النجاح بدونه، وهو دعامة كل ما نراه
في العالم مِن التقدم في المدنية. ما رأينا بلدًا تمسك أهله بأهداب العمل إلا وتحولت
فيه الصحاري القفراء إلى حدائقَ غَنّاء، وجادت الأرض بكنوزها، وانْسَابَ الذهب
إلى جيوب أهلها. لولاه لم يَصِرِ الترابُ تِبْرًا، وتتبدل المفاوز بمعاهد للعلوم،
ومعابد للنسك، ومعامل للصناعة. لولاه ما ضحكت الأرض من بكاء السماء، ولا
ابتسمت الأزهار في الأكمام، ولا حملت الأشجار لذيذ الثمار من كل زوجين اثنين؛
إذ إنه لا بُدَّ من غرسها قبل أن تصير دانية ظلالها، مذللة قطوفها، ولا غنى عن
تعهدها قبل أن تترعرع أغصانها، وتصير دوحة تناطح السحاب. لولاه ما استنبط
الإنسان الوسائل التي يسخر بها القوى الطبيعية، ويتغلب على الصعاب، ويقرب
المسافات بالبخار والكهرباء، ويجعل كليهما رهين إشارته. لولاه ما أخذت الأرض
زخرفها، وبلغت من المدنية غايتها، وبدت آثار العمران في أنحائها، وصارت
معمورة، يتزايد سكانها في كل عام، وتتضاعف ثروتها آنًا فآنًا.
من ينكر فضل العمل في إحداث الثروة، فليرجع ببصره الكَرّة إلى (أستراليا)
في الماضي يجدها في آخر درجة من الانحطاط، لخمول سكانها الأصليين،
وكثرة اتِّكَالهم على الموارد الطبيعية، ويشاهدها الآن، وقد نالت من العمران حظًّا
وافرًا، وجرت في المدنية شوطًا بعيدًا. ذلك لأن قومًا عرفوا مَزِيّة العمران
استوطنوها، فنهلوا من تلك الموارد، وعملوا في بَرّها وبَحْرها، واحتفروا المناجم
واستخرجوا كنوزًا دفنتها الأرض في بطنها أجيالاً، وحافظت عليها لمن يُقِّدُر العمل
حقَّ قدره. فطبيعة تلك البلاد لم تتغير، وإنما تغير سكانها. بل ما لنا وللتمثيل
بأستراليا، وأمامنا شبه جزيرة العرب التي كانت محطّ رحال المدنية، ومهبط العلوم
والعرفان، ومصدر العمران، ما لها قد عفت آثار مدنيتها، ودالت دولة ملوكها،
واندرست معالم علومها، واندثرت معارفها، وصار ذلك المجد القديم، والسؤدد
الماضي، أشبه بحلم حالم! ! ؟ أليس السبب هو أن ذلك السلف الصالح خلف مِن
بعدهم خلفٌ أضاعوا الجد الموروث، وأهملوا العمل، وتمسكوا بأذيال الكسل، حتى
صاروا قديمًا في عالم جديد {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (الكهف: ١٨) .
كان (كسناي) وأضرابه يعتبرون الأرض الوسيلة الوحيدة لإحداث الثروة،
ويبخسون العمل حقه في الإحداث، وذلك زعم صحيح من جهة أن الأرض ينبوع
المواد التي تقوم بها الصناعة، فلا يقدر الصانع على نسج ثوب بدون قطن،
ويستحيل عليه صناعة آلة حديدية بدون حديد، ولكن (كسناي) بخس العامل حقه،
وأنكر عليه تحويله الحديد من شكله الطبيعي، حيث لا ينتفع به، إلى شكل يصير
بواسطته آلة بخارية يتهافت الناس على ابتياعها. أنكر على العالم الكيماوي تركيبه
لدواء فيه شفاء للناس من مواد طبيعية لا تفيد كثيرًا، وهذا ما لا ترضاه العدالة،
على أنه بعد (كسناي) كما قدمنا أتيح للعمل أن يأخذ (آدم سميث) بناصره،
ويظهر فضله، ويطنب في مدحه، ومن ثم أخذ مقامه في الصعود، ونجمه في
السعود، حتى لقد قال فيه العلامة (جيد) : إنه هو الجدير دون غيره أن يكون
الوسيلة في إحداث الثروة حقيقة؛ إذ الإنسان هو المنتج الحقيقي لها، وما الطبيعة
إلا طوع إرادته، يحركها كيف شاءت تلك الإرادة.
* * *
أ- أدوار العمل
(عصر الصيد)
في ذلك العصر كان الإنسان قليل العمل، كثير الاعتماد على الطبيعة، يعيش
من صيد البر أو البحر، وكان رحالاً كالأنعام السائمة، يسكن البقاع الكثيرة القنص،
كما تأوي هذه إلى المروج الغزيرة الكلأ، ويلقي عصا الترحال إذا قل الصيد، كما
تفعل هي إذا غيض الماء أو جفت المراعي. وقد كان في ذلك الدور مهددًا بخطرين:
الوحوش الكاسرة، والمجاعات المهلكة، لقلة ادخاره، لما يقتات به في إعساره،
فالويل له إذا أصابه مرض أقعده عن الصيد، أو انتابه حر أو برد منعه عن مطاردة
فريسته، والويل له إذا كان ضعيف النكاية أعداءه (كذا في الأصل) الذين يداهمونه
لسلب ما اقتنصه. وكان عدم ادخاره راجعًا إلى أسباب كثيرة، منها عدم احترام
الحقوق، فكان حقه مزعزعًا لا يقدر هو على حمايته، وليس هناك حكومة تدافع
عنه، ومنها عدم وجود مسكن له أو ذرية في أغلب الأحيان، ولذا لم يوجد عنده ما
يدعوه إلى الاحتفاظ بالقوت تحرزًا للمستقبل.
* * *
(عصر الرعاية)
ولما رأى نفسه معرضًا للمجاعات القتالة التي كانت تجتاحه من وقت إلى آخر،
ورأى أنه ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده، توجهت همته إلى تدجين الحيوانات
النافرة كالإبل والخيل والغنم وغيرها، مما كان لا ينتفع به كثيرًا. ووجد من أهله
وذويه من يساعده على رعي تلك الإبل والغنم في الوديان والمروج الفسيحة التي
تحيط به، والانتقال بها من مكان إلى آخر. وفي ذلك العصر ازداد عدد الناس عما
كانوا عليه، وتألفت منهم قبائل كثيرة كانت ثروة كل واحدة منهن تقدر بعدد رءوس
الإبل أو الغنم التي تملكها، كما كانت الحال عند العرب والتركمان، وكما هي الآن
عند العرب الرحالة والزط. ويمكننا أن نعزو كثرة عدد الناس إلى سببين:
(الأول) كثرة نتاج الحيوانات التي كانوا يربونها حتى صاروا في سَعَة من
العيش، فكانوا ينتفعون بألبانها وأوبارها ولحومها وجلودها، حتى قلت المجاعات
بينهم.
(الثاني) ازدياد العصبية في كل واحدة من تلك القبائل، مما جعل حق
الملكية مضمونًا نوع ضمان، وحبب إلى كل فرد اقتناء الحيوانات فزادت الثروة
وزاد العدد.
* * *
(عصر الزراعة)
وكانت النتيجة الطبيعية لزيادة عدد السكان هي الازدحام على المراعي
بالحيوانات، مما جعل حشائشها التي غرستها يد الطبيعة غير كافية لسد الحاجة،
فعمد الناس إلى معالجة الزراعة من إثارة الأرض، وبذر الحبوب فيها وتعهدها
بالسقي، حتى نبت ما يكفي لمئونتهم ولأنعامهم. واستخدموا في الزراعة كثيرًا من
تلك الحيوانات، ومن ذلك العصر ظهر العمل بمظهر أجلى، إذ لم يعد الإنسان
مُفوِّضًا كلَّ أموره للطبيعة، يأوي حيث نبتت حشائشها، ويرحل إذا جفت خيراتها،
بل أخذ يُعوِّل على مِعْوَله، فيحول به الأرض المجدبة إلى مزارع كثيرة الخيرات،
وانبنى على رغد عيشه تقدم عظيم في أحواله الأدبية، فنظم معيشته وظهرت
الحكومات لأول مرة بالمعنى الذي نراها به الآن، ولا حاجة بنا إلى القول: إن
معظم الأمم المتمدينة في الزمن الماضي كانت تعالج الزراعة في أول أمرها قبل أن
ترسخ قدمها في المدنية. والسبب في ذلك بساطة الزراعة، وعدم احتياجها إلى كثير
تفكير أو كبير عناء، على أن تلك الأمم نفسها وَجَّهَتْ همتها بعد أن تم لها
الأمر إلى استجادة الصنائع على اختلاف أنواعها.
* * *
(عصر الصناعة)
الصناعة أثر من آثار المدنية، تتوجه الهمم إليها عند بزوغ شمسها، وتستجاد
إذا زخر بحر العمران، والسبب في ذلك راجع إلى أمرين:
(الأول) أن الإنسان لا تتوق نفسه إلى الكماليات، كالصناعات المختلفة،
إلا بعد تحصيل الضروري من مأكل وملبس.
(الثاني) هو أن معظم الصناعات المختلفة تحتاج إلى الممارسة والتعليم،
وهما لا يوجدان في وسط الأمم المتوحشة، ومن الصنائع ما هو مقدم، كصناعة
النجارة والحدادة والبناء والخياطة؛ لأن منفعتها ظاهرة لبناء المسكن وعمل الملبس،
ولذا توجد أحيانًا بحالة ساذجة، ومنها ما لا يوجد في الأمة إلا إذا تفننت وتنوعت
أساليب مدنيتها، كصناعة الرسم وصناعة الطباعة وتجليد الكتب [٢] ، وكلما علا
كعب الأمة في العمران ابتدعت الصنائع المختلفة، واستنبطت الاختراعات المفيدة،
وارتقت فيها الأعمال العقلية الضرورية للصنائع، كالتعليم والتأليف.
* * *
(عصر استخدام البخار)
على أنه مهما يكن من تقدم الصناعة عند بعض الأمم في الأحقاب الغابرة،
فإن اختراع البخار في القرن الماضي، جعل صناعة الزمن الحاضر متقنة، وصار
العامل بدل أن يستغرق وقتًا طويلاً في الصناعة، يدير الآلة البخارية فتكفيه مئونة
التعب.
* * *
ب- الأعمال العقلية
ولا مشاحَّة في أن عمل الإنسان في الأدوار التي تقدمت لم يكن يدويًّا محضًا،
بل لا بُدَّ له من أعمال عقلية ولو قليلة، لأنه لا ينتظر أن يصنع الإنسان عدة للصيد
أو آلة لفلح الأرض أو يبذر الحبوب، إلا بعد التفكير الذي هو المميز للإنسان من
الحيوان، ولا يتصور أن يستوعب الصنائع إلا بعد أن يعرف دقائقها من المعلم،
ويتعلم العلوم المرتبطة بها، ثم هو لا يقدر على تعهد الأرض ما لم يوجد هناك حاكم
يمنع عنه تعدي الغير، ومهندس يسهل له الري، ولم ينتفع بالآلات البخارية في
الزراعة والصناعة إلا بعد أن أجهد المخترعون (كجيمس وات) وغيره قرائحهم
حتى وصلوا إلى استخدام البخار، فالأعمال العقلية ضرورية للأعمال اليدوية،
كالزراعة والصناعة، وهي مقدمة عليها حتى في أحقر الصنائع.
* * *
ج- الأعمال المنتجة للثروة
اختلفت الآراء من عصر إلى آخر في تحديد الأعمال البشرية التي تكون
نتيجتها زيادة ثروة الأمم، أما العرب فكانوا يرون - كما يؤخذ من كلام الحريري
وغيره من الحكماء - أن المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة، وقد قال الخليفة
المأمون: (الناس أربعة: ذو سيادة أو صناعة، أو تجارة أو زراعة، فمن لم يكن
منهم كان عيالاً عليهم) , ويفهم من ذلك أن تلك الأعمال الأربعة هي التي كانت
معتبرة مُحْدِثَة للثروة، بمعنى أن عمل الحاكم الذي يقي البلاد شر العدو، ويرد
المظالم، وينظم الري، هو عمل يزيد في الثروة، وكذلك عمل الصانع الذي يوجد
منافع للمواد الأولية، والتاجر الذي يتوسط في جلب تلك المصنوعات وتسليمها
لطالبيها، والزارع الذي يقوم بإثارة الأرض وبذر الحب فيها حتى تنبت ما يسد
الحاجة، وأما أعمال غيرهم فلم تكن محدثة للثروة، وأما الطبيعيون، وهم (كسناي)
ومن كان على مذهبه، فقد تقدم أنهم كانوا يعتبرون أن المحدث للثروة من الأعمال
ما كانت متعلقة بالأرض من إثارتها وحرثها وبذر الحبوب فيها، وبناء على ذلك
قسموا الناس إلى ثلاث طبقات: طبقة ملاك الأراضي، وهم المحدثون للثروة حقيقة؛
وطبقة الفلاحين، وهم الذين يساعدون على هذا الإحداث، وغيرهم من السكان،
كذوي الإمارة وذوي التجارة وذوي الصناعة، وكانوا يرون هؤلاء عيالاً على
الطبقتين الأُولَيَيْنِ. ولكن (آدم سميث) لم يَنْحْ نَحْوَ أولئك الاقتصاديين، فقد اعتبر
الصناعة والتجارة والإمارة من الأعمال المنتجة للثروة، وتبعه من أتى بعده من
الاقتصاديين.
ويمكننا أن نقسم الأعمال (أولاً) إلى ما هي مباشرة لإعداد سلعة من السلع
للقيام بسد حاجة من حاجات الإنسان، وهذه محدثة للثروة بلا خلاف، مثال ذلك
العمل الذي يتكبده كل من حارث الأرض وباذر القمح وحاصده ودارسه وطاحنه
وعاجنه وخابزه، لأن كلاًّ منها موجه إلى إعداد الخبز مباشرة، وإن تنوعت حالات
القمح المراد جعله خبزًا؛ (ثانيًا) إلى غير مباشرة لإعداد الصِّنْف، وهذه إمّا يدوية
أو عقلية، أما الأولى فلا يخلو حالها من أحد أمور خمسة:
(أ) الأعمال التي يتكبدها الناس في استخراج المواد الأولية اللازمة
للصناعة، كاحتفار المناجم وتشذيب الأشجار وغير ذلك، وهذه بالطبع منتجة
مادامت نتيجتها تستخدم في الصناعة.
(ب) الأعمال التي تصرف في إعداد الآلات اللازمة لصناعة الصنف،
مثال ذلك شغل الحداد في تجهيز المحراث أو آلة الغزل.
(ج) الأعمال التي يكون من شأنها بناء المحلات المعدة للصناعة كالمعامل
والأحواض، وهكذا لأنه لولا تلك المحال لما توفر إعداد البضائع القطنية مثلاً أو
المراكب.
(د) ما يوجه من الأعمال إلى الحصول على طعام وكساء ولوازم للصناع
مادامت تلك الحاجات غير خارجة عن حدّ الكفاية، أو للحصول على الفحم اللازم
لتسيير الآلات البخارية في حالة ما إذا كان الصانع لا يشتغل بيده.
(هـ) الأعمال التي بواسطتها يمكن نقل الصنف إلى حيث يطلبه الناس،
ويدخل فيها عمل الحمالين في البر وصناعة المراكب والآلات البخارية , وبناء
الأحواض والأرصفة , وأعمال أمناء النقل والمراكبية , وجميع التجار والمتسببين
والسماسرة , والأعمال التي تحسنت بواسطتها الطرقات وغير ذلك.
أما العقلية فمنها ما هو متعلق بالصناعة أو الزراعة أو التجارة؛ كالاختراع ,
والتأليف , وتعليم الصناعات , والتفنن في ابتداعها وترويجها، ولا شكَّ في أن هذه
منتجة، ولا فرْقَ بين أن تكون هذه موجهة إلى الزراعة أو الصناعة أو التجارة،
ويدخل تحت هذه أعمال الري على اختلاف أنواعها، وجميع ما تعمله الحكومة أو
الأهالي لترقية الصناعة أو التجارة أو الزراعة، ولا جُنَاحَ علينا إذا نحن عَدَدْنَا
ضمن تلك الأعمال، ما يبذله الفلاسفة والحكماء من الأفكار لتعضيد الحالة
الاقتصادية والاجتماعية، وما تبذله الحكومة مِن بثّ العدل في الربوع، والمحافظة
على الأمن، سواء بِسَنِّ القوانين أو الأعمال الحربية بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً.